حينَ يأتي أحدهم، يسحَبُ سكّينه ويطعنُكَ بأدب- لن تجِدَ الله/ أحمد كيّال

. |أحمد كيّال| أمقُتُ هذهِ المدينة. أمقُتها أكثرَ من أي […]

حينَ يأتي أحدهم، يسحَبُ سكّينه ويطعنُكَ بأدب- لن تجِدَ الله/ أحمد كيّال

القدس. تصوير: إِد كاشي، ناشيونال جيوغرافيك

.

|أحمد كيّال|

أحمد كيّال

أمقُتُ هذهِ المدينة. أمقُتها أكثرَ من أيّةِ مدينةٍ أخرى.

أستنشق بنَهَم. أفتَحُ عينيَّ… إنّهُ الرماديّ. رماديّةُ هذهِ المدينة، والحجارة والسماء. كلّ شيء هنا ظِلٌّ رمادي، حتى الشمس! تتواطأ المدينة في سأمٍ رمادي كأنَّ الحجارةَ تتآمر لخلع الشمس. هنا يتراكم حطام أحصنة أبوللو المتكسّرة في الرماد، في ضوءُ السيجارة.

أحياناً أظنُّ أنّ المدينة بأجمعها سجنٌ واحدٌ كبير. حينَ يمرُّ الباص عبرَ بعضِ الأحياء ألاحظ القضبان. ألاحظ القضبان، وأحياناً ألاحظُ الشبابيك السجينةَ خلفها. أظنّها موجودة لتمنع الناس من الوثوب إلى حتفهِم.

ألهو بالفكرة. هل أستطيع أن ألومهم؟

لقَد أنهيتُ عملي للتو. يومٌ آخر مِنَ العبث في طرفِ المدينة. يذبلُ النّهار وينزلِق كالشّمع ويأتي ليلة السبتِ التعيسة. وسائل النّقل العمومية غير متاحة بصورة مريحة. لم أنتظر، أو بالأحرى لن أنتظر، سيارة أجرة بعدما قحطت قماش المحفظة. هذا الحيّ يعُجُّ باليهود الأرثوذوكس. الأرصفة تمتدّ كرقعة شطرنج، لا أرى سوى البيادق السوداء. أطفئ علبةَ الأغاني وأسحب إنفوزيا الموسيقى من أذنيّ.

أخاف.

أخافُ انتهاك الحرمات، بالذّاتِ تلكَ التي تضمن إنتهاكَ حُرمتي. أقابَل بنظرات مشبوهة. أدّعي الإنشغالَ بالتفكير أو العجلة لقضاءِ أمرٍ ما، أمرٍ مُهم. أمشي أسرَع قليلاً.

لا أخافُ الله، لكن تباً لي إن لم أعترف أنّي أخافُ رِجاله، خاصةً إن اجتمعوا.

أبدأ حَجّيَ الخاص. إلى مَكَّتي: غرفة صغيرة في البناية رقم ستة عشر في المسكن الطلابي في التلّة الفرنسيّة. أرى محطة الحافلات المركزيّة في الأفق. سأشعرُ بإنعدام الأمان أقل حينَ أصل الأفُق. أمشي.

حينَ أقهرُ نفسي وفزعي، تَخِفُّ وتيرتي تدريجياً وأحاول أن أتحرّر، أن أشلحَ أفكاري المسبقة وألقي بها كقشرة موز في جيبي. أحاولُ النظر إلى المعاطفِ السوداء. أحاولُ أن أرى الإنسانَ تحتَ القُبّعة. أن أرى إنسانيّتهُ تشقُّ طريقها عبر ذقنه أو أكمام معطفه. عليّ أن أتبع الرصيف. الرصيفُ لا يميّز بينَ الأقدام. على كلّ حال، أرى الأطفالَ يمشون مع المعاطف. وأرى العربات التي تجُرّها المعاطِف. أطمئنُ قليلاً.

تسيلُ العتمةُ بالتدريج وتنبسط بالتساوي على المدينة. ظلال البنايات والأشجار الممتدّة تبدأ بالتلاشي إلى أن تشعّ عواميد الإضاءة وتلقي بضوئها نظرات شرطيٍ مُتَفَحصّ على الظلال.

أمقُتُ المدينة أكثَر في نهاية الأسبوع حينَ تخلعُ اللباس المدني وتلبسُ لباسَ الطيفِ المترَبّع على العرش.

أصِلُ أخيراً شارع يافا. عقارب الساعة الكبيرة على بناية المحطة المركزيّة تشير إلى الساعة العاشرة. أتابِعُ طريقي، وأفهَمُ شيئاً ما بشكلٍ جزئي. أمسِكُ بطرَفِ ثوب ذاك الذي مضى هنا قبلي. أتلَمّسُ الفيا دولوروسا. أرى طريقَ الآلام وباروديا التاريخ حينَ يتَكرَّر. أمشي عبرَ شارع يافا إلى مركز المدينة. المدينةُ مغطاة الآن بنقابٍ رقيق من الضوء الأصفر وضبابٍ يدثّرُ الشوارعَ كمنديلٍ حريري.

لا يوجد أحد في الشارع.

بعدَ بضعَ دقائق من المشي وانعدام الحياة في الشوارع، لا أذكرُ حتى رؤية القطط، أكادُ أصدّق أنّ المدينة هي كما تبدو…

مهجورة.

تصطفُّ البنايات على طرَفي الشارع. بنايات من دون ارتفاعٍ يُذكر وأبواب مُوصدةٌ كالجلاليب حينَ تمضي لتُحيي الرّب. هنا تنتصب مراسيم تجانس المدينة عديمة الملامح. هنا، ينصَهِرُ كلّ ما كان مع كلّ ما هو موجود.

القناطِرُ، هنا، إبتساماتٌ مقلوبة. وكورنيش كسول يتوّج رؤوس المباني. الآن، حينَ لا يطأ أحد الشوارع، أستطيعُ تصوّر إمكانية الوقوع بحبِّ هذهِ المدينة شهيداً

في مخيّم يهودا، ألاحظ عجوزاً تلتف الخرقُ من حوله. يجرّ قدميه عبر شارع السوق الحجري العتيق. ظهره مفتولٌ نحوي، والسقفُ المُقوّس يحضن كينونته الصغيرة. يبدو المشهد كصورة يتفحصها أحدُ السيّاح حينَ يعودُ إلى دياره خلفَ البحر ويتفاخر بتواضعه الذي تجوّل الأحياء الشعبية.

القناطِرُ، هنا، إبتساماتٌ مقلوبة. وكورنيش كسول يتوّج رؤوس المباني. الآن، حينَ لا يطأ أحد الشوارع، أستطيعُ تصوّر إمكانية الوقوع بحبِّ هذهِ المدينة شهيداً.

لقد جَلَب الليل نظاماً يَهرُبُ في ضوء النهار. رقصة فالس تحت ضوء قمرٍ خجول. الشُرفات معلّقة كأيدي المتسوّلين على طرفي الشارع. تسترقُ سمع خُطًا عابرة مصادفةً. ونظرة سريعة تكفي للقبض على آنية زهور هنا أو هناك، تتجسّسُ على المارّين.

في ميدان تسيون، مئات الآلاف من النسمات تختفي. لا أحَدَ هنا أيضاً. إمّا أنّ فرعون مرّ من هنا، أو أنّ الطقسَ كان باردًا بشكل خاص ذاكَ المساء… أو أنّها ليلة السبت، طبعاً. أو اجتمعت الأسباب، إلّا أنّ الوحدةَ واحدة.

هنا يكمن المقطع الشائك. أحتاجُ الوصول إلى التلّة الفرنسية. أعلَمُ أينَ تقع التلّة لكن لا أعلم كيفية الوصول إليها (ليس بصورة مباشرة على أيّةِ حال). أغامر. أتّخِذُ طريقاً مختصرًا.

أتذكّر المرّة الأخيرة اللتي سلكت فيها طريقاً مختصرًا. إنتهى بي المطافُ حينها في حيٍ طرّزت فيه شعارات “الموتُ للعرب” الحائط. ضعتُ قليلاً. رغمَ عِلمي أنّي أقرَب إلى هدفي، كنتُ أبعَد.

أحتاجُ إلى برزخٍ ما. أحتاجُ إلى عصا لأتحسس طريقي.

وجبَ عليَّ المرور عبر أزقّة مكتظة وضيّقة. كانت هذهِ منطقة الأورثوذوكسيين المتشدّدين. هذه المنطقة المحصورة بين شارع الأنبياء وشارع يافا. حدث ذلك في مثل هذا اليوم. أكرهُ أيّامَ الجمعة.

أذكُرُ وقتها أفكاري تقتلِعُ حجارةَ الرّصيف. “لا تتكلّم! لا تتكلّم! لا تتكلّم! تصرّف بشكل طبيعي. أبدِ إهتماماً بهذا البيت أو بحاوية النفاياتِ تلك. لا تتصرّف بشكل مشبوه حين تمرّ عصابة الناس تلك.”  أوقاتٌ حميدة!

عودة إلى الوراء… أو عودة إلى الأمام. نعم. ساحة تسيون. آخذُ طريقاً مختَصَرًا إلى الشرق. عليّ إلى الشرق العبور. إلى جهةِ العَرَب. إلى أيّ جحيم. فقط ليسَ هذا الجحيم. أفعَلُ ذلك بهدوء وأمتنع عن أيّ التقاء بين عينيّ وعينيّ أيٍّ كان. لا أريدُ أن أرى أحداً يراني حتى أصل الجزء العربيّ من المدينة.

يالَ المُفاجأة.

المدينةُ الطيف طيفٌ هنا أيضاً. الجمعة يومُ الإسلام المقدّس. عليكَ أن تُحِبَ أيّامَ الجُمعة.

لا زلتُ أشعر بإلحاح المشي بسرعة والنظر خلفي بينَ الحينِ والآخر، لأتأكّد من أنّ لا أحد يتبَعُني. لأتأكّد من أنّني أتَقَدّم. لأتأكّد من أنّني حينَ أمضي تختَلِفُ المناظرُ خلفي.

لا أرى سوى سائحَين اثنين بالقرب من فندق. كل شيءٍ مغلق حتى بدا لي أنّ السماء تغلِقُ عليّ أيضاً. تضاريسُ المكانِ هنا أخشن. بناياتُ الحكومة جدرانٌ عالية وحواجزٌ منصوبة.

تهديدٌ ما يتربص هنا، غاز منفوث بانتظارِ شرارة.

الجميع يعلَمُ أنّ المدينةَ منطقةُ حرب. حياةٌ رابضة في الرماد، أو رمادٌ رابض خلف الحياة.

“سخرية مأساوية”. هذا ما يَعنونه. هذا السلام المُنعَم من السماء على مدينة إحترفَت الصلاة.

لم أستطع أبداً الشعور بالأمانِ هنا. في هذهِ المدينة. لا. لا أشعُرُ بالأمان. لكنّي تعوّدت. تعودتُ على انعِدامِ الرّاحة.

مع كلّ المعابِد المزروعةِ في كلّ مكانٍ هنا. الكُنس، والكنائس والجوامع، أعلَمُ أنّهُ حينَ يأتي أحدهم، يسحَبُ سكّينه ويطعنُكَ بأدب- لن تجِدَ الله.

لا أستطيعُ التغلّب على مخاوفي خارِج نفسي. معظم الوقت أودُّ لو أنّ هذا السيناريو كلّه ليس إلّا محض بدعةٍ في رأسي. أحبّ أن أعتقد أنّ هناك شيئًا لا أراه أو لا أفهمه. هذا الشيء، شيءٌ ما، في هذهِ المدينة يراهُ الآخرون.

ببطء، دخولاً في الليل، أتلاشى خارجَ المدينة إلى غرفتي وأنا أفَكّر:

“هناكَ جمالٌ ما لهذهِ المدينة. لا بدّ من أن يكون. لا بُدَّ.”

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. شكراً على التعليق الجميل. أسعدتني قرائتك للنص. : )

  2. أحمد كيال نص غني جميل ومتعوب عليه بصوره مبناه وفكرته المهمة جداً والحقيقية جداً.. قراءة هالنص بالإضافة لإنها بتثري الواحد وبتخلي يحلق مع غزلك للصور.. كمان ممتعة وهادا كمان مهم.

    يعطيك العافية

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>