غوّاص في بحر النغم/ صالح ذبّاح

غوّاص في بحر النغم/ صالح ذبّاح

تميز الشريعي عن كل الموسيقيين المصريين بتفرده في كونه محلّلا موسيقيّا، في ساحة فنية عربية عموما تعاني قلة النقد والتحليل الفني والعلمي للقطعة الفنية، تميّز عمّار بتحليله الموسيقي لعدد لا يحصى من الأغاني والمقطوعات عبر برنامجه الإذاعي الشهير “غوّاص في بحر النغم”.

Ammar

| صالح ذبّاح |

في حب الشريعي بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيله

عندما يرحل المبدعون أو المبدعات عادةّ، يتأيقنون على الفور بفعل شبكات التواصل الإجتماعية والحاجة الماسة لخلق أيقونة جميلة، جذّابة (sexy) في عصر ما بعد الحداثة القاتل للمضامين الحقيقية، هكذا تسلخ الأيقنة عن الشخصيات الفذة فكرها وأسهامها الثقافي والاجتماعي وتفعل بها كل ما يتطلب لتصبح مصنفا فنيا يتصرف وفق قوانين الباستيش (pastiche) في المعجم  الثقافي لعصر ما بعد الحداثة، وكي لا يحصل هذا مع فنان وهامة فذة كالشريعي يستوجب علينا الوقوف قليلا عند تجربة عمار الشريعي، ذاك الطفل الكفيف الذي أول ما لامست أنامله كانت آالة الاكورديون وانتقل بعدها لاحتراف العزف على الأورغ ليصبح من أهم عازفي الأورغ عربيا، وشكل أحد أهم أعمدة الفن الموسيقي المعاصر في العالم العربي، منتميا تأريخيّا لجيل الوسط من الملحنين وكان أبرزهم في ثمانينيات القرن المنصرم، فبعد بليغ والطويل والموجي، إن أردنا ذكر أهم المسهمين في تطوير الثقافة الفنية المصرية، لا غنى عن ذكر الشريعي.

عند إدراج أهمية الشريعي كحالة موسيقية خاصة لها بصمتها الاستثنائية، نجد نفسنا أمام حالة ملحننا الضرير، ذي البصيرة العميقة والشخصية المرحة، الساخرة، والمتحدية للاعاقات الخلقية، مستمرًّا بعد نماذج مصرية عبقرية  مثل طه حسين وسيد مكاوي  في إثبات مقولة “كل ذي عاهة جبار”، وربما يستوجب علينا إسقاط كلمة عاهة في هذه المقولة إجلالا وخجلا من مبدعينا “ذوي العاهات”!

 انفرد الشريعي بموسيقاه الخاصة جدا، والتي إن سمعت مقدمتها تدرك على الفور أن أنامل الشريعي متورطة أجمل تورط فيما تسمع! إن كان على صعيد الأغاني العاطفية الملحنة للكثير من الوجوه الشابة آنذاك والتي حلّق بها الشريعي الى نجومية، مثل فرقة “الأصدقاء” في بداية الثمنانيات، والمؤلفة من الثلاثي : حنان، منى عبد الغني وعلاء عبد الخالق، وتبنيه لمواهب مبتدئة والقفز بهم الى جماهيرية عالية، أمثال لطيفة التونسية، هدى عمار وآمال ماهر، لكن إسهامه الموسيقي الأكبر وتفرده هو في التأليف الموسيقي للأفلام والدراما التليفزيونية: فمن منا لم يـتأثر بالمنديل الأخضر الطائر بين فايزة (سعاد حسني) وصلاح (عادل إمام) على وقع موسيقى الشريعي في فيلم “حب في الزنزانة”، ومن منا لم يشعر أنه يرافق ديفيد شارل سمحون أو رأفت الهجان (محمود عبد العزيز) في مهمة مخابراتية خطيرة في تل أبيب على وقع موسيقاه ،  نجح الشريعي من خلال موسيقاه المرافقة للحدث الدرامي بخلق ذاكرة صناعية (prosthetic memory) استطاع من خلالها زرع تجارب حسيّة في أذهان مشاهديه، متخطيا المسافة الزمنية والجغرافية في كل منها. ولا يفوتنا ذكر أنّ للقاءاته الفنية مع أحمد فؤاد نجم ألحان بنكهة وطعم الاسكندرية في مسلسلين دارت أحداثهما في المدينة الساحلية الساحرة وهما: “زيزنيا” و”ريا وسكينة”، صانعا فيها أجمل ما لحّن من تترات (موسيقى المقدمة والنهاية للمسلسلات).

شارك الشريعي بصوته في القليل من أعماله، وإن لم يكن على قدر من الجمال “المعياري” للأصوات، لكنه فاق بحسّه وألمه على كل المعايير الجمالية، قام بتأدية أغاني فيلم “البريء” (1986)، أحد أهم أعمال المخرج الراحل عاطف الطيب، المنتمي لجيل الوسط السينمائي، وكأنّ جيل الوسط الفني عموما، والذي نشأ على نكسة يونيو وانتكاسة كامب ديفيد مرورا بعبور أكتوبر، تكاتف ليصرخ :

محبوس يا طير الحق
قفصك حزين و لعـين

قضبانه لا بتنطـق
ولا تفهم المساجين

زنزانتى لو أضيق
أنا أقوى من السجان

ف العتمة بتشعلق
حتى على الدخان

وأغنى بدموعى ..

لضحكة الأوطان.

سياسيّا، يؤخذ على الشريعي أسهامه في تلحين أوبريتات احتفالات حرب أكتوبر لمدة عشر سنوات منذ اوائل التسعينيات حتى اوئل العقد الفائت، ومن أهمها اوبريت “اخترناك”، أهم أوبريت مجّد الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، وسماعه اليوم يثير الكثير من الاحساس بالخديعة، والسخرية أحيانا أخرى، الا أن الشريعي كان حريصا على التذكير انه امتنع كذلك لمدة عشر سنوات حتى ثورة يناير عن المشاركة في احتفالات أكتوبر إيمانا منه بعدو وجوب المشاركة، وبرأيي يحسب للشريعي هذا الموقف، قياسا بالجو العام السائد في مصر آنذاك.

في محور آخر، تميز الشريعي عن كل الموسيقيين المصريين بتفرده في كونه محلّلا موسيقيّا، في ساحة فنية عربية عموما تعاني قلة النقد والتحليل الفني والعلمي للقطعة الفنية، تميّز عمّار بتحليله الموسيقي لعدد لا يحصى من الأغاني والمقطوعات عبر برنامجه الإذاعي الشهير “غوّاص في بحر النغم”  على الاذاعة المصرية الرسمية منذ أواخر الثمانينات والذي استمر لسنوات عديدة، كشف فيها الشريعي عن ثقافته الموسيقية العالية والعالمية ولباقته وظرفه الشّديدين، وأكمل مسيرة التحليل الموسيقي في برنامجه التلفزيوني الشهير “سهرة مع شريعي” وبرع فيه كمحلل وموسيقي ومقدم تليفزيوني وضع في الصفوف الخلفية الكثير من مقدّمي البرامج المبصرين!

جدير بالذكر كذلك، أن أهمية الشريعي تكمن في كونه هامة وقامة إجتماعية وثقافية مصرية، لم تقتصر إطلالاته وحضوره الاجتماعي على فنّه فقط، بل كان ممّن شكّلوا عمدان المشهد الفني والثقافي، واعتبر أحيانا مرجعية يؤخذ برأيها  وبرز هذا في ثورة يناير، واعترافه بفشل جيله بالتغيير وانحنائه لجيل يناير. ما أعقب ثورة يناير من تطورات كحكم المجلس العسكري والإخوان المسلمين، أثقل على قلب فناننا المرهف باعترافه هو، وفارقنا عمّار بعد أن أضاف في ابداعاته لفسيفساء الحضارة العربية الحديثة في العديد من الاغاني والمقطوعات المنفردة والملازمة للأعمال التليفزيونية والسينمائية،

 الشريعي تجربة حياتية وفنية بمقدورها أن تكون معزّزة للانتماء الثقافي العربي، ولا يقلل من قدرها بتاتا وجودها في قلب “التيّار المركزي”، وبنظرة أخرى مقدورها أن تكون ملهمة لكل صاحب احتياجات خاصة، يسكنه مارد مبدع.

عمار الشريعي…سلام الى روحك الجميلة المبصرة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>