في ذكرى يوم الأرض: الايدلوجيا وراء الممارسات/ أحمد.م.جابر

في ذكرى يوم الأرض: الايدلوجيا وراء الممارسات/ أحمد.م.جابر

لا يصحّ التعامل مع يوم الأرض كيوم لذكرى الحزن على الشهداء فقط، بل يجب البناء على الزخم الذي تولد ذلك اليوم، والأهمّ هو الإعلان السياسي الذي كتب بدماء شهداء يوم الأرض الستة: هذه الأرض ليست بورًا، وليست بلا سكان

من أرشيف يوم الأرض

من أرشيف يوم الأرض

.

|أحمد.م.جابر|

لم تكن أحداث يوم الأرض مصادفة ميدانية، أو إخلالا بالنظام، أو تهورا عسكريا في بلد طبيعي، بل نتيجة طبيعية لسياق طويل من ممارسات الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، ممارسات يعتبرها المستعمر عادية، وجزءًا من سياق وجوده.

ما وراء الأفعال تتمترس أيدلوجية مميتة حيث تتمحور عقيدة المستعمرين في فكرة الإلغاء؛ إلغاء الآخر والحلول محله، ولو اقتضى ذلك اختراع الأساطير حول الأرض البكر أو الموعودة، أو الأرض التي تبحث عمّن يعمّرها، وهذا الجوهر كان حاضرًا دائمًا في مقولات المستعمرين، يصبح كل شيء مفهوما ارتباطا بجلاء هذه الأيدلوجيا، القوة المحرّكة المسلحة بدولة، وقد كتب كالب كار carr[1] كتابا عن انتفاضة الهنود السيوكس Sioux في مينسوتا عام 1862 مؤكّدًا أنّ المواجهة في مينسوتا كانت حربا شاملة بين أمّتين متنازعتين على السيطرة على منطقة كانت كلتاهما مستعدّة للموت في سبيلها: “بالنسبة لإحداهما كان الاستيطان أملا أخيراً، فقد كانوا لا يخاطرون بأموالهم فحسب بل بأرواحهم ذاتها، من أجل إقامة حياة جديدة في بلد بكر، أمّا بالنسبة للسكان الأصلين، ففي البداية على الأقل كانت شروط الصراع أقلّ مصيرية، بوسعهم -بعد كل حساب- أن يرحلوا إلى الغرب قليلاً!”

إنّ استعداد المستوطنين للموت في سبيل الأراضي المنتزعة هو جوهر الإلغاء، هنا يتقمص الغازي عقيدة فاسدة تتحدث عن “أرض بكر” جوهرها “إمّا نحن أو هم”، وطبعا سيزيد احتدام هذه المعادلة أنّ السكان الأصليين لن يتخلوا عن حقهم الشرعيّ في أرضهم بسهولة. الحل إذًا في إبادتهم. يذكرنا هذا بمقولة الإحلال الصهيونية بوجهها القبيح فالحرب حرب وجود، على أرض يتنازعها “اليهود” مع “العرب” وهي “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وإمكانية الرحيل إلى الغرب قليلاً بمقال المستوطنين الأوربيين تعادل تماما مقالة الصهاينة أنّ العرب يملكون الكثير من الأرض، ليستوعبوا الفلسطينيين عندهم إذًا. ولكن، وكما أنّ الغرب لا نهائي وسيتمدّد باستمرار ويدفع الضحايا إلى البحر والموت، كذلك سيكون دائما لدى العرب المزيد من الأرض ليحصل اليهود على بعضها.

يقول نعوم تشومسكي[2] مستندا إلى كلمات كار: “يمكن أن نتصوّر لو أنّ النازيين انتصروا في الحرب الأوربية إذن لربما كان مؤرخ ألماني متأخر ليكتب أنّ المواجهة بين الألمان والسلاف على الجبهة الشرقية لم تكن مرتبطة بأفكار ذات شأن، مع أنه من أجل الظهور بمظهر متوازن يمكن أن يتذكر أنها كانت حربا شاملة بين أمّتين تتنازعان السيطرة على منطقة كانت كلتاهما مستعدتين للموت في سبيلها. أما السلاف فكانت شروط الصراع أقلّ مصيرية بالنسبة لهم مقارنة بالألمان الذين كانوا بأمسّ الحاجة لمجال حيوي، وكانوا لا يخاطرون بأموالهم فحسب بل بأرواحهم ذاتها بأمل إقامة حياة جديدة في بلد بكر، فقد كان بوسع السلاف بعد كلّ حساب أن يرحلوا إلى سيبيريا”. ولنتأمّل ما يمكن أن يكتبه مؤرخ صهيونيّ عن أنّ بوسع الفلسطينيين والعرب أن يرحلوا إلى صحرائهم.

كلمات كار لم تكن مجرد تهاويل مؤرخ بل أن جورج واشنطن قائد أمريكا المستقلة كان قد سبقه منذ عام 1783 بالقول: “إنّ التوسع التدريجي لمستوطناتنا سيجعل المتوحشين يتراجعون تدريجيا، كذلك الذئاب فكلاهما طرائد للصيد مع أنهم مختلفون شكلاً”.[3] وها هو صدى الكلمات يتردّد على لسان داني روبنشتاين[4]: “على الفلسطينيين أن يقبلوا حكما ذاتيا على غرار معسكرات أسرى الحرب، يستطيعون في ظله أن يجمعوا الزبالة في المناطق المخصّصة لهم”.

الأرض الموعودة

فكرة الأرض الموعودة هي الأساس الدينيّ للاستعمار الصهيونيّ لأرض فلسطين: “في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات” (تكوين/18/15). وتقديم الأرض الموعودة يصدر عن أمر إلهيّ لأنّ الرب يرى أنّ هذا هو الحق: “الآن قم فاعبر نهر الأردن أنت وجميع هؤلاء الشعب، إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل. كل مكان تطأه أخامص أرجلكم لك أعطيه كما قلت لموسى” (تكوين/17/8). وقصة الأرض الموعودة هي فوق تفسير للعقل؛ إنها لا تاريخية تتجاوز التاريخ، وتتبدى عن إله ظالم مُبيد لا يعرف العدل.، وتستخدم الحركة الصهيونية هذه النصوص كما لو أنها صكّ ملكيّة شرعيّ أو نوع من سند (طابو) صادر عن يهوه صاحب الوحي الإلهي عند اليهود[5].

وهكذا توحد الفاشية بين الأرض والعرق وتجعلهما يتطابقان، وفكرة الدين وضمّه إلى المعادلة هو الإضافة التي قدّمتها الصهيونية على هذه الفكرة، وهي مقولة فاشية بامتياز تتلخص فيها العنصرية العرقية والنوستالجيا الدينية والنزوع الاستعماري الكريه، وتتجلى يوميا في السياسة الإسرائيلية منذ نشأة الكيان الذي ابتدأ بطرد الفلسطينيين من أرضهم وصولا إلى العمل الحثيث لتطهير فلسطين من شعبها الأصلي، تشهد على هذه السياسة مئات القوانين والأوامر العسكرية التي تسعى لتهويد الأرض نحو تحقيق شعار “أرض أكثر عرب أقلّ” وما جدار الفصل العنصري إلا تجسيدا لهذه المقولة وخطوة جديدة في سبيل تحقيق “دولة اليهود” التي دعا إليها هرتسل والتي تكون أرضها يهودية وشعبها من اليهود فقط.

وقد ظهرت هذه النزعة مبكّرًا كما سبق وأشرنا عبر مقولات الآباء المؤسسين للصهيونية النازعة إلى إيجاد التطابق الافتراضيّ القسريّ بين العرق والأرض والدين؛ فعلى غرار الفاشية التي تفترض وحدة عضوية في العرق والديانة والثقافة والأمة[6] كتب اسحق كوك[7] “إنّ أرض إسرائيل ليست شيئا منفصلا عن روح الشعب اليهوديّ، إنها ليست مجرد ملكية وطنية تستخدم كوسيلة لتوحيد الشعب وتدعم بقاءه المادي أو حتى الروحي، إنّ الإبداع اليهودي الأصيل سواء في مملكة الأفكار أو في ساحة الحياة اليومية والعمل مستحيل إلا في أرض إسرائيل، إنّ اليهودي لا يستطيع أن يكون مخلصا لأفكاره ومشاعره وخيالاته وصادقا في أرض الشتات مثلما يستطيعه في أرض إسرائيل”.

وعلى هذا الغرار ينسج بن غوريون الذي كتب في نيسان 194: “إنّ ارتباط الشعب اليهودي والشعب العربي بأرض إسرائيل ليس متطابقا. إنّ الشعب اليهودي يرى في إسرائيل الوطن الأوحد والوحيد، أمّا العرب الذين تعتبر هذه الأرض وطنا لهم فهم جزء صغير جدًا من الشعب العربي كله”[8].

قبل ذلك كان هرتسل واضحًا في دعواه عندما أحتجّ على ترجمة عنوان كتابهder juden stat باسم “الدولة اليهودية”، فقال: “إنني أتحدث عن دولة اليهود والفارق هو أنّ الدولة اليهودية ستكون دولة تتميّز بالقانون اليهودي وتحكمها المعايير اليهودية وتتجلى فيها الروح اليهودية، أمّا دولة اليهود فهي دولة يتألف كلّ سكانها من اليهود”[9].

وقد وصف جـ. هاكوهين فيشمان أول وزير للشؤون الدينية في إسرائيل صلة اليهودي (بأرضه) بأنها صلة “مباشرة وسماوية وأبدية، لا تشبه صلة الأغيار بها”، مذكّرا هنا بتنظيرات يهودا القالي الذي دعا إلى العودة إلى “أرض الميعاد” والتوحّد بها منظرًا للعلاقة العضوية بين الشعب والأرض، معتبرًا أنّ اليهود لم يندمجوا عبر آلاف السنين لأنهم مختلفون وأنّ وصفهم كشعب سيكتمل بالعودة: “نحن كشعب يليق بنا أن نلقب بإسرائيل فقط إذا كنا في أرض إسرائيل”[10] وما قاله أبراهام اسحق كوك أيضًا: “الوحي المقدس يكون نقيًا في أرض إسرائيل فقط” و”كلما زاد  تعلُّق الشخص بأرض إسرائيل زادت أفكاره طهارة”[11]. كان إذًا وما يزال لتهويد المكان وتفريغه من أهله غير اليهود مكانة مركزية في الفكر الصهيونيّ والممارسة العسكرية والقانونية لدولة إسرائيل.

وفي محاضرة ألقاها حاييم وايزمن في باريس عام 1914 أعلن “هناك بلاد اتضح أنّ اسمها فلسطين، بلاد بلا شعب، ومن ناحية أخرى هنالك الشعب اليهودي الذي لا بلاد له”[12]، وقبل ذلك بكثير كان إسرائيل زنغويل أحد مساعدي هرتسل زار فلسطين عام 1897 وقال في إحدى خطبه: “علينا أن نستعدّ لطردهم (العرب) من البلاد بقوة السلاح”[13]. وتضيف غولدا مائير في مقابلة مع الإذاعة العبرية في آب 1973: “إنّ كل شيء لم يحدث، لم يكن في فلسطين شعب فلسطينيّ يعتبر نفسه شعبا، وإننا طردناه كي نأخذ مكانه، إنهم لم يكونوا موجودين”.

هذه الأفكار الإلغائية لم يأكلها الزمن وليست قديمة وهي تشتدّ اليوم أكثر فأكثر بجنون الخوف الديمغرافي ودعوات الترحيل عبر التبادل السكانيّ أو الجدار أو التخلي عن المناطق المكتظة بالسكان العرب أو تهويد النقب والجليل. وكانت فكرة الطرد عن طريق تبادل السكان جاءت أصلا من لجنة “بيل” إثر اندلاع ثورة 1936 وقد طالب بإحدى توصياته صراحة بـ “تبادل السكان بين الدولة اليهودية والدولة العربية”[14]، في وقت لم يكن هناك أصلا دولة يهودية. وقد أولى بن غوريون أهمية قصوى لهذه التوصية وأكّد أنّ على الحركة الصهيونية التمسّك بالتوصية كما تمسّكت بوعد بلفور، بل كما تتمسك بالصهيونية نفسها.”[15]

واليوم من يسمع التهويمات الصهيونية حول التبادل السكاني، أو تهجير الفلسطينيين من المثلث والنقب أو تهويد الجليل، لابدّ له أن يسترجع محاضرة الوزير الإسرائيلي السابق رحبعام زئيفي في الجامعة العبرية في القدس يوم 22/5/1980[16] حيث قال: “هناك آراء تدعو إلى استغلال حالة الحرب من أجل ترحيل 700-800 ألف عربيّ.. ولم تتردّد هذه الآراء فحسب وإنما أعدّت أيضا الوسائل لتنفيذها”.

وكان رحبعام زئيفي قد أكّد أنّ الترانسفير (الترحيل) ليس جديداً بل هو سمة لازمة للصهيونية[17]  حيث قال “صحيح أنني أؤيد الترانسفير لعرب الضفة وقطاع غزة إلى الدول العربية ولكنني لا أملك حق ابتكار هذه الفكرة، لأنني أخذتها من أساتذة الحركة الصهيونية وقادتها مثل دافيد بن غوريون الذي قال في جملة أمور أخرى “إنّ أي تشكيك من جانبنا في ضرورة ترحيل كهذا وأيّ شك عندنا في إمكانية تحقيقه وأي تردد من قبلنا في صوابها قد يجعلنا نخسر فرصة تاريخية” (مذكرات بن غوريون)، كما أنني تعلمت هذا من بيرل كتيلسون وآرثور روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين”.

ونقاشات مؤتمر هرتسليا (مؤتمر ميزان المناعة والأمن القومي) بدوراته المتعدّدة لم تكن بعيدة عن هذه الطروحات، وكانت كلها تصبّ في أنجح السبل للحفاظ على يهودية الدولة والتخلص من العرب وقد سلمت الوثيقة التي أعدّها المؤتمر في دورته ما بين 19و21 كانون الأول عام 2000 في جو احتفاليّ إلى رئيس الدولة موشيه قصاب، وقد علق الصحافي يئير شيلنغ[18]  بالقول: “اليمين المتطرّف ما كان في مقدرته أن يصوغ توصيات تعكس فكره البهيميّ الجامح بأفضل ممّا صاغتها هذه الكراسة”.

خطة برافر الأخيرة في النقب، التي تم إجهاضها، وخطة تهويد الجليل، بل عمليات الاستيطان والتهويد المستمرّ كلّ دقيقة في الضفة الغربية والأغوار، كلها ليست سوى محطات متجددة ليوم الأرض، وهي ليست خارج سياق استعمار فلسطين وازاحة أهلها، لذلك لا يصحّ بحال من الأحوال التعامل مع يوم الأرض كيوم لذكرى الحزن على الشهداء أو يوم لتذكّر مواجهة بطولية مع المحتل، فقط، وانما يجب البناء على الزخم الذي تولد ذلك اليوم، والأهمّ هو الإعلان السياسي الذي كتب بدماء شهداء يوم الأرض الستة: هذه الأرض ليست بورًا، وليست بلا سكان، وأصحاب الأرض قادرون دائما على الإمساك بجوهر الصراع في مواجهة الصهيونية المميتة.

(صحفي فلسطيني/ سوريا/ مصر)

 


 

[1] نعوم تشومسكي. الغزو مستمر. ترجمة مي النبهان. ط2 (دمشق: دار المدى 1999) ص427.

[2] المرجع السابق ص428.

[3] نفسه. ص40.

[4] ليلى فرسخ. من جنوب أفريقيا على فلسطين: www.moqawama.org/arabic/articles/doc2004/afriq.htm.

[5] عبد الغني عماد. فلسفة الارهاب وايدلوجيا العنف من اليهودية الى الصهيونية. في: الفكر العربي عدد 96(بيروت. ربيع 1999) ص 7.

[6] ستشينا مازر سومدار. المرأة والتعبئة اليمينية في الهند. الثقافة العالمية72 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سبتمبر 1995) ص 42.

[7]  مايكل جانسن. التنافر في صهيون: هل يمكن أن يقوم سلام في الشرق الأوسط. ترجمة كمال السيد. ط1(بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1988) ص29.

[8]. شبتاي تينت. تطور فكرة الترانسفير في الفكر الصهيوني، هآرتس 2/10/1988.

[9] ابراهيم حمزة الدليمي. دوافع وآثار عسكرة المجتمع في الكيان الصهيوني (بغداد: بيت الحكمة، 2002) ص 16.

[10] الفكرة الصهيونية، النصوص الأساسية. ترجمة: لطفي العابد وموسى نمر. اشراف أنيس صايغ (بيروت: م.ت.ف مركز الأبحاث. حزيران 1970) ص10

[11] المرجع نفسه ص197.

[12] آيلان هاليفي، المسألة اليهودية: القبيلة –الشريعة – المكان، ترجمة فؤاد جديد، ط1 (بيروت: مكتب الخدمات الطباعية، 1986) ص222.

[13] محمود محارب، الصهيونية-الترانسفير- الأبارتهايد، حلقة 2-16/12/2005/عرب 48 www.arabs48.com.

[14] نفسه.

[15] نفس المرجع

[16] المرجع السابق.

[17] هآرتس 17/8/1988.

[18] هآرتس- 23 -3-2001.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>