يسقط وعد بلفور.. يسقط واحد من فوق/ عبد الحميد عبود

رأيت بدل المظاهرة مظاهرتين، إحداهما سوريّة ضد بشار أسد، والأخرى ليبية ضد معمر قذافي، وكل جماعة ترطن بلهجتها وفق منطق إقليمي صارم. مشهد مكوَّن من مشهدين ويتجاوز السوريالية إلى السورياليبية

يسقط وعد بلفور.. يسقط واحد من فوق/ عبد الحميد عبود

متظاهر يمني يطالب برحيل الرئيس، 11 نيسان 2011- تصوير: محمد حوايس- أ.ف.ب.


|عبد الحميد عبود|

أعترف بأني لم أتظاهر في حياتي، ولم أتبرع بدمي أبدا، ولم أتلفع البتّة بكوفية مرقطة. أنا فلسطيني من بقايا عهد الأبوات ومع ذلك “القضية” لم تكن يوما قضيتي (القضية هي فلسطين ولا أذكرها من باب عدم ذكر الشي المعروف بالضرورة). التزمت بنفسي فقط، وعشت دائمًا خارج السرب: إنساناً أولا وعربياً بالصدفة. وأعترف بإني عاجز عن تمييز علم بلدي من علم الأردن والإمارات والكويت والسودان، لكن كان هذا فيما مضى- حقبة ما قبل البوعزيزي.

الآن أنا عربي جدا جدا، عربي أولا وإنسان بالصدفة؛ المارد خرج من القمم، شبِّيك لبّيكْ، الفايس بوك بين يديك، كل شيء تغير، تراكم الكمية أدى إلى تحولات كيفية، الثابت الوحيد في المعادلة هو اللاثبات، الحلم يأخذ شكلا ونكهةً عربية، الحرية هي وعي الضرورة كما يقال، والحدُّ الأقصى من نكران الذات مرفوقا بجرعة أكبر من النضج التكتيكي.

أنا أيضا تغيرت، هجرت النرجيلة ولعب الكوتشينة ومباريات الريال والبارصا، شهادة بوعزيزي أيقظت النخوة في الكسالى الأغبياء والبليدين من أمثالي، أصبحت أجيد الكلام الطليعي في التكتيك والاستراتيجية وأميِّز التناقض الرئيسي من الثانوي، وأتابع أخبار ” الجزيرة” على مدار الساعة، وأطالع يومية “الأهرام” يوميا، يا غارة الله! تخيلوا، البرافدا المصرية، الجورنال إياه الذي كان يبرْوِزْ على صفحته الأولى صور الفراعنة الثلاثة الأب والأم والإبن، وكان يكذب حتى في نشرة الأحوال الجوية، قلت لكم ولم تصدقوني، تغيرنا كلنا، حتى الكتبجية ابراهيم نافع وأنيس منصور ومرسي عطالله، تثورجوا مع الثورجية، لبسوا السترة على القفا وركبوا الموجة قبل أن تركبهم.

الإنسان ابن وقته ومرحلته، والحقيقة هي القدرة على اعتناق كل شيء من جديد، القلب ينبض من جديد، هذه بداية جيده على نحو ما، وجدان عربي مشترك في طور التكوين، وسائر نحو انسانية أكمل، وفي صيرورة تاريخية صائرة نحو فجر صادق، الحرية، موعدنا وأرضُ ميعادنا، وأستطيع أن بأجزم أننا نحن بني يعرب (باستثناء الخليجيين المبرمجين على الرضوخ لولي الأمر) سنكون أحرارا في القريب العاجل. بوعزيزي بموته الخلاصي أعلن النفير العام، ثمة ثورة أخرى وأكثر بانتظارنا، لسنا أنصاف رجال ولا موجيك ولا كمالة عدد، ولا أقل من الفيليبين والأوكران، لكننا أقوى من الطغاة ومن القياصرة العتاة. نحن الشعب بالمعنى العربي للكلمة، حنظلة الحفيان، أيوب الصابر، العبيد للجنجويد، الذمي، القبطي، الحريم الماكثات في الحرملك، القراصنة الصوماليون، الجنوبيون وأبناء المدن الطرفية، البدون، روافض المنطقة الشرقية وعموم جمهور البحرين، الطوارق والغجر وأبناء المخيمات وظفار وعدن، مواطنو الدرجة الثانية والثالثة، سَكَنَة الأكواخ والبراريك، الغلابة العواطلجية والحراطين والهمشرية، أكراد القامشلي، أبناء المغرب غير النافع، الزوالي الحراقة الحيطيست، مواليد برج الثور ومكتومو القيد، الباريا المنبوذون، المخوزقون على الخازوق: نحن أيضا سنمارس حقنا في إضرام النار، سنشعلها في حقول النفط، في قصور الرئاسة وفي مرفأ اليخوت الفخمة وحدائق الغولف؛ سنحرق الأخضر واليابس، ونحرق ولي العهد في المهد، ونحرق ببغاء ولي العهد، شرارةً حطباً لهباً ناراً نيرانا أنواراً.

ثمة محارق أخرى بانتظارنا ورؤوس عفنة، مبارك يلفظ أنفاسهم كلهم، لم تسقط كل أحجار الدومينو 23-2 = 21، المسيرة في بدايتها، الطريق طويلة والتاريخ لا يرحم، برج الثور(ة) في صحيفة الاهرام هذا اليوم يقول: “ليس ثمة شيء سهل ولا شيء مكتسب سلفا، هذا أوانها، الآن الآن وليس غدًا، الآن الآن او أبدا، الثورة كالثمرة لا تسقط بالفم وعليك أن تسعى”.

بدأت أحس بأنني ملتزم بغير نفسي، عشيرة عدنان وقحطان؛ لم تعد عروبتي شبهةً بل انتماءً، وصرت أجرؤ على قراءة “الأهرام” في مترو باريز من دون خجل من أعين الفرنسيين

وبالنسبة لي -أنا المقيم في باريس- تبقى الكلمة سلاحي الوحيد ولكن لا أحد ينشر مقالاتي فأنا من الممنوعين من الصرف بالنسبة لجرائد تعتاش من النفط الذي أطالب بحرقه. إذًا، يبقى التظاهر، وهو أضعف الإيمان، ولا يضير أنّ الجموع تفرغ الفرد من فرديته وتصهره في سياقها بالإنخراط الجبريّ الأعمى. بدأت أحس بأنني ملتزم بغير نفسي، عشيرة عدنان وقحطان؛ لم تعد عروبتي شبهةً بل انتماءً، وصرت أجرؤ على قراءة “الأهرام” في مترو باريز من دون خجل من أعين الفرنسيين المتوجسة من لغتنا المكتوبة من اليمين لليسار. ليذهبوا إلى الجحيم هم ولغتهم التي تكتب بالعكس، أليست لغة الضاد هي كلام أهل الجنة التي لا أؤمن بها؟ لماذا يحق للانكليزي أن يكون انكليزيا، وللفرنسي أن يكون فرنسيا ولا يحق للعربي ان يكون عربيا؟

تغيرتُ، لم أتردّد ولم أتأخّر، أنا دائما في حالة رفض، ولديَّ دائما مبرراتي، كيف أستطيع أن أفهمكم ذلك؟ معطيات جديدة اقتحمت حياتي، الأهرام وصفحة الأبراج الفلكية، برج الثور والثورة، وسأسعى بكل ما أوتيت من قوة للسّعي، سأشعلها شعْلَلَة، أنا زاباتا سبارتاكوس، حمدان القرمطي، الحسن الصباح، الثورة زرعت فيِّ قلقها وحاجتها للحماسات المشتركة. سأرقصُ حتى الأفول، وأغني الأُغنِيَات الرَّائِعَةُ “سلاما لليمن والبحرين والثورة والثوّار”. أريد لحنجرتي أن تملأ الدنيا ضجيجاً، أريد أن أهتف حتى تصير هتافاتي موّالاً، أريد أن أتخلص من كرما(ي) الفردية لأندمج في تلك الجموع التي كنت أتكبر عليها: الرعاع، الغوغاء، الحشود، الجماهير التي صرت أحس أمامها بأنني صغير، التي ستتظاهر اليوم لنصرة الشعبين الليبي والسوري.

قيَّفتُ بدلتي وركبت المترو (بعدما اشتريت تذكرة بخلاف عادتي) إلى ساحة حقوق الإنسان، مدفوعا بغريزتي الفلسطينية وبدرجة عالية من الحماس. النهار مشمس والمعنويات جدا جيدة، وأنا كلي إيمان. وصلت ساحة تروكاديرو فرأيت برج إيفل ينتصب مثل خازوق يبخش عنان السماء، رأيت بدل المظاهرة مظاهرتين، إحداهما سوريّة ضد بشار أسد، والأخرى ليبية ضد معمر قذافي، وكل جماعة ترطن بلهجتها وفق منطق إقليمي صارم. مشهد مكوَّن من مشهدين ويتجاوز السوريالية إلى السورياليبية. عشرون مترا تفصل بين الجماعتين وسور لامرئي أعتى من سور الصين، لبثتُ واقفا مثل مصعد توقف بين طابقين، مثقلا بالنكوص الذي يعقب الحماسة، ومكتظا بسوء الفهم والالتباس، في منتصف المسافة (وهذا هو المطرح الأمثل لتبديد ما تبقى من الحماس).

عيناي تتطلعان إلى جهتين مثل حمار بوردان، أين أصطف، أنا الذي تعلمت ألّا أكون محايدًا؟ فأنا ضد الطاغيتين بنفس القدر، وأنا مع الشعبين بنفس القدر. مرة أخرى يثبت العرب انهم عربان، سوريا تختلف عن ليبيا، ليبيا تختلف عن سوريا، السمفونية الممجوجة التي يتبجح بها كل الذين لم يسقطوا بعد، وأخشى ما أخشاه أن يكون الفراق بين الشعبين ناجزا وبحجم الفارق بين البلدين. لكن مصراتة أخت درعا، القذافي أخ شقيق للأسد.

فكرتُ بكل هذا ثم اقترحت على منظم التظاهرة الليبية ان نوحد المظاهرتين، فقال لي: “ليأتِ الأخوة السوريون وينضمون إلينا” قالها بنبرة لا تخلو من اللامبالاة. قطعت العشرين مترا تكلمت مع منظم المسيرة السورية فقال لي: “ما في مانع، خللي الليبيين ينضموا إلينا”- قالها وأتبع ذلك بهزة من كتفه. عملت جهدي، حاولت، سخيفة كانت خططي، عمليات حسابية نتيجتها صفر؛ ما زلنا في مرحلة إنكار لذاتنا الشاملة، أوجاعنا تتشابه وموجعونا، الفوارق بيننا تتشابه، مع ذلك أجنداتنا تختلف. “الإقليمية” أفضل كلمة تلخّص هذه العروبة المِنْ كلام، عروبتنا، أنها بكل الأحوال مثل الأرمادا الإسبانية جميلة أكثر منها فاعلة.

فكرتُ بالانصراف لولا شعوري بأنّ انصرافي يعني اعترافي بإنّ كلا الطرفين يملك الحق في إقليميته. تحركت بخطى أوتوماتيكية، خطفت من أحد السوريين علمًا ومن أحد الليبيين علمًا، ولوّحت بالعلمين مثل ممثل معتوه وسط الدمى، بطريقة فيها من الاستفزاز ما فيها من العبث، وأخذت أزعق ملء فمي: “يسقط أسد وقذافي… وبتاع اليمن وكل البتوع… يسقط يسقط يسقط… يسقط عبد الله الأول والثاني والثالث… ومحمد السادس والسابع والثامن، ولويس الـ 16 و17 و18 و19؛ يسقط وعد بلفور، يسقط واحد من فوق… يسقط يسقط يسقط”!

(رحّالة فلسطيني)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. من أجمل ما قرأت مؤخّرًا.
    صدقت…. “فليسقط واحد من فوق”، رواية جدّي والّتي لطالما رواها متبسّمًا، على غير عادته، عن التّظاهرات المُندّدة بوعد بلفور، والّتي كان تستعر بهُتافات مُدَويّة لذاك المحمول على الأكتاف “فليسقط وعد بلفور” ليتردّد صداها بين الحشود بأسلوب “التّلفون المكسور” ولتصل لصفوفهم الأخيرة وغير الأخيرة “فليسقط واحد من فوق”…

    “فليسقط واحد من فوق” من المُحيط إلى الخليج، أَهِي سذاجة أجدادنا، أم تُراها تكون نبؤة ورؤيا صادقة؟ لقد سقط اثنان ونَيِّف “من فوق”، وثلاث سبعات ستلحق بها بعزّة البوعزيزي.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>