هواجس مكانية/ عبدالله البيّاري

هواجس مكانية/ عبدالله البيّاري

نَحنُ فِي حَاجةٍ لِتحرِير إِدراكِنا الصَوتِي/ المُوسيقِي للِإيقَاع فِي حَياتِنا وَداخِلنا وَفي كَوننا… مَنعًا لِوثنِية الجِهات فِينا. مَكانٌ لَا إيِقَاع لَه لَا يُعوَّل عَليه…

Abd1

| عبدالله البيّاري |

(1)
تُهاجِمني رَغبةُ الخُروجِ مِن فَضاءِ المَدينة المَكاني لأُعيدَ تَرتيبَ عَلاقَتي بِفَضاءِها المَحكِي عَني وَعَنها –معًا-، وَلِكي لَا تَهزِمني فَداحةُ السُؤالِ:
“أللحِكايةِ فِي المُدن مِن قِياسٍ خَارجي مَحسُوس فِي المَسكون/المَلموس، أَم هيَ مَحضُ نَظرةٍ وَحوارٍ ذَاتي للسَاكن مَع مَكانهِ المَدينِّي
وَمراسمِ تَعميدِ الوَطن بِالمنفى وَالعكس؟”، بِالمَزيدِ مِن الصَمتِ وَالتَسليمِ وَالهَزائمِ. مَدينتي المِرآةُ بَينَ مَنفىً وَوَطن، هِي نُزولِي عَلى التُخومِ بَينَ زَمانَينِ وَمَكانينِ، لِذا أُقدر مَقولةَ الرَاحلِ/الحَاضرِ إِدوارد سَعيد إِذ قَال: “أحببتُ نيويُورك ، هِي مَدينةٌ حِرباءُ مُتلونة”.

(2)

مِعمَارُنا شَاهِدنا عَلى مَوقِعنا مِن أَنفسِنا وَالعَالم؛ المَسجِد مِثالاً، تَغدُو “المِئذنةُ” أَكثَر عَناصِر المَسجِد المِعمَاريَةِ تَغيرًا وَتَبدُلًا وَتَحوُلًا. أَلِأنَها مِن بينِ العَديد مِن التَمظهُراتِ التِي لَم تَبرَح مِرآة القُوةِ وَالسلطةِ تَحتَ عَدِيد الأَسمَاء، إِذ رَاوَحت بَينَ أَن تَكونَ إِمتدادًا لـ”ظِل” الإِنسانِ الصَاعدِ إِلى الله وَالسَماء أَو اِنهَمار الأَخِيرَّين إِلي مَنطِق الإنْس فِيهِما وَمافِي ذَلكَ مِن ذُكورَةٍ وَتَفحِيل وَلَونِ بَشرةٍ، وَ”ظلٌ” لِصَولجانِ السُلطانِ/لِحيةٌ لكاهنٍ/اِنتصابُ القُوة الذُكورِيةِ التِي أَخضَعت سَماءَنا وَجعَلت مِنا تَراسِيم فُحولَة، فِي مُقابل “قُبة” هِي إِمتِلاءُ المَعنى المُؤنَث بِوَلِيدهِ الخَارِج عَما كَانَ مِن شَجَرٍ وَجِنانٍ، مُحققةً أُنوثة النُبوةِ وَالخَلق.

Abd

(3)

مَا نُدرِكُه بِحاسَة السَمعِ يَنزِع بِنا إِلى “الدَاخل” أَو “المَركَز” مِنا وَفِينا، وَبالتَالي فَالفِكرُ أَو التَعبِير القَائم عَلى “الإِيقَاع” يُفضِي إِلى التَوحِيد وَ اللُقيَا سَواءًا ذَاتيًا كَان أَم آَخرَوياً (كَما لَدى المُتصَوفة مِن تَجاوز دَاخِلي لِلأَعلى). عَلى عَكس مَانُدرِكه -مَثلًا- بِحاسة البَصر ، وَهي حَاسة تَمِيل لِلتَجزئة وَالتَفكَيك، لِذا نَميِلُ لاِغماضِ أَعيُنِنا إِذ نَستَمع لَلمُوسِيقى، فَالمُوسِيقى هِي أَصلُ الكَون، إِذ أَصابَ فِيثَاغُورس يومَ قَال: “خُلقَ الكَونُ في ستِ إيقَاعات”، وَلأَن المُوسيِقى هِي مَوت الكَلمة، وَتحرِيرُ الصَوتِ مِن دَلالته البَصرِية/اَلمَادِية المُهندَسَة لُغويًا، فَفِيها قَليلٌ مِن المَادةِ وَكثيرٌ مِن الرُوح، بنىً صَوتِية تَتحرَك عَلى مِحورٍ زَمنيٍ، وَهو مَايفَسر  مُصاحَبة المُوسيقى لِكُل تَشكُل وُجُودِي بِدايةٍ مِن خَلق الكَون، وُصولًا إلى الدُول، فِي التَارِيخ/الزَمَن.

وَلعلَ أَجمل مَا يُمكِن أَن يَصدُر مِن فُنونِنا الجَسدِية تَعبِيرياً (وَ”التَعبير” لَا يَستلزِم كَونَها عَملِية بِنائِية مُعقدَة تَعبيريًا، بَل التَعبِير فِي أَبسَط حَالَاته الإِنسَانية كَالمَشي الحُر) يَبدَأ بِإتْبَاع حَاسةَ البَصر إِلى حَاسَة السَمع، فَيُصبح النَصُ البَصري حِينها تَمظهُر ضَوئِي للإِيقَاع، وَلأَن أَجسَادَنا تَوثِيق للعَلاقَة بَينها وَبَين الفَراغ/الخِطاب السَابِحةِ فَيه، فَبئسًا لِما تُخبُره عَنّا أَجسَادُنا، وَتَضادُها حَتى مَع “إيِقاع”ـها الدَاخِلي وَعَوِيلها الُمنمَق بِالمَعدن خَارِجها…. وَهُنا يَجب أَن تَخرجَ فُنونُنا الجَسدية -وَللجَسد نَصٌ مُوسِيقي له إِيقاعٌ مُنتظِم يَمنحُه الحَياة : “القَلب”، مُذ كَان فِي الرَحم وَإدراكه الوجودي الأول لتسعة أشهر كان إِدراكًا إيِقَاعيًا- لِلنُور بِكامِل إِتِساقِها مَع إيِقاعِها، لِلفَراغ المَكانِي دَاخِليًا وَخَارِجيًا.

فَفراغُنا المَدينّي -نِسبةً إلى المَدينة- لَا يَختَلف عَن فَراغنا الذَاتي إِنسَانيًا إِذ إِختَفى مِنه “الإِيقاع” فَصار طَاردًا، بَل مُنقبضًا عَلى نَفسِه، يَسهل عَليه أَن يَنكَمشَ عَلينَا وَيضيقَ وَنضيقُ بِه وَبنَا. اَلمكَان الذِي لَا إيِقاع لَه لَا يُعول عَليه، أَصواتُ مُدننا اِنعكَاس لِأَصوَاتِنا الدَاخِلية وَماوَصلنا إِليِه مِن تَشوه إِيقَاعِي، هِي مَحضُ تَصادِماتٍ مَعدَنيةٍ وَزجاجيةٍ (أُنظُر/ي المُوسِيقَى الحَدِيثة وَ اصطِبَاغاتِها الشَعبِية وَالإستِهلَاكِية وَالتِقَنية). عِندمَا نَخرجُ مِن مُدنِنا وأَمَاكِننا، تَغزُونا إِيقاعَاتُ العَوالمِ خَارِجَها/خَارجَ تَواطُؤِنا (الصَحراء/الجَبل/البَحر/السَهل وَغَيرهم) إِيقاعاتٌ نَنَسِبها -بِمُنتَهى الكِّبر وَالكَرم الكَذِب- إِلى “صَوتِ الصَمت”، بَينَما تِلكَ تَسمِيةٌ -وَالتَسميةُ أَولُ التَمَلكِ- تُعَري نَشَازنا الإِيقَاعِي فَي دَاخِلنا وَمُدُنِنا… كَمن يَسيرُ فِي كَونٍ مَعدَني، كُل خُطوةٍ عَلى سَطِح ذَلكَ المَعدَن تُخبِره كَم هُو وَحِيد، بِضَوضَائِه وَتَعدُدَاتهِ فِي المَعدَنِ، وَهُو يَركُض.

نَحنُ فِي حَاجةٍ لِتحرِير إِدراكِنا الصَوتِي/ المُوسيقِي للِإيقَاع فِي حَياتِنا وَداخِلنا وَفي كَوننا… مَنعًا لِوثنِية الجِهات فِينا. مَكانٌ لَا إيِقَاع لَه لَا يُعوَّل عَليه …. فَلنخرِج تِلك المُدن التِي يَعلو فِيها صَوت المَعادِن وَالزُجاج وَإنِكسَاراتُ الضَوءِ السَيف عَلى ظُهورِ أَهلها مِنا .. يُلملِمونَ هَزائِمَهم اللَامعةَ وَيختَالونَ بِها فِي سُوقِ النِخاسة الأَبيضِ…. فبِئسًا لِمنبرٍ لَا وَتَرَ عَليه … بِئسًا لِنغمَة تَصمت فِي السَجدَةِ أَو حُضورِ الصَولَجان، وَلونٍ لَا إِنعكاسَ لَه فِي الإِيقَاع … بِئسًا لِنَبي لَا يَبكِّ لِإيقَاع نَهدَينِ عَلى العَرش، بِئسًا لمِدينةٍ لَا إيقَاعَ لِنُورِها.

 بالسمع ندرك المواقع التي يشغلها الصوت داخل العلاقات و العمليات الإجتماعية التي تنتج وتولد وتشكل “المجتمع”، فلكل علاقة إجتماعية مكان وزمان، يربطهما الصوت، بل أن غياب الصوت (أو ذلك الصوت المسمى صمتًا) هو إستنفار الحياة لدلاة الموت و الغياب، وحتى تلك تأويلات مختلفة للصمت/الصوت. حياتنا وفراغاتنا المدينية ذات الهوية الرأسمالية السلعوية، حولت أصواتنا وأغانينا وموسيقانا إلى بضائع يجري تداولها في السوق والإستهلاك، جاعلة الغالب على طباعها التقانة و التكنولوجيا الرياضية الحدّية في الدقة و القياس والنسخ والهارمونيا، مايعطي الصوت وهو المدرك الفراغي إدراكًا خطيًا لا محيطيًا، فتخضع أصواتنا لتأثيرات الجنوسة و القوة، جاعلة من الخط أولى على الدائرة.

 Abd2

(4)

مَكانٌ لَا يَمتدُ فِيهِ الجَسدُ إِلى الجَسدِ لِيُجفلَّ الوَقَتَ، لَا، هُو الوَقتُ يُهندسُ الأَجسادَ، لِتَبقى رَاضيةً لِقيدِها فِي بُرهاتٍ يُمكِن قَنصُها، وَ لا تَقتَنصهَا، وَ إِلا اِنهارَت جَهالةُ الجَسدِ بِحكمَتهِ، وَتَحرَر الشَيخُ مِن الحَاجَةِ. مَكانٌ مُجتزأٌ مِن حَوارَاتِنا فِي فِقهِ العَدم، مُتحصلٌ مِن خَارجٍ لَا دَاخلَ لَه.

(تجمع لمجموعة من الدعاة السعوديين امام الديوان الملكي، رفضاً لإدخال برنامج الرياضة البدنية إلى مدارس البنات)

 Abd3

(5)

أَنا اِبنُ المَدينةِ/المَنفَى، أَنا اِبنُ الهَاجسِ المُتمدِن بَالفَقدِ وَالعَويل المُنمَق بِالزُجاجِ وَالمَعدنِ، حَيثُ لَا تَراجمَ لِلشكِلِ وَاللَونِ، هُو نَقلٌ لَا تَأملَ فِيه، هُناكَ فِي المَدِينةِ المَنفَى نَظلُ أَضدادًا لِذَواتِنا، لَا بِمعنَى الرِحلةِ وَالذَهاب لِآخرِنا، إِنمَا بِالنَفي نَتوَاجَد فينَا.

تَتشحُ بالثَباتِ فِي المَنافِي وَالمَتاهَات وَالمَعارِك المُتخَيلة مُدُننا وَبِلادُنا، مَاذَا لَو كَانَت مَبنيةً عَلى ظَهرِ حُوتٍ كَضَباب مُتزن بِغرُور بَينَ تَواطؤِ المَوجِ وَصدِق الخَيَالِ..؟؟؟ مَاذَا لَو قَررَ الحُوتُ بعدَ أَن أَعيَّا الضَبابَ اتِزانهُ الكَذِب، أَن يَغوصَ فِي الأَعمَاقِ –أَعمَاقِنا وَأَعماقِه- ؟؟ أَتُرانا نَرتِق الخَيالَ حِينها بِنُوءة الوَاقِع أَم نَتَعامَى عَن صِدق الكّذب؟؟

(رَمت فِي جَوفِي المَالح تَساؤُلها، فَاتضَح أَمر المَسافَةِ وَالمَكان مِني).

Abd4

(6)

تِلكَ مَدينةٌ تَغدُو فِي تَيهِ هَذَيانَاتِها الأَخِيرة فِي الدَم وَالصَلَواتِ، جُثةً لِجَسَدٍ نَدِيّ، بَلَلَتهُ نظراتُ عَاشِقٍ نِصف ثَملٍ بِالشِعر وَأَخرَسَهُ صَولَجانُ حَاكِمٍ وَلِحيةُ شَيخٍ. مَدِينَتي تَطويقٌ للقَطِيعةِ الجَسدِية مَع المَكانِ بالمَنفى، وَتَماهِيه مَع نَصلِها البَاذِخ الكَذِب كَشُعراءِ البَلاطِ، يَلمَعونَ بِقَدرِ مَا يَكذِبون. مَدِينَتي فُقدانٌ مَلموسٌ لِدِرايَتي بِي، هِي تَرتيبٌ صَامِتٌ لِبَسالةِ الرَمادِ، وَأُبهةُ الفُقدانِ، مِعمارٌ مِن أَوجاعٍ و َمنافِي. مَدينَتـــــــــــ“ي” أَسيرُ فِيها مُترعًا بِلَذتِها النَدِية بَأنَني لَا أَنتَمي إِليَها تَمامًا وَلَستُ غَريبًا عَنها تَمامًا، وَ اليَاءُ مَعرِفَتي بِي لَا بِها فِي النَسْب. عَينَايَّ مَفتُوحَتانِ عَلى أَلفِ مَجازٍ وَمَجَاز، تَرتَطِمُ كُلها بِلُغتي فَيُصِيبُني الخَرَسُ وَالإِتسَاعُ. مَدِينَتي دَسائِسُ الإِقَامَةِ فِي مَصائِر غَيرِنا، هِي مَلهاةٌ تُجيبُ عَن سُؤالِنا الفَادِح: “مَا قِيمةُ وُعُود المُنتَصر؟” عَلى حَافَةِ كُؤُوسِ الهَزيِمة. مَدِينَتي هَزِيمَتي.

(إِلَى القَاهِرة وَعَمّان مَعًا)

 Abd5

(7)

أَمثِلة عَلى الهَندَسةِ الجِنسِيةِ فِي المُجتَمع سُلطَويًا (لِصالِحِ الذُكُورَةِ):

فِي اللُغَةِ، تَطَوَرَ مَفهُوم “الزِنا” وَ “العَلَاقَة الجَسَدِية” وَ اِنتَقَل مِن الحَيز القِيَمّي/الجَمَالي/الفَردِي/الأُفقي إِلى الحَيز الكَهنُوتي/السُلطوي/الجَمعي/الرَأسي الغَالب عَليه الطُقوسية وَسُلطةَ الثَقافَة الكَهنُوتية المُذَكرة، لَحظةَ خُروج آَدم وَحَواء مِنَ الجَنَةِ، وَإِنبنَاء المَعرِفة فَي رُؤيةِ جَسَدَيِهما حِينَ أَكلَا مِن شَجَرَةِ المَعرِفة. وَهُو مَنطق الكَهنُوت فِي الزَواج -بِدعوَى بَاطلة تاريخيًا أَنَ الدِين هُو مَصدَرُ الأَخلاق- . فَما أَكثر الزَواجَ فِي كَهنُوتِنا وَبِلادِنا وَما أَقَل الأَزوَاج. (وَلنا فِي تَاريخِ البَغاءِ عَبر العُصورِ أَدَلُ دَلِيل).

فِي المكانِ: أَن تَجدَ فِي عَاصمةٍ عَربيةٍ “سَكنًا للمُطلقات”، أَو الفَصلِ الجِنسيِ فِي الفَضَاءَاتِ العَامَةِ كَالمَدارس وَالأَسواقِ وَالشَوارِع. (هَل تَستطِيعُ فَتاةٌ الرَكضَ -مُجرد الرَكض هُو بَذخٌ فِي التَخيُلِ، بَل الهَروَلةُ أَو المَشيَ وَحيدةً مِن دُونِ ظِل ذُكوريٍ- فِي حَيِزِنا المَدِينِي الفُحولِي دُونَ أَن تُغدقَّ عَليها مَوَاثِيقُ الإِبصَار  بِسيفٍ مِن مَنعٍ وَتعجُبٍ وَنَفيٍ!!)

كُلُ ذَلكَ إمتِدادٌ للخِطابِ السُلطَوي الفُحولِي فِي المَكانِ المُجنسَّن (من جنسانية)، كَأن يُقالَ مَثلًا أَن “الحِجابَ” مُقاومةٌ لِذلكَ الخِطابِ المَكانِي (باِعتِبارِ الحِجاب/الاِحتِجَاب هُو عَن “الغَريب/الغَير مَحرَمٍ” فِي الشَرع أَي فَاقدِ الشَرعِية الدِينيةِ، فَتُصبحُ الغَرابةُ هُنا كَهنُوتِية مَادِية وَ لَيسَت قِيَمِية أَخلَاقية)، أَو الفَصل فِي الفَضاءاتِ العَامة إِنما هُو مُقاومة… ذَلكَ مَحضُ تَدليسٍ عَلى فِكرة المُقاومة وَتَكريس للسُلطة المَركزِية : “القَوة/الظُهور” وَمَركزُها فِي الآَخر المُذكَر (الألفا) /الإِله/الأَب/الأَخ/المَحرم/النَبي وَليسَ الذَات المُؤنثةَ (مَفهُوم الغَريب وَالغَير مَحرَم/القَوامة اللُغوِية وَالجَسدِية وَالدِينِية). وَ تَقوم تِلك الفِكرةُ المُتحايِلة باِسم المُقاومةِ، فِي أَساسِها عَلى كِليشِيهات ثُبوتِية نَمطِية عَن الجِنسَانية رَأسيًا، وَلا تَقومُ عَلى كَسرِ  تِلكَ الثُبوتِية اَلمُدعاة أَو مُقَاوَمتها -كَما تَدعِي- بِنفي خِطابِها وَلَيسَ بِشَرعَنتهِ مِن دَاخِلهِ.

Abd6

(8)

النَافذةُ عَين البَيتِ عَلى العَالم، وَالضَوءُ رُوحهُ الدَاخِلية وَ إِدرَاكه الذَاتي لِذَاته، وَبالتَالي فَموقِفنا مِن العَالمِ/الكَونِ/الآَخرِ/الفَراغِ المُحيطِ يَتحدد مِن كَيانَاتِنا الأَوليةِ وَعَلاقَتنا بِها (الجَسد/البَيت -وِإن كُنت أَميلُ لتَسميتِهِ “المَسكن”-). أَجسَادُنا وَمَساكِنُنا تَكشِف حَالةَ الطَرقِ وَالسَحبِ التِي تَعرضَت لَهَا وَحَالةُ الاِستِلابِ وَالتَنمِيط/الهَندسةِ السُلطَوية التيِ تَتَعرض لَها حَيِّزاتُ أَجسَادِنا دَاخِليًا وَخَارِجيًا: الحَيز المَنفيُ وَالحَيزُ المُتَصل تَحتَ مُختَلف أَنواعِ السُلطةِ: المَعرِفة/الدِين/الثَقافة/المُجتمع/الإِقتِصاد/السِياسة، وَغيرُهم، فَأجسَادُنا لَيست مَانَراه مِنا، بَل مَا يُريد الخَارج/الأَقوى/القَامع أَن يَراه فِينا وَفِيها، وَلنَنظُر لِطُقوسِ الزَواجِ التِي هِي بِدايةُ عَلاقةٍ جَسديةٍ سَويةٍ تُتمِم مَعنى التَجرِبة الإِنسَانيةِ الوُجودِية-هَكذا يَجب أَن تَكون-، إِذ هِي مَحض إِعلان مَكانِي/ مَدِيني بِكلِ وَسائِل الإِخبار  لِنُخبِر “خَارِجنا”: “هَانَحن ذَا نَقوم بِكل مَاترتَضيه أَعرافُك لِنُعلنَ أَننا سُنمارِس أَبسطَ حُقوقِنا الجَسدِية فِي مُمارَسةِ الحُب بِالشَكل الذَي تَرتضِيه أَنت/السُلطة”، وَفِي اليَوم التَالي لَايمكن لهاذانِ العَروسانِ أَن يَتبَادَلا قُبلةً فِي حُضورِ “خَارجِهم” دَاخِل أَجسادِهم، وَرَقابَته عَليهم وَعَلى أَجسادِهم/ـن، وَ إِلا إِتهِمُوا بِفَضائِحية الفِعل وَتهدِيد الفَضاءِ الجَامعِ، وَهُم الذِين كَانوا يَرجُون قَبولَ “الخَارجِ” لَهم اللَيلة المَاضيةِ، وَلِعلاقَاتية الجَسد العُضوية. وَلَعل الحِجاب/ وَالتَعرية، وَجَدليتَهِما فِي عَصرِنا، وَإِن حَققا حَالة مِن التَجاور الدَلالِي الصِحي، إِلا أَنهُما لَا يُقاوِمانِ الخِطابَ السُلطَوي الفُحولِي المُسيطِر عَلى فَضاءَاتِنا وَأَجسَادِنا.

نَسيرُ فِي فَضاءَاتنا العَامةِ (الشَوارع وَالمَيادِين وَغِيرها) نَستعرِض تَمظُهرات قَبولِ المُجتَمع لأَجسَادِنا فَنَتحجب وَنطيل وَنُوسعُ وَنَلتحِي وَلا تَتَلاقى أَعيُننا فِي حَيَواتِنا المُتَوازِية إِلا عَرَضًا أَو خَوفًا، لَا لأَننا هَكذا نُرِيد، وَلَكن لِأن “خَارِجَنا” هَكذا يُعّرف دَاخِلنا وَيُقدمه لِنفسِه، لَا لِذاتِك بِقدر تَناغُم تِلك الذَات مَع الخِطاب المُسيطِر سُلطويًا ، فَنَتحَول إِلى “أَشياءٍ” تَتَصادم أَو تَتَجاور إِنما لَا تَلتقِّ.

فِي مِعمَارِنا تَتَقلصُ مَساحاتُ “الشُرفاتِ” لَأن “الشُرفةَ”  فَضاءٌ حَدِّي أَو هِيَ تُخومُ الِلقاءِ بَينَ الدَاخِل وَالخَارجِ أَو الذَات وَالآَخر ، دُون أَن تَطغَى سُلطة أَحدِهما عَلى الآَخَر ، فَتغدو مَساحة مُعادلةٍ أَو مُوازنةٍ بَينَ فَضائَين أَو فَراغَين، فَتصيرُ حَالةُ الحِوار الصِحي مُمكنةٌ إِذ يَتَساوى الدَاخِل وَالخَارجُ وَنبقَى نَحنُ مِنهما عَلى مَسافةً وَاحدةٍ مِن إِتزانٍ بَين الشُرفات.
الشُرفات فِي مُدُننا لَا تَتَقلص فَقط إِنما تُسد وَتُغلق لَأننا نَعيشُ حَالةً مِن الإِنفصَال وَ الإِستِلاب الدَاخِلي لِحسابِ الخَارجِي وَالعِدائية وَالتَصنِيفات، لَا نَخرجُ إِلى “شُرفَاتِنا” إِلا لِنرَى مَن/مَا أُريدَّ لَنا. إِننا أَيضًا أَشياءُ تَتَجاور أَو تَتَصادم فَقط فِي خُطوطِها المُتوازية، لَاعجبَ أَن تَتَنامى تَياراتُ التَكفِير/الطَمس وَ الإِقصَاء السُلطَوي/الفُحولي بِناءًا عَلى تَصنيفاتٍ لِشُرفات مُغلَقة لَا يَستطيعُ الخَارج فِيها أَن يَرى دَاخِلها أَو يُحاوِره، فَيُشيطِن مَاورَاءها، وَلا يَستطِيع الدَاخل إِلا أَن يَكون بِفردَانِيته جُزءًا مِن حِياكة خِطابِ الذَاتية وَالسُلطة للخَارِج.

أَرى بَيتَ جُوزيف حَرب إِذ يَقوُل:

“فَتَحت فِي الجِدار نَافذةً،
لَا كَي أَرى مَا قَد تَرى عَينيَّ مِن الشُرفة
بَل كَي أَرى الغُرفة”

قَد بَاتَ مَعكُوسًا وَمُتحقِقًا فِي آنٍ.

 

Abd7

(9)

سَكبتُ عَلى تَراسِيمِها العَاريةِ مِن الكَون، مِن بُحورِ بَصريِ، “الخَجول” وَ”الطَمَاع” وَ”العَاشِق” وَ”الشَبَقي” وَ”المَهزُوم”، كَأطفالٍ يَخرجُونَ مِن سُورِ مَدرَستِهم إِلى الله فَرحِين مَسرُورين، يَحملُونَ أَسئلتَهم عَلى ظُهورِهم وَبينَ “زُوادَتهم” المَلفُوفةِ بدفءِ أُمهَاتِهم، يَتعدَدونَ بِقدرِ مَاجَمعَت هِي مِن سَريرِنا المَسرُوقِ، آَلهةً أَنهكَها الشَبق وَأجلَّتهَا المَعابدُ وَحَررها الإِلحَاد، تَاهت فِي أَجسَادِنا المُحتَلة وَالمُرَاقبَة وَالمنتَهكة وَالمُنهَكة، وَأَبياتُ شِعرٍ اِتزَنتْ عَلى حَبَتَيِ رُمانٍ تَائهَتينِ عَلى صَدرِها وَشَهقتِي، وَ”مؤنثٌ” لَا تَسجِنه الدَلالةُ بِزواجِها الكَاثُولِيكي بِه فَي “بَيتِ طَاعةِ” القَضيب وَخَيمَته.  فَكان صَمتي عَاليًا، حِينها انتَبَهتْ إِلى أَقزَاميَّ البَصَرِيةِ الهَاربةِ مِن خَيَالاتِي تَتَسَلقُ رُخَامَها وَ”مَكَاني”، فَقَالَت بِغرورِ اللهِ وَضعفِ الصَلَاةِ:

هُناكَ لَذةٌ أَقربُ لِجنونٍ فِي العَضلاتِ مِنها لتَجربة فِي القَلب، وَلذةٌ تُفرغُ مَاتَراكَم مِن تَوترٍ، وَتُجيزُ  وِشايةَ الأَعضاءِ بِالأَعضاءِ، فَتهربُ بِنا عَبر الحُدودِ المَمنوعَةِ، لَذةٌ تَنتقِمُ وَتُسيطِر، لَذةٌ تُحررُ وَضعًا سَابقًا، وَلذةٌ تَروي فِيه جَانبًا. لَذةٌ تَنتشِي باِلنَصرِ وَ لذةٌ تُفرقُه، وَلذة تُلوِثه، وَلَذةٌ تَجعلهُ رَملًا جَافًا فِي ظَهيرةٍ…. لَا تُؤمِن إِلَا بِلحظَةِ الضَائِعِين، فَاللذةُ كَالفَنِ، قَد تَنشأُ مِن نَقصِ الحَياةِ وَقَد تَنشأُ مِن فَيضِها، قِلةٌ مِن الكَائناتِ تَحيَا بِكلِ زَخمِ الحَياةِ الكَامنِ الذَي لَا أَتَبينُ، نَتَبينُ وُجودَه إِلا بِكل فَقدٍ يَعتَرينا مُنمَقًا، وَتَكشِفُهُ الصَحراءُ وَ تُصفِق لَه الأَعين، زَخمٌ لَا نَتَبَينه إِلا عِندمَا نَلتقي بَأَحد مِن هذِه القِلةِ عَلى الضَفةِ الأُخرى مِنّا، يَترك عَلامةً فَارقةً فِي حَياتِنا من ظِله، يَجعَل مِن الهَامِشي مَلمَحًا فِي الوَجهِ وَالجَسد.

لمَلمَتْ شَهِيقِي مِنها وَأَعَادَته إِلى رَفِّ مَكتَبَتِي، وَنَظرَت إِلي كُتبِي: “أَكلُ هَذه إِنتصَارَتُك؟”
- “بَل هَزَائِمي، قَبلَكِ”.
- “لَا زَمانَ لِي، قَبلًا أَو بَعدًا، لَا زَمانَ لِي، أَنا أَنتَ فِي الصَحراءِ”.
- “لَا تَرحَلي”.
- “لَن أَفعل، فَأَنا مَا أَتيتُ، لَهيبُكَ فِي رَمادِكَ، لَا فِي مَدِينَتِكْ”.

- “كَيف؟”.
- ….
وَابتَلعَتها المَدِينة.

 Abd8

(10)

مُدنُ الزُجاجِ وَالمعدنِ الصحراوِيةِ عَلى نَوافِذ الخَليجِ العربيِ، بِها مَسٌ مِن طَفرةٍ، وَلكنَها طَفرةُ الصُورةِ لَا المَعنَى، فَقد جَاوَزت مُدن الخَليجِ الحَداثَة قَافِزةً إِلى بَراثِن المَابَعد الحَداثة بِشكلِها الرَأسمَالي النيولِيبرَالي، مُتلبسةً ثَقافةَ الإِستِهلاك وَالإستِثمار. كُل ذَلكَ دونَ المُرورِ بالحَداثة كَسائِر مَن إِضطرَ للمُرور  بِها وَمافِي ذَلكَ مِن فَتراتٍ بُنيويةٍ مِن نُموٍ صِناعيٍ وَمعرفيٍ وَتقدمٍ عِلمي وَإجتمَاعيٍ وَتكنولُوجيٍ، مَا فِي ذَلك مِن مَفاهِيمٍ تَنبَني مِن خِلالِها المُعاصَرة، مَفاهِيم تَتَأسس جَميعُها عَلى التَجربة وَالخَطأ، وَالتَعدديةِ المَنطِقية وَالتَقابُلِية، وَتلكَ قَواعدُ يُعادِيها المُقدسُ الأُصولِي السَائد اَلذِي يُعرَّف آَخرَويتهُ فَقط ضِمنَ عَلاقة (جَنة/نَار) التِي نَشأت فِيهَا تِلك المُجتَمعات، وَأنتَجت نِظامَها الوُجودِي مِن خِلالِه. مُجتمعٌ ظَلَ مُنغلقًا عَلى إِمتدَادَه العَدمِي فِي الصَحراء الشَاسعةِ لقُرونٍ، لَا آَخرَ لَديِه ليُحَاورَهُ وَيختَلفَ مَعهُ وَيعرفَ مِن خِلال الحَوار  ذَاكَ امتِدَادَاتِ ظِلِهِ، وَبالتَالي فَالمُجتَمع لَم يَتَحصل عَلى حِراك يَعرف مِن خِلالِه ذَاتَه، وَبالذَات فِي ظِل بيئةٍ رَعويةٍ لَا تَتطَلب الكَثيرَ مِن الرَفَاهيةِ للمَعيشةِ فِيها. وَمن ثَم جَاء الذَهب الأَسود، وَحَولَ تِلك المُجتمعات وَالدُول إِلى دُولٍ وَإقتصَاداتٍ ريعيةٍ، فَارتَفعَ مُستَوى الدَخل اِرتفَاعًا مَلحوظًا، وَازدَادت مُتطلباتُ المُجتمعِ وَالأفرادِ مِن أَدواتِ الإِستهلاكِ وَالرفاهيةِ وَالإتصَالاتِ، وَهو مَالم يَكن مَسبوقًا وَلا مَلحوقًا بِثقافَةِ الإنتَاج، وَتَعاظَم دَورُ “الإِستهلاك” فِي تَحديدِ وَ تَشكيلِ هُويةِ الفَردِ وَدورِهِ الإِجتماعِي وَالإِقتصادِي وَسقفِ حُقوقهِ السِياسِيةِ، وَأفقهُ الثَقافي وَحِراكهِ المَدنِي الإِجتمَاعيِ مِن عَدمهِ، مُتخِذًا مِن الأُصوليةِ الدِينيةِ المُتجذرةِ وَ المُمأسَسةِ وَالمُؤسسةِ للفَضَاءاتِ العَامةِ وَالخَاصةِ سَندًا ودَعمًا مجتَمعيًا وَمؤسَسيًا، فِي تَحديدِ إِدراكِ الذَاتِ للذَاتِ وَالآَخر وَ العَالم، مُحيطةً نَفسَها بِعنجَهيةِ المُقدسِ وَالثَريِّ.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>