في كواليس “مهرجان” منال وهيثم! / مرزوق الحلبي

في كواليس “مهرجان” منال وهيثم! / مرزوق الحلبي

شيء ما مريض في هذه الحالة العصابية التي وقع في فخّها بعض الذين نحبّهم. هل يكفي أن يكون النازل على دار الفن فلسطينيا لنحكم عليه بالنجومية مسبقا؟

Manalmusahaithamkhalailah

| مرزوق الحلبي |

مشاركة هيثم خلايلة ومنال موسى في برنامج “أراب أيدول” كانت ستكون عادية لولا أنها كشفت بعض الأنساق التي تتحكم بحياتنا العامة لا سيما ما يتصل منها بالهوية وبالمشهد الثقافي. كان لهذا الحدث أن يظل خبرا في الزوايا الإعلامية الفنية أو مثار اهتمام معارف وأصدقاء هيثم ومنال حصرا لولا أن التعاطي معه تجاوز ذلك بكثير. فما أن بدأ حصوله حتى تمّ ربطه بالوطن والتاريخ والهوية ربطا مَرَضيا بامتياز. في مستوى آخر كشف الحدث خللا ما في البُنية الثقافية لا سيما الجانب المعياري منها وطريقتنا في تقييم الفن والأدب والإبداع والسياسة والشأن العام.

في البداية، طالعتنا إشكالية الهوية لمجرّد أن ظهر هيثم ومنال كفلسطينييْن. فلأن مركز الهوية “هناك” في رام الله على أقلّ تقدير فإن منال وهيثم ـ ومنال أكثر ـ سارعا إلى التعويض عن الصورة التي ظهرت لهما مع النائب السابق أيوب القرى (يمين الليكود) من خلال توكيد الهوية المنفية عنهما بغناء من الفولوكلور الفلسطيني أو برموز فلسطينية. لكن البعض لم يغفر لكلاهما. فأراد أن يُبرز إشكالية الهوية من خلال رفض تمثيلهما لفلسطين. وأعتقد أن الأمر نتج من عدم انتماء أي منهما لتيار أو حزب أو فئة تُعتبر في قاموسنا “وطنية”. اشتغل صانعو الشائعة ساعات إضافية لإسقاط شرعية التمثيل الفلسطيني عن منال ـ يُمكن لأنها مرأة! وشككوا في أمر التمثيل لدى هيثم. واضطرت صديقتنا الفنانة سناء موسى إلى التوضيح عبر الشبكات أن منال لا تمتّ لها ولا إلى عائلتها بصلة وأنه مجرّد أسم على أسم! وشاعت الشائعات عن أداء منال نفسها الخدمة المدنية وأن والدها إنما خدم هو أيضا! وهنا تتجلّى القسوة التي تتضمنها ثقافة هويتية مشدودة كالوتر مستعدة للانقضاض في كل لحظة. هذا، في المراحل الأولى التي أعقبتها عملية تصحيح من خلال نفي ما أشيع بسبب الصورة من القرى ثم مالت “أرجوحة” التعاطي باتجاه معاكس. فبعد “الزفّات” التشكيكية جاءت موجة من إعادة الشرعية لمنال وهيثم وأعيد لهما شرف التمثيل الفلسطيني رغم أن كلاهما من الجليل وليس من غزة (محمد عساف) أو رام الله! فانتصر لهما جمهور واسع ورافقهما من أسبوع إلى أسبوع على متن فلسطينيتهما تحديدا وليس على متن فنّهما.

أي ـ بعد انقضاض الهوية الفلسطينية على منال وهيثم من خلال سَدَنة “الهوية الوطنية” والتبرؤ منهما انقلب الأمر فصارا ممثلين بامتياز للهوية الفلسطينية لكن بدون “الوطنية” لأن حرّاس هذه الأخيرة سحبوها من تحت أرجلهما في الانقضاض الأول. وبدا واضحا أن هذه الموجة تتغذى من تشدّد هويتي هو جزء من المشهد في السنوات الأخيرة في مواجهة عنصرية يمينية وسعي سياسي إسرائيلي واضح لإخضاع الفلسطينيين بين البحر والنهر. بقينا في نهاية الأمر مع الهوية الفلسطينية كهوية مكانية تراثية رمزية. فكون هيثم ومنال من الجليل كان كافيا لتوليد العصبية المكانية المُنافحة عنهما التي تحوّلت لاحقا إلى حملات لتمويل عملية الاقتراع الجماعي لهما من أسبوع لآخر.

أما دخول أيوب القرى ومن ثم أفيحاي أدرعي الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي على خط التحشيد والدعم فقد شوّش الحراك الهويتي باتجاهين. فالصورة مع أيوب القرى والتأييد عبر الشبكة من أدرعي خلط أوراق الهوية والتدافع إلى ظهرها. صعّد المشككون بداية من هجومهم ونفي “تهمة” الفلسطينية عن هيثم ومنال معا. إذ كيف يصحّ أن يكونا فلسطينيين بأربعة وعشرين قيراط ما دام أيوب القرى اليميني وأدرعي الناطق العسكري يدعمان أو يساندان؟ حقا ـ مفارقة! حلّها الفصيل الثاني من الفلسطينيين هنا بمحاولة استردادهما من فكيّ المكان الإسرائيلي وشُبهة الهوية الإسرائيلية كما عبّر عنها أدرعي فيما نشره باللغة العربية على صفحته في الفيس بوك وفي الصورة الاختزالية مع أيوب القرى! ومن هنا عمدت موجة التصحيح الهويتي إلى تطويبهما ابنين لفلسطين وهويتها. وهو فعل قُصِد به في اللاوعي الجماعي توكيد هوية الفلسطينيين هنا ونفي شبهة “الإسرائيلية” عنهم. وهو فعل دائم الحضور في الثقافة المحلية يُقصد به التأشير لكل العالم وللعالم العربي والفلسطيني تحديدا أن فلسطين هنا الآن وليست هناك وأننا من صُلبها. وهو فعل ينزلق أحيانا كثيرة إلى مزايدة و”وطنجية” من العيار الثقيل تتجلى كلاما كبيرا أو خطابا فارغا من كل مضمون عملي.

والآن، إلى البُعد المعياري فيما حصل. لقد جسّدت حملة دعم منال وهيثم ثم هيثم في الأسابيع الأخيرة للبرنامج العصبية الهويتية في أوضح صورها. وهو أمر يبدو “طبيعيا” لكنه في حقيقة الأمر خلاف ذلك. فالحُكم على أداء هيثم ومنال من زاوية الهوية جعلهما نجمين عاليين جدا في دنيا الغناء علما بأن أداء كل منهما لا يتعدّى المتوسّط بالنسبة لهيثم وما تحت المتوسط بالنسبة لمنال. أو لنقل أن الحماس لهويتيهما تجاوز كل معقول في الحُكم على غناء كل منهما. فصوت منال عالق في منعطف ما لا فكاك منه وصوت هيثم الجبلي جبلي فحسب حاصره في نوع أو نوعين من الأغاني (مقابل حازم الذي أجاد وارتقى في كل الأنواع التي أداها). وكان لا بدّ من ديكور وضباب وغُبار فلسطيني (اختيار أغاني فولوكلورية ولباس فلسطيني وابتذالات أخرى) وإنشاءات عن فلسطين الضحية للتستّر على الثغرات في الغناء والأداء.

لقد بدا مجتمع المتابعين هنا متعصبا لفلسطينية منال وهيثم. كونهما من “فلسطين هنا” ولّد ضغطا على الفلسطينيين هنا أن يحكموا عليهما بالنجومية وإلا! كلّ مَن يُخالف يُعاقب! تماما كما على لافتات التحذير من التدخين في مكان محميّ أو من السباحة في شاطئ محظور! كان من الصعب أن يُمرّر الواحد منّا جملة اعتراضية أو جملة استئناف على هذه العصبية التي تحوّلت إلى مهرجانات وطواقم عمل ومجموعات ضغط!

شيء ما مريض في هذه الحالة العصابية التي وقع في فخّها بعض الذين نحبّهم. هل يكفي أن يكون النازل على دار الفن فلسطينيا لنحكم عليه بالنجومية مسبقا؟ في حال طرحنا هذا السؤال فلا بدّ أن تتوالد الأسئلة كما تتوالد الأرانب البيضاء. هل يكفي لأن تكون “الشاعرة” مِن بلدنا لنطوّبها بعد آن ساكسون أو سيلفيا بلاث أو غادة السمان؟ وهل يكفي أن يكون المرشّح لمنصب ما على ديننا لنعتبره كليّ القدرة مثل الله؟ وهل يكفي أن يكون مدير الجمعية “وطنيا” لنغفر له سرقاته كلها؟ وهل يكفي أن يكون “الأديب” من عقيدتنا السياسية ومن حزبنا لنرفعه أعلى من نجمة صُبح؟ وهل يكفي أن تكون “الكاتبة” من شلّتنا لنغدق عليها تسعة وتسعين الأسماء الحُسنى؟

يبدو لي أن ما حصل من تشويش هويتي وعصبية جماعية يشير إلى نسَق مرضي في حياتنا العامة لا سيما في الحقل الثقافي. إذ تبدو معاييرنا وأحكامنا واعتباراتنا مقدودة من مادة واحدة هي الهوية القومية وما ضاق عنها مثل الهويات الجهوة والدينية والإقليمية والأيديولوجية. وما دامت أداة القياس الوحيدة هي هذه المسطرة الوحيدة فإن كل القياسات ناقصة وقاصرة عن بلوغ “الحقيقة الفنية” أو الأدبية أو الإبداعية في أي نشاط من أنشطتنا كجماعة. تبدو ثقافتنا الجمعية في ضوء أدوات قياسنا هذه محدودة إلى ضحلة في السياسة والإدارة والحكم المحلي مثلما هي في الأدب والغناء وحقول الإبداع الأخرى. وهذا لا يعني غياب الحالات التي يخترق فيها مبدعون ومُيدعات سقف الزجاج الهويتي ويذهبون ناحية الفنية والجمالية بشكل محرر من أعباء الهوية بمفهومها الحزبي أو العقيدي الضيّق عليهم وعلى إبداعهم فيطوّرونها ثقافة وإبداعا ويصنعونها من جديد أكثر تنوّرا. فإذا كنّا نبحث عن الهوية في العمل الفني وليس عن الفنية والنوعية والجمالية فإن النتائج تكون بما يتناسب. وها نحن عشنا جيلين على مُفردات قليلة العدد مثل الزيتون والجليل والصبّار. أما ما استخدم غيرها فاعتُبر خارجا عن الأدب أو لم يُؤخذ بالاعتبار في حفلات توزيع النعوت والألقاب. وكم شاعرا وفنانا ومُبدعا غُبن حقّهم وإبداعهم في معمعان الهويات وعصبياتها؟ وأي ثقافة يُمكن أن تولد من أتون كهذا؟ لقد خبرنا ذلك في “مهرجان” منال وهيثم. كان للأمور أن تسير بدون هذه الدراما وهذا الشحن السالب وهذه الضحالة لو أن فهمنا للهوية يتجاوز ما نحن فيه من عصبيات ومن معايير معطوبة. إنه ليس مهرجان منال وهيثم إنه ألـ”نحن” بلحمها ودمها!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>