13 نثرًا/ باسم النبريص

يسألني من يعودونني: كيف هو الموت؟ فأفكّر وأتأمّل, ثم أجيب. لا شيء. حتى إنه لا يستحقّ لحظة تأمّل. إنه فحسب نوم ثقيل: نعاس بوزن فيل, وشخير, وفجوات سوداء

13 نثرًا/ باسم النبريص

ستورمي ميلز، "وحدة"

.

|باسم النبريص|

باسم النبريص

(2007)

ثقيلةٌ رأسي,كمثل مشنقةٍ بلعت صيدها في الفجر. ثقيييلة: تكاد تسقط من تلقائها على صدري. هي التي كم حلمتْ بأول صدرٍ عابرٍ من دون تدقيقٍ ولا توفيق. غداً -ستكون- سنة جديدة. ستأتي غالباً كأخواتها, من دون تدقيقٍ ولا توفيق. ثقيلةٌ رأسي في هذا المساء الأخير. أقول وداعاً يا 730 يوماً وليلةً اجتزتها برأسٍ ثقيلةٍ, كمثل مشنقةٍ في الفجر. ثم أنتبه: 730 يوماً وليلة؟ يا له من عدد كبير على واحدٍ قليلٍ مثلي! ويا لي كيف اجتزته ولم أتفكّك! ثم أبتهج, وأفحّ: أفلا يحق لي الشعور, ولو ببرهة انتصار, حتى ولو جاء غالباً من دون تدقيقٍ ولا توفيق؟ بعدُ لم أمت. بعدُ لم تمت. يهتف أصدقائي, أحباب الطفولة الأبعد, ماركسيّو العالم الثالث اليوم.

وداعاً 2007!

.

(مرتان في الأسبوع)

أموت مرتين في الأسبوع. أسهو عن حياتي, فأموت مرتين في الأسبوع. مرة في النهار حين أنام, وأخرى مثلها في الليل. يلحقونني بالسكّر المذاب في كوب, ثم يستدعون الإسعاف. وأستيقظ هناك في قسم الطوارئ ومحلول الجلوكوز في ذراعي. يسألني من يعودونني: كيف هو الموت؟ فأفكّر وأتأمّل, ثم أجيب. لا شيء. حتى إنه لا يستحقّ لحظة تأمّل. إنه فحسب نوم ثقيل: نعاس بوزن فيل, وشخير, وفجوات سوداء. يخرج العوّاد, وأخلو لنفسي: ما هو الموت؟ ثمة ساعتان, بين انتباه عائلتي لي وبين يقظتي في سرير الطوارئ. ساعتان من العدم الخالص. الغياب الكلّي عن الوعي والإحساس. فما هو الموت إن لم يكن هذا؟ لقد لمست ولمست لحم الموت إذاً. وليست المرة الثانية ولا العاشرة حتى. لقد جرّبته على هذه الطريقة, وخرجت بانطباع وحيد: لا شيء. حتى إنه لا يستحقّ لحظة تأمل. إنه فحسب نوم ثقيل: نعاس بوزن فيل, وشخير, وفجوات سوداء. لذا لا تصدّقوا الأنبياء والفلاسفة. هم أيضاً يكذبون عليكم, ويهوّلون الموضوع, مع أنه لا شيء. مع أنه نعاس بوزن فيل، فقط.

صدّقوا مجرّباً ولا تسألوا طبيباً بعد اليوم.

.

(كي لا تطول القصة)

رئتاك حبّتا قرْع تضيقان في صدرك. كلما صعدت درجاً تسمع قرعَهما. وكلما دخلت صمتاً تسمعه أيضاً. ما الذي يحصل هناك في القرعتين إذاً؟ لو كانتا معطوبتين, لتوجّبت زيارة الطبيب. لو كانتا.. كانتا ماذا؟ ألا تكفّ عن استجلاب سردٍ سيوصلك للميلودراما في آخر القصة؟ القصة أنه الشتاء. إنه الشتاء: فبراير الكلب تحديداً. وفي مثل هذا الوقت من كلّ سنةٍ, يتضاعف استهلاك الشعراء من تبغ الغليون. يكون البرد كسلكِ كابلٍ معرّى، فتأوي إلى فراشك من المغرب. لا نت ولا مكتبة. العتمة فقط والتدخين. علّ الصقيع يخفّ. وهو يخفّ فعلاً. بل تكاد تنساه في دفء الفراش, وتوهّج الجمرة المقدّسة. رئتاك حبّتا قرْع في صدرك. قرعتان تضيقان بالدخان الآن. ولذا تقرعان كلّما صعدتَ درجاً أو دخلتَ صمتاً. لكن “الآن” ليس هو “الأبد” يا عزيزي. إنه مجرد وقت ويمضي. وحينها سيتحسّن حال القرعتيْن, وستكونان على ما يرام. أُؤكّد لك. أُؤكّد لك. وعندي مزيدٌ من الأسباب, لكن لا داعيَ لسردها, كي لا تطول القصة.

.

(فرار)

أنتَ في يدك, والنهار على النافذة. تهمس: أصدقائي, فيأتِ قاطنو ليل. بعضهم من غيابٍ. بعضٌ من ورق الأسى. تشربون قهوة. وتضحكون من تطفل نورٍ، فكِهٍ, رغم كلّ شيء. لا. أنت لا تخشى النهار ولا تستثنيه. فهو نصف الوقت, وعامود أسرتك. فقط لا تستلطفه. فقط تستثقل نوره اللا خصوصيّ.

أنت في يدك, والنهار على النافذة. لقد أزف موعد النوم إذاً. موعد الحلم ربما. موعد الفرار من الأبيض الرديء. وداعاً أصدقائي. غداً ليلٌ آخَر. نلتقي في كتاب الأسى, ونشرب قهوتنا. هنا في غرفتي, أو هناك على كاونتر المطبخ.

.

(وحشة)

أخيراً, يشتركُ مع الله في نفي الجمْع. هو أيضاً يقول: “أنا هو أنا. وحدي لا شريك لي” في هذه الوحشة! وحشة, ومع ذلك, هو مبسوط. وحشة: لا كنز – يعني, ولا كرسي حُكم. ومع ذلك مبسوط! وحشة, ويريدها. وحشة, ويأمل أن تتراكم وتَ تَ فاقم, حتى تقتله (ويلحق حاله قبل مجيء الكُوما, فيقوم عن الشاشة, ويتجاوز باب الغرفة, رغم زغللة العين, ويصل المطبخ, ويدقّق في الرفوف, حتى يتبيّن مرطبان السكّر, فيمدّ يده للفنجان في قعره, ويغطّه في الحبيبات البيضاء, ويرفعه للسانه هكذا مملوءاً, ثم يمتصّ ويمتصّ, من دون مساعدةٍ من أحدٍ, باستثناء الله وتوفيقه, ويعود ليُكمل الرقن وقد تحسّن حاله مجدداً) آه ماذا كنا نقول؟ نعم: وحشة. كوحشة نيتشه التي دفعته ليقتل الله, في تلك اللحظة الألمانية الأشهر. وحشة. أربعة حروف فحسب. واو. حاء. (لو عاش نيتشه عمره كله, ما استطاع هو الخائي نطقها) شين. تاء مربوطة. فقط. لا غير. فقط لا غير. ويريد منها الليلة, أن تقتله هو الذي لا شريك له فيها, فقط لا غير. فقط لا غير.

.

(تعب)

تعبان يا خالد النجّار. تعبان حتى أن أقوم للثلاجة وآكل. تعبان حتى لو زَعِلَ إله المسلمين, من شاعرٍ لا يقول “متعب”. تعبان حتى وأنا أنظر للتلفزيون. أنا أنظر؟ يا له من جهدٍ استثنائيّ في هذه الليلة. يا له من تركيز بؤبؤٍ, ومن إطباقِ جفن. يا لها من عملية! وعلى ماذا؟ من أجل التواصل مع العالم؟ وما هو العالم يا عزيزي؟ إنه صورة وإيقاع وتصاريف بعقابيل كثيرة. تصاريف, أساءَ تقدير تعبها ذلك الغامض العمودي, فاستهان بأبنائها الواضحين الأفقيين.

.

(نملة)

هل تبحثين عن فتات خبز؟ لا خبز عندي ولا فتات. أنا صائم منذ يومين. صائم بالإكراه. ربّ العمل طردني منذ أسبوع. ومنذ أسبوع وأنا أدور على حاويات القمامة. تارة أجد ما يقيم الرمق, وطوراً ما يقيم الحنق. شرموطة هذه التل أبيب! أمُّ شِكنازها فقط. هل تبحثين عن فتات خبز؟ لا, لا خبز عندي ولا فتات. عندي الليلة, بعض القصائد, وبعض المشروب. فهل يمكن أن تتدبّري حالك مع شعر عربي برشفة ويسكي يا غشائية الأجنحة؟ آه ما أبدع المنظر: نملة تقتادني إلى خرابي! نملة بستِّ أرجلٍ تقرأ شعراً وتشرب نخب الشاعر! ولكنّه شاعر الآن, وإلى إشعارٍ آخر, مفلس: لا خبز, لا مستقبل, لا عمل, لا لحم امرأة. فهل تروقك, أنت يا حفيدة الدبّور الطباشيري, سهرةٌ مع شاعرٍ بهذه الصّفات؟ أنا ونملة في الخزانة. أنا ونملة وخزانة. أنا ونملة وخزانة وغرفة. أربعة وحيدون. أربعة, والنملة وحيدة مثلي. والخزانة وحيدة مثلي. والغرفة وحيدة مثلي. أربعة, وربما, فلا رحمة ثمة, أربعة نحن وغداً سنفرط من جوع.

.

(بلوط)

ما مررت بها إلا حسدتها. حسدتها لا غبطتها, فانتبه! هذه الشجرة, كم من الأبدية الرءوم اقتاتت وتنفّست, حتى باتت بهذا البهاء؟ الصلابة؟ المهابة؟ نحن نتقاتل على فتات العمر, وهي تدير طيزها لنا ولله وللزمن, وتعيش ألفَي عام. يا للمسخرة! يا للعظمة! ولا أعتى ريح بقادرة عليها, حتى ولا الطوفان. وأحبها, أحبّ ثمارها الأشبه بكرات صغيرة, روائحها, وألوانها. عبقها مع نسمة جبلٍ من بعيد. وأحبها, لأسباب أهمّ: خالدة ولا تتحدث عن الخلود! تصوّر أيها المتأمل لو عاش ابن حواء ربع عمرها, كم كنا سنضجّ من طغاة مضاعفين؟ كم كان سيتبجح؟ سيفتري؟ هو الفاني ذو الستين عاماً ويقرفنا, كم كان سيطغى ويتجبّر؟ حمداً لشيءٍ ما أنه ليس بلوطاً, أنه ابن حواء فحسب, أنه على شاكلة واحدة بألوان ثلاثة. أما هي مليكة الأشجار, فخذ عندك: حمراء, شَعراء, زانيّة, سبخية, صبغية, طروادية, قرمزية ..إلخ. ومع هذا تحيا بهدوء, بل بوقار: وقار من وثق -عن حق- بمصيره, ووثق بالزمن, فتواضع, وأعطى ثماراً وخشباً وفيئاً, وعاش في بلادنا منذ فجر التاريخ, وتجذّر في التربة, حتى لو كانت صخراً, على كتف جبل, أو أسفل واد. فكيف لا أحسدها أنا الفاني الذي خربت حياتُهُ بعد الأربعين …

.

(رجل)

.. ومن صفاتي أنني أمشي على قدمين [البركة في العدس]. وقادر على التفكير المجرّد [البركة في سقراط]. واستخدام اللغة [البركة في راس روس]. والمونولوغ الداخلي [البركة في جيمس جويس]. وإعطاء حلول للمشاكل [يعني, حلّ أهونها, وتطنيش أخطرها]. وأمتلك جسماً منتصباً ذا أطراف مفصلية علوية وسفلية يسهل تحريكها وتعمل بالتناسق التام مع الدماغ [خرزة زرقا في عيونكم]. وفوق ذلك, أُفرّق بين ثمرة البطاطا وأنف جاري. إنما ليس للأبد. ولا حتى لنهاية العمر. فقط للخمسين وربما الستين. بعد ذلك: أمشي على ثلاث أقدام أو حتى أربع [كرسي متحرّك]. ولا أعود قادراً على أي نوع من التفكير, لا المجرد ولا المحسوس. ولا على استخدام اللغة [أستبدلها بالأصوات]. ولا على المونولوغ الداخلي [أستبدله بالديالوغ مع السقف أو الباب أو الكراميكا أو القطة] أما حلّ المشاكل, فأصير أنا بذاتي مشكلة: مشكلة للأولاد ونسائهم. مشكلة للبنات وأزواجهنّ. والجسم المنتصب, سلامتك. يحدودب ويرسل له الدماغ إشارة إلى اليمين, فيزحف شمالاً, والعكس صحيح. ما حاجتنا حقاً للاستعارة؟ نحن الآن بحاجة فقط للأدوية, وقبلها وبعدها للرحمة. الرحمة, ولا يهمّ نوعها: أحادية أو ثنائية تأتينا من مثلث برمودا أو مثلث الرحمات أفرام برصوم الأول.

.

(سهر)

ينقلب القديسون الليلة قططاً سودًا. لذا من الصعب الحصول على بركاتهم في هذه المدينة. ذلك أنهم 1- قطط سود؛ 2- والوقت: ليل؛ 3- وهم أصلاً غير موجودين. فكيف ستتدبّر ليلتك أيها الشاعر الساهر؟

.

(حصان)

الحصان هذه المرة من كلمات. والبطحاء التي يخبّ فيها من كلمات. والصهيل الذي يزفره من كلمات. والمشكلة فقط هي هذي: كيف تحوّل الكلمات إلى لغة؟ كيف تصبح الشجرة غابة؟ وهناك مشكلة تعقبها وتتلوها لكنها أكبر: كيف تجعل اللغة ذات إيقاعٍ مثل الزفير والشّهيق؟ لغتك اليوم, كعاطس في سوق الحدادين, فاسكت, ولا تنفلش, يرحمك الله.

.

(تبديل)

جندب يحمل على ظهره سيكارة كِنت. على السيكارة مستعمرة نمال. على ظهر كلّ نملة كيس فارغ. وفي نهاية القصيدة, سيكون على الشاعر “الحصيف” أن يملأ الأكياس بالجوز واللوز والترمس، خشية أن تنتهي الرحلة بخيبة المسعى. يُتهم شعره بالتجريد والانطفاء, بالزخرف اللغويّ. مسكين الشاعر حصيف العقل! بلغ الخامسة والخمسين, وتزوّج مرات, ولم يزل يلعب باللغة, ويظنّ أنه يجترح الشعر. لقد نسي طراوة المخيلة. نسي أنه بحاجة ليد أعمى, تقوده وسط الغابة الحجرية. يحتاج لحصافة من نوع آخر: حصافة القلب. ويحتاج أن يبدّل الكنت بالهيشة.

(قرع)

في الجبال يُرى وميض اليرقة. عليه: بدل أن تقرع باب الأسباط, إقرع شباك الألمنيوم. على الأرجح ستحصل على نصف تفاحة وبرقوقتين وقصيدة نثر كاملة بمواصفات سوزان برنار, بدل تلكم الحطبة الخليلية من عهد أبي تمّام. إنه القرع ذاته, إنما على مادة مختلفة. وتلك هي كل المسألة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>