تحرير فلسطين مدنيًا: الدرب الذي لم يسلك بعد/ بشار حميض

من الأسس المهمة الأخرى في المقاومة المدنية الالتزام بمبدأ اللاعنف وعدم المزاوجة بين المقاومة المدنية والعسكرية. فعندما تبدأ آلة القمع الصهيونية بممارسة العنف في مواجهة المقاومة المدنية فإن المطلوب حينها أن تستنفر حركات المقاومة جميع جهودها لمنع حدوث رد عنيف

تحرير فلسطين مدنيًا: الدرب الذي لم يسلك بعد/ بشار حميض

هذه سلسلة مقالات منبثقة عن بحث حول استراتيجية للمقاومة المدنية لتحرير الإنسان على كامل أرض فلسطين. ستعالج المقالات بالترتيب المواضيع التالية: ماهية المقاومة المدنية وفلسفتها، العسكرة والمقاومة المدنية في التاريخ الفلسطيني، هل حان وقت المقاومة المدنية؟  فعالية المقاومة المدنية، أسس المقاومة المدنية في فلسطين، تمكين المقاومة بالثورة الخضراء والمدن والقرى المستقلة ذاتيا من حيث الطاقة والمياه والغذاء.

|بشار حميض|

“المفاوضات هي خيارنا الأول والثاني والثالث”، هذا هو التصريح الذي أدلى به الرئيس الفلسطيني الشهر الماضي، مكررا ما قاله في عام 2008 أن “لا بديل عن السلام والمفاوضات كخيار استراتيجي”! مقابل هذا الموقف المتطرف هناك مقولة أخرى تكرر: “جربنا كل الوسائل مع إسرائيل ولم ينفع معها إلا الكفاح المسلح”.

هل نحن بالفعل أمام ثنائية لا ثالث أو حتى رابعة لها؟ وهل جرب المجتمع الفلسطيني فعلا كل الخيارات المتاحة؟

هناك درب لم يسلك بعد، وهو المقاومة المدنية الشاملة على كامل أرض فلسطين. ربما يرى البعض أن هذا قائم منذ زمن طويل من خلال المظاهرات والاعتصامات والحراك المدني والصمود الذي يشمل كل الأراضي الفلسطينية، لكن ما نطرحه هنا هو أمر مختلف. حيث أن الكثير مما يسمى مقاومة مدنية لا يعدو كونه مظاهر احتجاجية تشكل جزءا من المقاومة المدنية بمفهومها الشامل، ولكنها ليست كل ما في الأمر. كما أن هذه الاحتجاجات لم تأت ضمن استراتيجية للمقاومة المدنية متفق عليها من غالبية الشعب الفلسطيني كخيار رئيسي للمرحلة. فالحركات الفلسطينية الرئيسية بما يشمل منظمة التحرير والحركات المنضوية تحتها لم تتبن حتى الآن المقاومة المدنية بشكل منظم ومؤطر ضمن استراتيجية شاملة، وإنما جاءت المقاومة المدنية في كثير من الأحيان إلى جانب نشاطات المقاومة العسكرية أو كمقدمة لها. وربما تكون الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 بمستوى العنف المنخفض فيها هي الاستثناء الوحيد، لكنها في النهاية تحولت إلى العسكرة ثم اختطفت من قبل سياسيي عملية أوسلو.


المفاوضات ليست مقاومة

لقد أوقعت الطبقة السياسية الفلسطينية المجتمع الفلسطيني بوهم أن البديل عن المقاومة العسكرية هو مفاوضات السلام وأن المفاوضات هي جزء من عملية المقاومة. حتى أن هذا الوهم وصل إلى الأكاديميا الفلسطينية، حيث تؤكد دراسة لباسم خضر التميمي بعنوان “المقاومة اللاعنفية 1967 – 1993“ (1) أن الفترة ما بين إعلان الاستقلال عام 1988 وحتى العام 1993 شهدت “اعتماد منظمة التحرير الفلسطينية بشكل واضح على الوسائل اللاعنفية في نضالها. وتخلط الدراسة ما بين المفاوضات والمقاومة المدنية أو اللاعنفية، وتعتبر أن التحول إلى ما تسميه المقاومة اللاعنفية متمثلا بشكل أساسي في خطاب الاعتراف الموجه من ياسر عرفات إلى رئيس وزراء إسرائيل بتاريخ 1993/9/3 الذي اعتبر بمثابة وقف رسمي للعنف حيث جاء فيه: “إن المنظمة تدين استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى وسوف تأخذ على عاتقها إلزام كل عناصر أفراد المنظمة بذلك”. لكن الدراسة تتجاهل أن خطاب الاعتراف يمثل انتهاء المقاومة من ناحية قانونية سواء العنفية أو غير العنفية والدخول بدلا من ذلك في مفاوضات سلمية ومساومات بهدف إيجاد حل، وليس ذلك جزءا من المقاومة المدنية حسب تعريفنا (يُنظر إلى: المقال الثاني).

لكن هذا لا يلغي وجود أشكال من المقاومة المدنية في عمل منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من القوى المدنية الفلسطينية. وترصد دراسة التميمي في هذا السياق أعمال الجبهة الوطنية الفلسطينية التي أسست عام 1973 (كامتداد لمنظمة التحرير الفلسطيني في الأراضي المحتلة) مبينة أنها كانت تهدف إلى “التنمية من أجل المقاومة” من خلال زراعة الأراضي والتنظيم النقابي، و أنه في الفترة ما بين 1987 و1988 أصدرت القيادة الوطنية للانتفاضة 315 توجيها تدعو الجماهير لأعمال غير عسكرية مثل عدم الامتثال لقوانين الاحتلال وعدم دفع الضرائب ومقاطعة البضائع الإسرائيلية بنسبة 72 في المئة من مجموع التوجيهات التي صدرت. ورغم عدم اختلافنا مع التقييم الذي قدمته الدراسة، إلا أننا نرى أن ما ساقته لا يدل على أن المقاومة المدنية كانت اتجاها مؤطر له ضمن قيادة حركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية، خصوصا أن الانتفاضة الأولى اتجهت نحو العسكرة في الفترة الأخيرة منها.4 كما أن المقاومة المدنية لا يمكن أن تنتهج من قبل نفس الحركة بموازاة المقاومة العسكرية.


في عدم جدوى المزاوجة بين الاستراتيجيات

من الأسس المهمة الأخرى في المقاومة المدنية الالتزام بمبدأ اللاعنف وعدم المزاوجة بين المقاومة المدنية والعسكرية. فعندما تبدأ آلة القمع الصهيونية بممارسة العنف في مواجهة المقاومة المدنية فإن المطلوب حينها أن تستنفر حركات المقاومة جميع جهودها لمنع حدوث رد عنيف. ويورد كتاب “حرب اللاعنف” مجموعة من الأسباب التي تؤكد أهمية هذا الأمر، ومنها: أن الرد بالعنف يعطي النظام مسوغ لاعتبار ما يحدث نوع من الإرهاب يجب مقاومته. وهذا هو ما استخدمته الآلة الإعلامية الصيونية بشكل فعال في اعتبار الصواريخ التي تطلق من غزة مثلا “اعتداءا على مواطني إسرائيل” ونجاحها في تسويق ذلك عالميا. كذلك يعتبر الكتاب أن “العنف يمثل الملعب الأفضل للخصم” . وتكتسب طروحات عزمي بشارة أثناء حلقة بحثية لمجموعة من الباحثين نشرت عام 2004 أهمية كبيرة في هذا السياق حيث أكد على أنه “لا نستطيع أن نسمح لأنفسنا بطرح استراتيجيتين أو ثلاث أو أربع (للمقاومة) لأن هذا لا يؤدي إلى إرباك الشعب الفلسطيني وحلفاء الشعب الفلسطيني فقط وإنما يؤدي أيضا إلى حال من الضعف أمام الخصم الذي لديه استراتيجية واحدة”. كذلك انتقد بشارة عسكرة الانتفاضة من خلال العمليات الفدائية في الانتفاضة الثانية حيث تسائل: „هل هناك استراتيجية محكمة تحكم هذه العمليات سوى مقولات عن توازن الرعب؟”، مؤكدا أن المقاومة يجب أن “تتجنب المواجهات الشاملة مع الخصم“.(2) ويتفق مع هذا التقييم عبد الإله بلقزيز الذي أشار إلى “استغلال الكيان الصهيوني للعمليات الاستشهادية تلك ليفتح جحيما عسكريا على الانتفاضة وشعبها في مناطق 1967 مستخدما بذلك قوة نارية تفوق قدرة المقاومة على الرد”. ويجب هنا أستذكار هنا ما قاله الراحل فيصل الحسيني في الندوة العالمية للقدس التي عقدت في قطر في نوفمبر/تشرين الثاني 2000 أنه “من الضروري ألا تتحول الانتفاضة إلى عمل عسكري مسلح ما لم تتم تهيئة الرأي العام الدولي”، مما يدل على أنه يعارض المزاوجة بين المقاومة المدنية والعسكرية في نفس المرحلة. كما يرى الحسيني بناءا على تجربته الطويلة في النضال أن الانتفاضة الأولى كان لها أهميتها في “تغيير قناعات الرأي العام العالمي، وحشد المواقف العربية والإقليمية في صف القضية الفلسطينية”. وفي هذا يقول ” أدركنا بمرور الزمن وكثرة الانتفاضات التي قام بها شعبنا على مدى أكثر من 50 عاماً أن كسب الرأي العام العالمي مهم لقضيتنا”. وهنا يكتسب كلام الراحل شفيق الحوت أهمية كبرى حيث قال عام 2004 تعليقا على ما حدث في الانتفاضة الثانية: „كما كان إقدام ياسر عرفات على توقيع اتفاقية أوسلو مغامرة قذفت بنا إلى المجهول فإنه من الممكن أيضا أن يكون الكفاح الملسح من نسق معين، مثل العمليات الاستشهادية، هو كذلك مغامرة قد تقذف بنا إلى المجهول” مؤكدا في نفس الوقت على أن “مقولة وحدانية الكفاح المسلح التي عشناها في الماضي يجب أن لا تتكرر بحكم التجربة”. (2)

إن هذا يؤكد أن ممارسة الكفاح المسلح منذ أواخر الانتفاضة الأولى بموازاة أشكال المقاومة الأخرى من المقاومة لم يؤد إلى النتائج المرجوة وذلك بشهادة القيادات المسؤولة نفسها، ولكن يتبقى أن تصل إلى هذه القناعة القيادات الفلسطينية الحالية، وخصوصا القيادات الشبابية الجديدة وأن نبدأ بتجربة الطريق الذي لم نجربه بعد، وهو المقاومة المدنية.

(الكاتب باحث في مجال المقاومة المدنية والطاقة؛ تُنشر هذه السلسلة هنا بالتنسيق والتعاون مع موقع “حبر”)


هوامش:
1 المقاومة اللاعنفية 1967 – 1993، باسم خضر التميمي، 2007، 126
2 منظمة التحرير الفلسطينية والانتفاضة – الحصيلة والمستقبل، بروتوكول لنقاش بين مجموعة من المتخصصين، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004
3 مقال عن فيصل الحسيني نشر في موقع قناة الحزيرة بتاريخ 31/5/2001.


المقال الأول

المقال الثاني

المقال الثالث: فلسطين التي نريد
المقال الرابع: دقت ساعة الانتفاضة
المقال الخامس: عائد إلى يافا
المقال السادس: تشويش على الإصلاح!
المقال السابع: الكيان القلق
المقال الثامن: مثل جنوب أفريقيا؟
المقال التاسع: من الخارج والداخل


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>