أحمد زكي، حينما يصاب “البريء” بـ “هيستيريا”/ مايكل عادل

أحمد زكي، حينما يصاب “البريء” بـ “هيستيريا”/ مايكل عادل

لم تقصد قدمه هوليوود ولا “كان”، ولم يحلم بالسير على السجادة الحمراء وفي يده امرأة جميلة، كُل ما كان يحلم به هو أن يغادر مدينة الزقازيق الريفيّة ليركب القطار المتجه إلى القاهرة وهنا ينتهي دور القطار وكافة وسائل المواصلات، وهنا أيضاً تبدأ رحلة أحمد زكي إلى قلوب الملايين بتذكرة ذهاب دون عودة.

أحمد زكي

أحمد زكي

| مايكل عادل* |

MichaelAdel

لم تقصد قدمه هوليوود ولا “كان”، ولم يحلم بالسير على السجادة الحمراء وفي يده امرأة جميلة، كُل ما كان يحلم به هو أن يغادر مدينة الزقازيق الريفيّة ليركب القطار المتجه إلى القاهرة وهنا ينتهي دور القطار وكافة وسائل المواصلات، وهنا أيضاً تبدأ رحلة أحمد زكي إلى قلوب الملايين بتذكرة ذهاب دون عودة.

ذلك الطفل الذي فقد والده في عامه الأول في هذه الحياة، لتتزوج والدته بمجرد وفاة الوالد فيحصل على لقب “يتيم” قبل أن تعرف قدمه طريق الأرض، فكانت أول لمسة للأرض هي بداية لمشوار طويل لم ينته حتى بعد وفاته وكانت أيضاً بداية لعينيه في رحلة للتأمل الصامت لكل شيء خلال فترة طفولته ومراهقته أدت في النهاية إلى شحنة فنيّة تحوّله إلى إنسان آخر أمام الكاميرات أو على خشبة المسرح.

فذلك الإنسان الهادئ الخجول الذي حينما تتعامل معه تبذل قصارى جهدك كي تسمع صوته الخافت ونبراته الرقيقة الخجولة، ما إن يقف أمام الكاميرا إلا ويتحول إلى مجرم محترف، أو ابن عاق، أو هارب من العدالة، أو بوّاب يعمل بسمسرة العقارات.

لم يكن صوته مناسباً ليصبح مطرباً محترفاً، ولكن السؤال اللحوح هو كيف كانت له هذه القدرة على جذب آذان المستمع حينما يبدأ بالغناء؟ ففي ذلك المشهد التاريخي الهزلي في فيلم “هيستيريا” وفي محطة مترو “البحوث” في محافظة الجيزة، وقف احمد زكي مع الفرقة الموسيقية ليبدأ بغناء مقطع “وصفولي الصبر لقيته خيال” لأم كلثوم بطريقة مميزة جداً بدون عُرَب ودون تجويد أو مُحسّنات صوتيّة ولكنها تصل بشكل مباشر وواضح للقلوب.

وبمجرد أن يصل إلى جملة “كلام في الحب يادوب يتقال” يصل معه عدد من المتطرفين إلى محطة مترو الأنفاق ممسكين بالجنازير والسلاح الأبيض لينظر هو إلى الفنان “مجدي فكري” الممسك بالأوكورديون ويقول له مشيراً بوجهه “أهرب من قلبي واروح على فين؟” لينتهي المشهد بهم يركضون أمام جحافل من المتطرفين الذين عُرفوا بانتشارهم في هذه الفترة في شوارع مصر إلى درجة سيطرتهم الكاملة على مناطق مثل “امبابة” وغيرها، ربما نرى في هذا المشهد رسالة موجّهة إلى من يندبون حظهم هذه الأيّام على العهد الماضي باعتباره أفضل مما نشهده الآن ، الأمر الذي يؤكد لنا زكي كونه وهماً من خلال هذا المشهد الخالد، وأن الحقيقة هي أن الجميع أوجه مختلفة لذات العُملة.

جسّد أحمد زكي شخصيّة “أحمد سبع الليل” في فيلم البريء الذي أخرجه الراحل عاطف الطيّب، لنرى على وجهه ملامح ذلك المجنّد الأمّي الذي لا يجيد في حياته إلا الركض، وعزف الناي، وأكل الملح الخام ليكسب رهاناً بين عدد من الشباب المستهترين الساخرين من بساطة عقله، ذلك المجند الذي قتل أحد معتقلي الرأي في السجن وسط صيحات هذا الرجل الذي يحاول تنبيهه إلى كونه يدافع عنه هو وعن أمثاله من الكادحين ناعتاً إياه بالـ”حمار”.

ولم يدرك سبع الليل تلك الكارثة إلا حينما رأى مثقف قريته في وسط الفوج القادم من المعتقلين ليصيح بالجميع “ده لا يمكن يكون من أعداء الوطن”. ليدرك وقتها المأساة التي حدثت ويحيط به صوت الراحل عمّار الشريعي قائلاً “الدم اللي في إيديا واللي بينده عليّا بيقول قتلت مين؟”

وكما هو واضح الآن، فسبب تعلّق الجميع في رقبة هذا الرجل هو تجسيده لهم، ولمن يقابلونهم، ولمن يودّون مقابلتهم. من المؤكد أن الأمر لم يكن بسيطاً على زكي أن يستطيع البقاء على مستواه في تلك التركيبة التي تجمع حُسن الاختيار والآداء المتميّز والتعايش الكامل مع الشخصيات التي يؤديها، بحيث يستطيع تقديم كل هذا الكم من الشخصيات المصرية من أقصى البلاد إلى أدناها ومن أقصى شمالها إلى أعماق جنوبها.

وبذلك لم يكن هناك ما يؤديه في النهاية، أو بالأحرى لم يتبقَ، إلا ثلاث شخصيات هُم محمد أنور السادات، الوزير الفاسد، وعبد الحليم حافظ. وربما قصد أو لم يقصد ذلك ولكن تلك الخاتمة التي حملت الرسائل الثلاث من كامب ديفيد مروراً بالفساد السياسي نهاية بنهاية الرحلة ليختتم زكي حياته مردداً مقولته المعروفة “أنا لا أجيد الفلسفة ولا العلوم العويصة.. أنا رجل بسيط جداً لديه أحاسيس يريد التعبير عنها.. لست رجل مذهب سياسي ولا غيره، أنا إنسان ممثل يبحث عن وسائل للتعبير عن الإنسان. الإنسان في هذا العصر يعيش وسط عواصف من الماديات الجنونية، والسينما في بلادنا تظل تتطرق إليه بسطحية”.

وينتهي به المطاف في 27 مارس 2005 لينتقل إلى الخلود بلا عودة بعد صراع قصير مع المرض الذي أنهى عمله على الأرض ليبدأ مع جماهيره مرحلة جديدة لإعادة فتح الرسائل الموجهة من أعماله التي شملت كافة فئات المجتمع المصري.

*مايكل عادل هو شاعر، صحفي ومدون مصري

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. ممتاز… 

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>