وحدهم الأموات شهدوا نهاية الحرب/ أحمد كيّال

هُمومُ العالَم تلاشَت كأنّها لم تكُن، كأنّ الوجود لم يكُن أكثَر من ضوضاء ما بينَ لا شيئين… ماتَ الجميع ولَم يبكِ أحَد ولم يضحَك أحَد

وحدهم الأموات شهدوا نهاية الحرب/ أحمد كيّال

مقطع من "غيرنيكا"، بابلو بيكاسو

.

|أحمد كيّال|

أحمد كيّال

ماتَ الجَميع.

قتلناهم جميعهم حتى آخرهم. وهم قتلونا جميعنا حتى آخرنا. قتلناهُم جيّداً. وهم كذلك، قتلونا جيّداً. دُسنا عليهم وداسوا علينا. ماتَ الجميع بامتياز.
طحَنَت الحَربُ عظامنا جميعاً.

لَم يبقَ أحَد. لَم يسلَم أحَد.

حَطَّ الصمت على المعمورة كالأسطورة. هبَطَ كيمامة بيضاء تمسَحُ الغبار عن جبينِ الأرض بخفقِ جناحيها. حَطّ الصَّمت كسيمفونيّة من ضوء. مَرّ جميعُ الناس، كرصيفٍ لقطارٍ نَفقي، ومَرّ القطار من دونَ أن يتَوَقَّف.

ماتَ الجَميع.

ولَم تُنَظَّم أيّ مسيرة أو يرفَع نَعشَ أحد. لم يحفُر أحدٌ قبراً. لَم تُطلَق الرصاصات الواحدة والعشرين. ولَم تُقطَف أيّ زهور. لم يغضب أحَد. ولم يُثأر لأحَد.

كُلّ المحطات فرغت، فلَم يتأخّر الباص على أيّ أحد. كُلّ الطوابير خلَت، فلَم يتَذمّر أحد عن سوء معاملة الموظّفين.

غابَ كُلّ التلاميذ عن المدرسةِ أيضاً، المُدَرِّسون أيضاً لم يأتوا، فلَم يضجَر أحدَهم ولم يَتَسَنَّ لأيِّ طالِب أن يَطرَحَ سؤالاً في حصّةِ التاريخ.

لَم تُهمِل أو ترضِع أيّ أم ابنها . ولم يرسُم أيّ طفل بالطباشير على الحائط. لَم تعكِس أيّة مرآة مشطَ الشَعر العاجي بشعرِ فتاةٍ في العشرين. ولَم يَصدُر أيّ ضجيج من أيّ جيران.

اِجتَمَع جميع المحبّين أو افترقوا، لَم يُفطَر قلبُ أحَد على أيّ حال.

عِندَما علَت الشمسُ من الشَرق لم يُفكِّر أحدهم “من أينَ أتيت؟” أو “إلى أينَ أمضي؟”
ماتَ الجَميع. فلَم يتساءل الفيلسوف “ما المعنى؟” ولم يُبَشِّر رجل الدين بالجنّة أو النار.  لم تُرتَكَب أيّ خطايا ولم يُصنَع أيّ معروف. لم تطَأ الأقدام أيّ معابِد أو جامعات أو مكاتِب.

لَم يُسمَع دوي الرصاص في أيّ بقعة من الأرض. لم يُفرَض حظر تجوال على أحَد. لَم يُعَذَّب أحَد ولم يُضرَب أحَد. لم تحصُل أيّ حوادث. لَم يصرُخ أحَدَهُم على آخر ولم ينتقِد أحَدَهم أحداً.

كُلّ الحُدود وقفَت كشواهِد بلهاء ولاحَت كُلّ الأعلام كالخِرَق. لَم تَعُد تعني شيئاً. كانَت الأرض كُلَّ الأرض ولَم يتَمنَّ أحدٌ الحريّة.

لم يفُز أحَد باليانصيب ولم يخسَر أحَد. لَم تندِب الطَبقات العامِلة حظّها ولم يعانِ أحدُ الجوعَ أو الفقر. لَم يسعَد الأثرياء بالكافيار على ظهور مراكبهم. ولم يمتَلِك أحدٌ شيئاً، كانَ كلّ شيء للجميع.

لَم تحصُل أيّ تَحَرُّشات جنسيّة ولم يُضطهَد أحَد. حصَلَ الجميع على المساواة المبتغاة. النساء والرجال سواء، أخيراً.

لَم يحصُل أيّ سوء تفاهم، الجميع تكلَّم نفس اللغة.

كُلّ الاحتجاجات والمظاهرات انتَهَت. يمكن القول إنّ كُلّ الطلبات قد أجيبت. لَم يكُن مَن يعتَرض على ذلك. عَمَّ الرِضا. ولم ينتَحِر أيّ أحد.

لَم يبدِ أحدهم قلقه بشأنِ طبقة الأوزون أو احتياطي النفط المُتَبقّي في العالم. ولم يبدِ أحد خوفهُ على الحيوانات وشيكة الانقراض.

هُمومُ العالَم تلاشَت كأنّها لم تكُن، كأنّ الوجود لم يكُن أكثَر من ضوضاء ما بينَ لا شيئين.

ماتَ الجميع ولَم يبكِ أحَد ولم يضحَك أحَد.

ماتَ الجميع وحينَها، حقاَ، نعِمَ جميعُ من تَبَقّى بالسَلام.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>