كتابي: من هو اليهودي؟! لعبد الوهاب المسيري / لينا أبو الحلاوة

كتابي: من هو اليهودي؟! لعبد الوهاب المسيري / لينا أبو الحلاوة

لا تنتهي الأزمة عند تعريف الهوية اليهودية، بل إنها تتفاقم لتصل إلى مشكلة تعريف “الصهيوني”، فهل هو الذي يهاجر إلى “إسرائيل”، أي من يمارس الصهيونية الاستيطانية، أم اليهودي الذي يدعم المستوطن الصهيوني دون أن يهاجر ويكتفي بالصهيونية التوطينية؟

qaddeeta - man howa al yahoode

| لينا أبو الحلاوة |

يُعدّ سؤال الهوية عند اليهود قضية محورية منذ أن كانوا مشتتين في مختلف الدول؛ ومع قيام الدولة الصهيونية أصبح حل هذه القضية ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن الفشل في تعريف الهوية اليهودية يضعف مقدرتها التعبوية لصالح الدولة الاستيطانية، بل يضرب أسطورة الشرعية الصهيونية في الصميم.

تأتي مشكلة تعريف الهوية وتناقضاتها من واقع أن اليهود أتوا من إثنيات وأعراق ومرجعيات مختلفة؛  فهناك صراع بين يهود الشرق والغرب يتمثل في سؤال: هل اليهودي هو اليهودي الأشكنازي الأبيض وحده؟ أم أن مقولة اليهودي تشمل يهود العالم كافة، بما في ذلك السفاراد والفلاشاه؟ ونرى أن هناك صراعًا بين دعاة الصهيونية الدينية ودعاة الصهيونية العلمانية، فما هو مصدر الهوية اليهودية؟ هل هو التطور التاريخي والتراث والانتماء العرقي، أم أنه الاختيار الإلهي والتاريخ اليهودي المقدس؟

ظلت هذه الصراعات قائمة حتى قيام الدولة، حين صدر قانون العودة الصهيوني الذي يعطي لأي يهودي الحق في الاستيطان في فلسطين استنادًا إلى “يهوديته” التي لم يجر تعريفها بعد؛ ومما لا شك فيه أن هذا القانون أُقِرّ لتلبية متطلبات المرحلة ولا يعبر عن مقدرة الكيان على تعريف هويته وشخصيته.

والشخصية (أو الهوية) هي نتاج تفاعل بين مجموعة من البشر ومركب من الظروف التاريخية والبيئية الثابتة على مدى زمني معقول، وهو الأمر الذي لم يتوفر إلا للعبرانيين؛ وعليه لا يمكن الحديث عن شخصية يهودية أو هوية يهودية، إنما يمكن الحديث بدلًا من ذلك عن الشخصيات والهويات اليهودية، إذ أن الهويات اليهودية المختلفة تحددت في غياب سلطة يهودية مركزية، دينية ودنيوية، عبر الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضارية ومن خلالها، الأمر الذي نجم عنه تنوع هائل في الهويات اليهودية. ولا ننسى أن التزايد في معدلات الاندماج أدى إلى الابتعاد عن التراث أو الموروث الثقافي التقليدي، وبالتالي إلى ضعف الهوية الإثنية الخاصة.

فيما يتعلق برؤية الصهيونية للهويات اليهودية، يجمل عبد الوهاب المسيري تعريفات الهوية كالتالي:

1- التعريف العرقي: يُصِرّ المدافعون عن هذا التعريف على رؤية اليهودي باعتباره عنصرًا عرقيًّا متميزًا، وبالتالي فإن القومية اليهودية بالنسبة لهم تقوم على رابطة الدم، تمامًا كما عرّفت النازية الهوية الألمانية؛ لكن هذه النظريات لم تعد مقبولة في الغرب، خاصة بعد محرقة الهولوكوست.

2- التعريف الإثني أو التراثي: يرى الفريق المؤيد لهذا التعريف أن هناك تماثلًا في أوضاع اليهود الإثنية والتاريخية، والمختلفة من بلد إلى بلد، وبالتالي فإن ما يجمعهم هو الدين والتاريخ المشترك.

3- التعريف الديني: لم يقبل الصهاينة الدينيون التعريفات السابقة وحاولوا استرجاع قداسة الهوية اليهودية؛ وحينما يتحدث المتدينون عن اليهودي، فإنهم يستخدمون، كما هو متوقع، معيارًا أرثوذكسيًّا.

هذه التعريفات تحيل إلى السؤال التالي: أي من هذه الرؤى غلبت على ملامح هوية الكيان الصهيوني؟

هناك مؤشرات عديدة تبين أن الكيان الصهيوني ذو طابع قومي أكثر من كونه دينيًّا؛ فبشأن العديد من قضايا الإقامة والمواطنة، أخذت المحكمة الإسرائيلية بتعريفٍ لا ديني لليهودي، وجعلت أساس اليهودية الانتماء القومي. وقد عَرّفَ، أيضًا، قانون العودة المُعدّل عام 1970 اليهودي، بأنه من وُلد لأم يهودية، شرط ألا يكون على دين آخر، ونصّ أيضًا على أن اليهودي هو المتهوّد، وهو تعريف يعتمد على الجانب الإثني والديني.

بالنسبة لتوجهات المستوطنين اليهود الدينية، تشير بعض الإحصاءات (ما قبل عام 1995) إلى أن نسبة المستوطنين الذين لا يؤمنون بالخالق تبلغ 80% من كل “الإسرائيليين”، وهؤلاء ينظرون إلى الشعائر الدينية على أنها فلُكلور قومي.

ومع ذلك، يجب ألّا نغفل حقيقة أن الدين استخدم من كافة الحركات السياسية الصهيونية، حتى الأشد علمانية منها، من أجل تجنيد اليهود ومحاولة صياغة هوية أكثر تماسكًا؛  فقد اتخذ المؤتمر الصهيوني الخامس (1901) قرارًا بتأسيس حركة دينية تُسهم في تثقيف اليهود روحَ القومية اليهودية، أي تُظهر التلاحم الكامل بين القومية والدين، وبذلك جرى صهينة اليهودية وتهويد الصهيونية إلى درجة كفيلة بخدمة المشروع الصهيوني.[1]

وفي السياق ذاته، وضح المسيري في كتابه كيف أن أعضاء الجماعات الدينية استجابت لتعريفات الصهيونية للهويات اليهودية. ذلك أن الصهيونية طرحت (بصيغتها اللادينية) نفسها حركةً لتطبيع اليهود، وطرحت مفهوم “اليهودي الخالص” صاحب الهوية الحقيقية ليحل محل “يهودي المنفى” الذي يخفي هويته ويتقمص هوية الآخرين، على اعتبار أن الدولة الصهيونية التي يقال لها “يهودية” ستكون المسرح الذي تتحقق عليه هذه الهوية. وفقًا لهذه الرؤية، قبل الصهاينة الدينيون المشروع الصهيوني وتحالفوا مع اللادينيين على أمل أن تتاح لهم الفرصة بعد ذلك لفرض رؤيتهم الدينية، بحيث يكون “اليهودي الحقيقي” هو اليهودي حسب التعريف الأرثوذكسي. لكن هذا أيضًا أدى إلى توترات عميقة بين الدولة الصهيونية من جهة، والجماعات اليهودية في العالم ممن لم يؤمنوا بالمشروع الصهيوني من جهةٍ أخرى.

يمكننا تلمس ملامح هوية يهودية عربية عند المفكر التونسي ألبير ميمي، ففي السياق ذاته الدائر حول سؤال الهوية اليهودية عمومًا، وسؤال “من هو اليهودي العربي؟” على وجه الخصوص، يحيل ميمي اليهود العرب إلى حاضنة ثقافية وتاريخ من التقاليد في منطقة جغرافية محددة يقطنها من يسمون العرب، ويوازن فيها بين اليهودي والمسلم والمسيحي، إذ يشير ميمي إلى أن “مصطلح اليهود العرب ليس جيدًا”، ويقول: “لقد تبنيت المصطلح لضرورات الإقناع. أود ببساطة أن أؤكد على كونهم أهل تلك البلدان المسماة عربية، وأنهم أصلانيون قبل مجيء العرب إليها، شاركناهم إلى حد كبير اللغات والتقاليد والثقافات. وإن كان لأحد أن يؤسس لنفسه على هذه الشرعية، وليس على القوة والأرقام، فسيكون لدينا الحقوق نفسها في امتلاك هذه الأراضي، لا أكثر ولا أقل، من العرب المسلمين. لكن، علينا أن نتذكر في الوقت ذاته أن مصطلح (عرب) ليس مصطلحًا يبعث على السعادة إذا ما طبق على ذلك الخليط من السكان، بمن فيه حتى أولئك الذين يدعون ويؤمنون أنهم عرب.[2]

بالاستناد إلى طرح عبد الوهاب المسيري، يبدو جليًّا أن المشروع الصهيوني فيه كثير من الإغراءات لليهود بمختلف مرجعياتهم، لدرجة دفعت الكثير منهم للشعور بالفخر بيهوديتهم رغم خلوّ حياتهم من أي مضمون ديني أو إثني؛ إذ يتحدث المسيري عن مقولة “اليهودي غير اليهودي” بمعنى الذي يدعي اليهودية ويتباهى بها (وهذا هو النمط السائد بعد وعد بلفور والحرب العالمية الثانية)، ويسعى دائمًا لإبراز جوانب شخصيته التي يتصور أنها يهودية رغم أن حياته تخلو من المضامين الدينية. كذلك يتحدث عن مقولة “يهودي بشكل ما”، وهي مقولة كوميدية لا تختلف عن تعريف سارتر لليهودي لأنه “هو الذي يشعر في قرارة نفسه بأنه كذلك.”

بل إن مشروع الدولة الحديثة أغرى العديد من الأشخاص غير اليهود، والذين ليست لهم أي جذور يهودية على الإطلاق، إلى حد دفعهم نحو ادعاء اليهودية. والمصطلح “ادعاء اليهودية” ينطبق على يهودي مندمج تمامًا (يهودي غير يهودي) نسي يهوديته، لكنه تحت ظروف معينة يدّعي أنه يهودي. وهنا برأيي تبرز هشاشة الذات اليهودية، فهناك بعض اليهود الذين أنكروا يهوديتهم وادعوا المسيحية في وقت تعرضوا فيه للاضطهاد والتهميش في المجتمعات الأوروبية خطوةً نحو الاندماج في محيطهم، بينما قاموا في وقت آخر بإعادة تشكيل ذاتهم اليهودية لتتناسق مع أهداف المشروع الجديد، بعد أن كانوا قد نسوا تمامًا جذورهم اليهودية.

لا تنتهي الأزمة عند تعريف الهوية اليهودية، بل إنها تتفاقم لتصل إلى مشكلة تعريف “الصهيوني”، فهل هو الذي يهاجر إلى “إسرائيل”، أي من يمارس الصهيونية الاستيطانية، أم اليهودي الذي يدعم المستوطن الصهيوني دون أن يهاجر ويكتفي بالصهيونية التوطينية؟

برأيي، إن المشروع الصهيوني اليوم، والمتمثل في تمكين وتطوير الدولة “الإسرائيلية اليهودية”، يحتاج لأن تُدْخَلَ في تعريفه للصهيوني كلتا الرؤيتين المذكورتين أعلاه. فالدولة تحتاج لتعزيز ديموغرافيتها، وبالتالي تصبح الهجرة والاستيطان قضية جوهرية في تحقيق أهدافها التوسعية، وهي تحتاج أيضًا لذلك الصهيوني الغربي الذي يقطن في دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من أجل الحفاظ على سيطرة اليهود داخل المؤسسات والأسواق العالمية، والعمل على تعزيز عمل اللوبي الصهيوني، خاصة في أمريكا. ومن هنا أصل إلى مسألة الصدام الذي تحدث عنه المسيري بين رؤيتين مختلفتين للهوية اليهودية، الأولى صهيونية والأخرى أمريكية يهودية؛ فالرؤية الأولى تفيد بأن “الأمريكي اليهودي” يهودي أولًا وأخيرًا، لذا لا بد أن يخدم الدولة الصهيونية، أما الأخيرة فتفيد بأن “الأمريكي اليهودي” هو أمريكي في المقام الأول وله مصالح تختلف عن الدولة الصهيونية. لكني أرى أن الصدام بين هاتين الرؤيتين ليس جوهريًّا، إذ لا يوجد تعارض يُذكر بين المصالح الأمريكية و الإسرائيلية.

بالرجوع إلى بعض الأدبيات الصهيونية في مرحلة ما قبل قيام الدولة الإسرائيلية، تتضح لنا إشكالية الهوية تلك، وتظهر تعريفات للذات اليهودية الصهيونية لا علاقة لها بالاعتبار الديني أو الإثني بقدر ما هي مرتبطة بالاعتبارات الوظيفية تجاه حماية الدولة من خلال خوض الحرب. ففي نشيد الحركة الصهيونية (ليحي) يُصَرّحُ من البداية عن اللا إجماع حول هوية اليهودي في المسألة الصهيونية، حيث التعابير “نحن الجنود المجهولون، الذين بلا زي موحد.” ومن ناحية أخرى تبرز المفارقة في أن النشيد لا يركز بتاتًا على من هو اليهودي، رغم أن مشروع الحركة صاحبة النشيد “يهودي” لدرجة الأصولية؛ وهذا يستدعي بروز اليهود المشار إليهم ضمنًا في النشيد بـ “نحن” بهوية المحاربين المنخرطين في قضية تحقيق الحرية والحب والخروج من حالة الدم اليهودي المسفوك في الأرض الغريبة (أوروبا). وتعويضًا عن غياب التماسك الهوياتي ذاك، جرى تكثيف حضور الاضطهاد وضرورة المحاربة ضده، إذ يبرز في النشيد أن اليهود في صراع مستمر حتى يتحقق الحلم. وتحقيق الحلم يكون عبر العنف، وهو بالنسبة للصهاينة ليس وسيلة فحسب، بل هو غاية في حد ذاتها:

في ظلال الموت نعسكر

وفي إرهابه

متطوعون من أجل الانقطاع عن نهاية أيامنا

الموت وحده يفصلنا عن واجبنا[3]

فاليهودي، إنسانًا، حسب التصور الصهيوني، يحتاج لممارسة العنف لتحرير نفسه من نفسه، وتحرير نفسه من ذاته الطفيلية الهامشية، وهذا يلتقي مع ما قاله مناحم بيجن: “أنا أحارب، إذن أنا موجود”، وفي اقباس آخر: “من الدم والنار والدموع والرماد، سيخرج نموذج جديد من الرجال، نموذج غير معروف البتة للعالم في الألف وثمانية سنة الماضية: اليهودي المحارب أولًا قبل كل شيء يجب أن يقوم بالهجوم: نهاجم القتلة. بالدم والعرق سينشأ جيل متكبر كريم قوي.”[4]


[1] خالد أبو شرخ, مقال “الصهيونية (16)..المدارس الصهيونية” ..راجع الموقع:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=271713

[2] ميمي، ألبير. “من هو اليهودي العربي”. راجع المقالة بالإنجليزية على صفحة:

http://www.sullivan-county.com/x/aj1.htm

[3] للاطلاع على النشيد مترجما باللغة الإنجليزية يرجى مراجعة

http://www.saveisrael.com/stern/sternsoldiers.htm

[4] فيما يخص العنف وارتباطه وجوديًّا بالمشروع الصهيوني وتحرير اليهودي يرجى مراجعة:

المسيري، عبد الوهاب. نهاية التاريخ. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 1979.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>