شَذرات “غير أدبية”: تأمُّلات اغترابية خارج مَنْفى المعنى/ عبد عنبتاوي

رسائل مفتوحة من المستقبل والماضي.. إلى أبناء الحاضر ■ تساءَلتُ مرةً: لِمَ لا أفعل ما يفعله الآخرون، فأعيش في تناسق مع بيئتي ومجتمعي وعصري وأتقبَّل في صمت “عدم التناسق”، متجاهِلاً إيّاه باعتباره خطأ صغيراً في الحساب الهائل؟!

شَذرات “غير أدبية”: تأمُّلات اغترابية خارج مَنْفى المعنى/ عبد عنبتاوي

"خلق الإنسان" على سقف كنيسة سيستينا في روما، بريشة مايكل آنجلو. "اللجوء إلى "الله" هو هروب من الحياة وضروراتها وتحدِّياتها، وتَنصُّل من مسؤولياتها وخياراتها"


|عبد عنبتاوي|

عبد عنبتاوي

تمهيد:

اُطِلُّ إلى موتي من شُرفة الحياة، ومن ثنايا نَصّي، بعدما فقدتُ العلاقة بالاتجاهات، فغدوتُ ذاهباً في الإياب وآتياً في الذِهاب. فأنا لستُ أنا ولا هو، أنا ابن الغِياب، ورفيقي يُدعى الاغتراب. وأنا بحرٌ بلا شواطئ حيناً، وشواطئ بلا موانئ أحياناً. أمْتَطي صَهْوَة العدم في سبيل الوصول إلى المعنى، فليس العدم سوى آخر المعاني وبدايات الغروب.

تساءَلتُ مرةً: لِمَ لا أفعل ما يفعله الآخرون، فأعيش في تناسق مع بيئتي ومجتمعي وعصري وأتقبَّل في صمت “عدم التناسق”، متجاهِلاً إيّاه باعتباره خطأ صغيراً في الحساب الهائل؟!

فسرعان ما أصابني الصُّداع، وعدتُ إلى رُشدي، متناسِقاً مع ذاتي، متناغِماً مع عقلي، مُبْحراً في قلقي، منسجماً بتأمُّلاتي.. فقد قررتُ ارتشاف الحياة، واخترت مساراتها الطبيعية والحقيقية، حتى آخر قطرة موت…

ولا أدّعي هنا التمَيُّز، ولا أصطنعه، بل لا أحاول ذلك ولا أسعى إليه، إنما أدّعي ممارسة الحياة التي تستحقها أرض الحياة، لكونها أرض البدايات والنهايات. وما اكتبه لكم، هو ما أقوله لي، مُمْتَطِياً صهوة نَصّي، مُبْحِراً في سفينةٍ ليست كباقي السفن؛ فسفينتي لا تبحث عن شواطئ الآمان ولا تطمَح لاستقرار الإنسان- لا شَغف الأُصولِ ولا فرح الوصول…

كما لا تدَّعي هذه الكتابة أنها خارج مساحات التأثُّر والتأْثير والتفاعُل، بِمَنْأى عن التقليد والتبعيّة في المعنى والمبنى، ولا تسعى لأن تكون شمال البوصَلة ويقين اتجاهاتها. ففي أحشاء هذا النصّ قوة تدمير لذاته، أو تجاوزها.. وليس كل ما فيه جديد، فهنالك ما هو مُتجدِّد..

إنها كِتابة انبِثاقية انشِطارية، غير مُقَوْلبَة، تهدِف إلى تحريك السَّاكن وتُحاوِل إنقاذ الحياة من براثِن الموت. إنها شظايا رصاصات غير طائِشة تُدرِكُ مَراميها تماماً، وتواصِل محاولة قتل الموت الذي فينا ومن حولنا، دونما تردُّد أو توقُّفٍ، ما دامتْ رائحة الموت تنبعث من سراديب حياتنا…


من المهم أن تَرى أبعد، لكن الأهم أن تُريد أبعد وتحاوِل أبعد…

ما كان الفكر يوماً إلا بحثاً عن دروبٍ جديدة للحياة وفيها، فلا انفصام بين دروب الفكر وبين دروب الحياة..

إبحثْ عن المعرفة التحريرية، تلك المعرفة التي تُحرِّر العقل وتُطلِق الوعي وتُفجِّر الإرادة، وتُجدِّد الحياة وترتقي بها..

الفكر الحقيقي هو الذي يُلقي إطلالته في الأرض البِكْر، ويُشِعّ بنوره في مناطق الظُّلمة، ويجول في مساحات القَفْر..

الإفراط في الحَذر والتنبُّه والتوازن يُقوِّض حركة العقل الإنسانيّ الحيّ، وبالتالي يُحِد من قدرة الإرادة..

في حين أنّ حياة الإنسان سريعة وقصيرة، فإنّ حياة الحقيقة بطيئة وطويلة..

ليس للحقيقة مَلامِح نهائية، لأنّ الحقيقة ذاتها لا نهائية..

لا يمكن للحياة أن تتدفَّق من دون الحرية، فالحرية شرط ضروريّ للحياة ووقودها، فالحياة والحرية توْأمان لا ينفصِمان، وتربطهما علاقة عُضْوِية..

لا يمكن إدراك الوجود إلا بالحياة، ولا يمكن الحياة إلا بالنموّ الدائم، ولا يمكن النموّ إلا بالقُدرةِ..

الوَسَطية والنِّصفية.. لا يمكن لهما أن تصنعا تاريخاً، ولا مُستقبلاً أو حياة لهما..

كلّ ما هو هام وحاسم وتاريخيّ، إنما نَشأ وكان رَغماً عن الظروف، وخارج مَسار الواقع، وبالرغم من “السِّياق التاريخيّ”..

لا يوجد شيء مُستحيل، بل يوجد أشخاص غير قَديرين..

علينا أن نختار في حياتنا ومن أجلها، بين ما صُمِّمَ لنا بالعادة والموروث، وبين ما نريده ونُصَمِّمه لأنفسنا، بالوعي والاِنتقاء والإرادة، كأفرادٍ أولاً ومن ثم كجماعة..

غالِباً ما تكون الانتماءات الموروثة مجرّد مُعتقلات وليست مُعتقدات..

الحياة أقوى من أن تُصَادَر عند الإنسان الطبيعيّ..

الإنسان الحقيقيّ هو مَنْ يمنح المكان معنى والزَّمان قيمة..

لا حياة من دون حرية، ولا حرية بلا حياة..

لا تتحرر الأوطان من دون حرية الإنسان، ولا حرية للإنسان من دون تحرير الأوطان..

لا حرية بلا سِيادَة ولا سيادة بغير إرادة..

ليس كلّ تغيير هو نموّ بالضرورة، لكن كلّ ارتقاء هو نمو بالسَّيرورة..

تَنَاوَلْ الأحداث الحارَّة بعقل بارد، وتَعامَل مع القضايا الباردة بعقل حارّ..

الثورات الحقيقية ليست تلك التي تُحْدِث تغييراً في النظام السياسي فحسب، إنما في المنظومة الاِجتماعية والأخلاقية والقِيَمية والفكرية والثقَافية للمجتمع، وفي المَفاهيم ومعانيها، وبالتالي في مَناهج الحياة ومَناحيها..

الثورات التي لا ترفَع الحِجاب عن عَقل المجتمع وأفراده، ولا تُحفِّز الإرادات ولا تحرّر الأفراد والحاضر من سَطْوة الماضي، إنما هي وَهْم، سرعان ما يتبدّد في أول لحظة مواجهة مع المستقبل..

الثورات التي لا ترتقي بالشعوب، وتدفعها نحو الأمام، إنما هي فَوْرات شَعْبَوِية تحطّ من قَدْر الإنسان..

بين خَيارَي المقاومة والديمقراطية، أختارُ المقاومة من دون تردّد.. لأنّ المقاومة هي طريق الحرية والتحرّر، في حين أنّ الديمقراطية هي مَنفى الأحرار..

المقاومة، بكونها تمرُّد على الأمر الواقع، إنما هي قيمة عُليا في رصف الطريق نحو القيمة الأعلى، وهي الحرية..

المقاومة ضرورة أخلاقية وقِيَمية عندما تغيب الحرية..

هل يكون شعار الثورة الكَوْنية القادمة، ضد النظام الكَوْنيّ المُتَخيَّل: الإنسان يريد إسقاط “الله”..؟!

● تسقط الثقافة حين تتحرّك، ويتحرّك أصحابُها، وِفق إيقاع سُوقيَّة قانون العَرْض والطلب..

ما كان الغُرابُ غريباً لولا النظرات الغريبة إليه..

بمقدورِكَ أن تُحَوِّل الخطر إلى فرصة جديدة، والفرصة إلى انطلاقة مُتجدّدَة..

الصّراعات والتحديات تستخرجُ مِنْكَ الأفضل، فلا تتجنّب المواجَهات، وكُنْ دائماً على استعداد..

إبحثْ عن الحياة ومارِسها خارج إيقاع “الله”، وخارج وجوده..

إنَّ “الله” خارج سياق الطبيعيّ، وبالتالي فهو خارج نِطاق العقل، وهو بالضرورة خارج تدفُّق الحياة.. إذًا فهو خارج حدود الأخلاق والقِيَم الإنسانية..

اللجوء إلى “الله” هو هروب من الحياة وضروراتها وتحدِّياتها، وتَنصُّل من مسؤولياتها وخياراتها..

ما كانت الإنسانية يوماً شأناً إلهياً، لكنّ الأُلوهية كانت دَوْماً شأناً بشرياً..

لَمْ أكُن صِبيانِياً بما فيه الكِفاية، حتى أعتقد بما يعتنقه الناس..

الخطر الداهم على الوجود الإنسانيّ يَكمُن في تَنامي الكمّ واُفول النَّوعِ، وغِياب التساؤلات الكُبرى..

يعتقد الإنسان واهِماً أنّ نَسْلَه هو موروثه للإنسانية، من دون أن يدري أنه بذلك إنما يقضّ مضجعها ويُهدد مُستقبلها..

العَقَبة الأساسية أمام تطوّر الإنسان وارتقائه، هو الإنسان نفسه..

لا يمكن الرِّهان على الإنسان الراهن في مواجهة تحديات المستقبل، وفي سبيل الاِرتقاء..

إنّ ما يُحدد قيمة الإنسان هي قِيَمه، فبقدر ما ترتقي القِيَم نحو الوجود والموجود والحياة والإرتقاء، بتناغمٍ مع قوانين الطبيعة، ترتقي قيمة الإنسان وتسمو قامته..

التاريخ كما الله: إنه صناعة بشرية، في عملية الصراع اللانهائيّ على قيمة الإنسان، وجوده وماهيّته، ومعنى الحياة ومَداها..

إنّ الذين يتمسكون بقوانين البشرية، تلك القوانين التي لا تنتمي إلى عالم الإنسانية وطبيعتها، إنما هم يعملون بالفعل ضد الإنسان..

يمكن للمعاناة والألم أن يكونا رافعة، لِمَنْ يهوى صعود القِمَم..

حيثما يكون النَّقصُ أكون، لأنني أبحث عن الكَمال…

عجبتُ فيمَن يعتقدون بالداروينية، والاُصول المادية-الطبيعية، للنشوء والاِرتقاء والاِنتخاب الطبيعي وبقاء الأفضل، كيف يُهَلِّلون للمساواة والديمقراطية!

تَقَبُّل العادات والتقاليد بالنقل الموروث، وليس بالعقل المحروث، إنما يعني أنّ الأحياء أموات وليس الأموات أحياء..

الديانات: مَهْد الأموات ولَحْد الأحياء..

أكثر السِّمات بشريةً، وأكثرها بُؤساً، هي هروب الإنسان من ذاته..

لا يمكن للإنسان أن يتحرّر من عبوديته للتكنولوجيا، إلاَّ بتحرير التكنولوجيا، وإعادتها إلى دورها الوظيفيّ..

عندما لا تكتمل الأجْوِبة، تزدادُ الأسئلة إلحاحاً وازدحاماً..

لمْ يكتمل بَعْد النمو الجسدي والعقلي والنفسي والسلوكي للإنسان، فهو ما زال في مراحل البناء وفي طَوْر التكوين، فالإنسان الراهن ما هو إلاَّ مرحلة من مراحل النمو الطبيعي، في مسيرة الارتقاء نحو القِمّة اللانهائية، أو الهاوِية..

التاريخ، في جوهره، كما الإبداع، صناعة فردية وليس مَنتوجاً جَمْعياً..

الوعي الإراديّ، كما إرادة الوعي، يستطيعان معاً تَسريع حركة التاريخ وصناعة المستقبل..

الاِعتدال في التفكير أساس السَّكينة والرُّكود، ومَبْعَث تحويل النهر الدافِق إلى مُستنقعٍ آسِن..

لا شَك، أن الشكّ هو مفتاح اليقين الاِفتراضيّ، وأنه المَدْخَل لِتلَمُّس الوجود والموجود-فمن دون الشك تغدو الحياة والأشياء وَهْماً..

من البُؤس اختزال الإلحاد في مفهوم اُحاديّ البُعد والاِتجاه..

العلمانية، كَمَنْزِلَةٍ بين منزلَتَيْن، وَمَكانَةٍ بين نقيضَيْن، ليست موقفاً ولا حلاً إنما تَسْوِيَةً.

الجهل والتخلُّف، كما الخوف والضعف، لا يُمكن أن يُنتِجا إلا ذاتيهما، وهما الوجه الحقيقي للموت..

ما فَتِئ العلم والتعلُّم أن حُوِّلا، في عصر “الحداثة” الوهمية، إلى غاية نهائية، أو إلى وسائل لا نهائية، واُبْعِدا عن كونهما مِعْوَلاً للحفر والبحث والتجدّد والاِرتقاء بالحياة وفيها..

حين تتحقق الأهداف والغائيات الكُبرى، ينبغي أن تتحوَّل بتحقُّقِها إلى انطلاقة ارتقاء نحو أهداف وغائيات أكبر..

الحب يعني ممارسة الحياة في المساحات الخَطِرة، وفيه يَكْمُن المَكنون، من عقلٍ وجنون.

يتمزَّق التاريخ وتتبعثر الحياة في جغرافيا المرأة وعلى تضاريسِها..

السعادة الجنسية من أهم مَصادر السعادة الإنسانية..

إبحثْ عن مِرْآةٍ تعكس حقائق الأشياء وجوهرها، لا صورتها ومَظاهرها..

كثيرٌ من الموسيقى يُلْهِمُ عقل الإنسان..

لا تخلو الحركة الصامتة من صوت، لها وَقْعها وإيقاعها، كما يمكن للصوت أن يكون صورة مَرْئية، له مَظْهر وتَمَظْهُر..

العمر هو نوعية الزمن الذي تَحيا وتُنْتِج، لا كمية الوقت الذي تَعيش وتُخْرِج..

أعْطِني قليلاً من الموت لأمنحَك كثيراً من الحياة..

● الزمن هو سيف الحياة، كما هو سيف الموت..

بين دَفتيّ الحياة والموت يقف التمرُّد، المُدْرِك والمُدرَك، كمِعْوَلٍ يشقّ الطريق نحو المستقبل والارتقاء..

كلّما امتلأتُ بأسباب الحياة اقترَبَ موعد الرّحيل..

الصمتُ هو صَدى الكلام الذي لم يُقَل، وهو إيقاع الأصوات التي لم تُسْمَع، وارتداد الأفكار التي لَمْ تُكْتَب…

(حزيران 2011/ الجليل)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. “بين خَيارَي المقاومة والديمقراطية، أختارُ المقاومة من دون تردّد”

    هذا هو الموقف الحق من سوريا أيها الرائع.. سوريا مقاومة, وهذا يكفيها.. سوريا هي الدولة العربية الوحيدة التي خرجت من تحت الحذاء الأمريكي ودولاراتها وهذا يكفيها.. ولكن للثورة الطائفية العشائرية التي تحدث الآن.. قول آخر.

  2. رائع..
    أريد مساعدة في توضيح تلك اللوحة الإغريقية, ما اسمها وما معناها؟ حيث أنها تجذبني كلما رأيتها.. وأتمنى من احد المعلقين توضيح اي شيء بخصوصها.. مع كامل الشكر, مقدماً.
    هل هذا صاحب اللحية, والذي يمد يده هو الله؟

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>