تحرير فلسطين مدنيًا: تشويش على الإصلاح؟(6)/ بشار حميض

هذه المهازل تستدعي بالضرورة مشهد بشار الأسد بعد أحداث درعا في “مجلس الشعب” السوري الذي لوقي التصفيق والإشادة على جرائمه. ليظهر بعد ذلك ابن خاله رامي مخلوف ليقول لصحيفة “نيويورك تايمز” إنه “لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سورية”

تحرير فلسطين مدنيًا: تشويش على الإصلاح؟(6)/ بشار حميض

هذه سلسلة مقالات منبثقة عن بحث حول إستراتيجية المقاومة المدنية لتحرير الإنسان على كامل أرض فلسطين. ستعالج المقالات بالترتيب المواضيع التالية: ماهية المقاومة المدنية وفلسفتها، العسكرة والمقاومة المدنية في التاريخ الفلسطيني، هل حان وقت المقاومة المدنية؟ فعالية المقاومة المدنية، أسس المقاومة المدنية في فلسطين، تمكين المقاومة بالثورة الخضراء والمدن والقرى المستقلة ذاتيا من حيث الطاقة والمياه والغذاء.


|بشار حميض|

بالنسبة لبعض الإصلاحيين في العالم العربي فإنّ موضوع الإصلاح ومحاربة فساد السلطة غير مرتبط بالاهتمام بالقضية الفلسطينية. بل إنّ بعضهم يذهب إلى القول بأن إثارة القضية الفلسطينية الآن -ولو من باب المقاومة المدنية- يُعدّ تشويشًا على حركات الإصلاح الثائرة في الأقطار العربية. لكنني أرى أنّ هذا الأمر بحاجة إلى إعادة نظر.

فالفساد في الدول العربية مرتبط إلى حد كبير بالعلاقة مع إسرائيل، ومن المفيد في هذا السياق مراجعة سيرة  الملياردير المصري حسين سالم الذي كان أحد أعمدة النظام المصري السابق رغم أنّ أسمه لم يكن متداولا على نحو واسع. فهذا الرجل ذو استثمارات ضخمة في قطاع الطاقة والمال والسلاح، وفي نفس الوقت تحوم شبهات عديدة حول علاقته بإسرائيل وتورّطه في قضية بيع الغاز بأسعار زهيدة لها. أما علاقته الوطيدة بنظام حسني مبارك، صديقه الشخصي، فهي تلخص تفاصيل حلف السلطة والمال المتحكم بعدد كبير من ساسة عالمنا.

مال وسياسة وإسرائيل

حسين سالم

فهذا الحلف لا يقتصر على ساسة منطقتنا بل هو مترسخ في أكثر من مكان. وتشير التحقيقات حوله دائمًا إلى صلات بين عالم التسلح ومشاريع الطاقة الكبرى والاحتكارات والسياسات الإسرائيلية بدرجات مختلفة. فالـ 29مرة التي حظي بها بنيامين نتنياهو بالتصفيق والوقوف إجلالا لمواقفه من قبل “ممثلي الشعب” الأمريكي خلال خطابه الأخير، لم تأتِ جزافًا، بل أتت بعد ارتفاع واضح في “تبرعات” اللوبي الإسرائيلي للسّاسة الأمريكيين خلال السنوات الأخيرة، وهي مؤشر قوي على النفوذ الكبير لحلف السياسة والمال في الولايات المتحدة. فعند دراسة الإحصائيات المتوفرة عن التبرعات لحملات أعضاء الكونغرس نجد أنهم تلقوا خلال انتخابات 2010 ما مجموعه   10,394,790مليون دولار أمريكي من منظمات تدعم السياسات الإسرائيلية بشكل علني، حصل عليها 268 عضوًا من أعضاء الكونغرس بين جمهوريين وديمقراطيين ومستقلين. وللمقارنة فإنّ صناعة ضخمة وهامة جدا للولايات المتحدة، مثل صناعة الأسلحة، دفعت خلال الفترة ذاتها 18,783,340 مليون دولار. في المقابل بلغت التبرعات لأعضاء الكونغرس في الفترة نفسها من منظمات تدعم قضايا عربية 72,349 ألف دولار فقط. لذا، عندما قامت ناشطة أميركية يهودية واعترضت على خطاب نتنياهو وهتفت داعية لحقوق متساوية لليهود والعرب ووقف الفصل العنصري في إسرائيل، إنهال عليها أعضاء لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)  بالضرب، لتعتقلها الشرطة بعد ذلك وهي في المستشفى تتلقى العلاج. وكي يكتمل المشهد خرج علينا الأسبوع الماضي بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة مطالبا حكومات العالم بعرقة أساطيل الحرية إلى غزة.

للأسف لا تتوفر لدينا إحصائيات عن مدى الفساد السياسي والمالي في الأمم المتحدة، لكنّ فضائح الفساد في برنامج النفط مقابل الغذاء كانت معروفة. وهذه المهازل تستدعي بالضرورة مشهد بشار الأسد بعد أحداث درعا في “مجلس الشعب” السوري الذي لوقي التصفيق والإشادة على جرائمه. ليظهر بعد ذلك ابن خاله رامي مخلوف ليقول لصحيفة “نيويورك تايمز” إنه “لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سورية” .

السرّ المكشوف

لقد رفع ربيع الثورات العربية في 2011 الغطاء عن أزمة الديمقراطية المغيبة للمجتمع، وعرّى “السّرّ المكشوف” حول تحالف رأس المال والسياسة. فالدول العربية ليست وحدها التي تعرضت شعوبها للتجهيل الإعلامي والسيطرة والاستغلال باسم الديمقراطية والجمهورية. فـ “أزمة الديمقراطية” ظاهرة عالمية تشمل الدول العربية والكيان الصهيوني ودول أخرى كثيرة، ومن أهم خصائصها فقدان الثقة بالأحزاب الحاكمة والمعارضة التي أضحت تحرّكها مصالح أخرى غير مصالح الشعوب في الاستقرار والعيش الكريم. وقبل الثورات العربية كانت هناك مؤشرات كثيرة على تصاعد لحركات الاحتجاج المدني خارج الإطار الرسمي للديمقراطية في أغلب قارات العالم. لكن تمكن حركة الاحتجاج المدني في تونس ومصر من إزاحة نظامين يدّعيان الديمقراطية، دعّم الثقة بهذا النهج، فأصبحنا نرى اليوم الآلاف من الشباب يعتصمون في إسبانيا مطالبين “بديمقراطية حقيقية” ويرفعون علم مصر ويدعون لمقاطعة الانتخابات والأحزاب الكبرى. فتحالف رؤوس الأموال الكبرى مع قطاع الطاقة التقليدية الاحتكاري وصناعة الأسلحة مع الساسة ضد حقوق الأفراد والشركات والجمعيات الصغيرة، الذي كان سائدا في مصر ولا يزال سائدا في دول أخرى كثيرة، هو الذي يدعم اليوم السياسة العنصرية في إسرائيل، وهو الذي يستفيد من القمع والاستبداد. وهذا هو ما يحتاج منا كفلسطينيين وعرب للالتحام مع القوى التي تسعى لمقاومة هذا التحالف مدنيا.

التطبيع والفساد..علاقة عضوية

ما اتضح في الأسابيع الأخيرة أيضًا أنّ هناك استنفارًا عربيًا وعالميًا لوقف حركة المجتمعات ضد السلطة، أو توجيهها بما يخدم المصالح المتضرّرة منها، مثلما بفعل نتنياهو وأوباما اللذين تحولا إلى مدافعين عالميين عن الثورات العربية. لكن هذا دليل على فعالية هذه الثورات وصحة أهدافها. فتأييد جهة مستبدة ما لثورة شعبية، ليس دليلا على أنها مؤيدة لها بالفعل، ولا يجب أن يكون ذلك سببا لنا للتوقف عن دعم أي مجتمع يثور ضد سلطة غاشمة أو احتلال أو فساد. ومن السذاجة القول إنّ موافقة سورية أو حزب الله على مسيرات عودة اللاجئين في 15 مايو/أيار 2011 هي سبب لعدم المشاركة فيها. فكلّ تحرك سيجد له داعمين من جهات يمكن أن لا نتفق معها، ولكن ذلك ليس سببا لوقفه طالما بقي التحرك مستقلا ويسير نحو هدف صحيح.

لقد شكلت مسيرات عودة اللاجئين حدثا هامًا جدًا في وجدان من شارك فيها وراقبها، ولا يتوقع أن تكون مجرد حدث عابر يهدف إلى تخفيف الضغط على سورية، مثلما قال البعض. بل هي كما يقول صقر أبو فخر، الكاتب والباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية “حدث تأسيسي” و”اختصرت 40 سنة من العمل لقضية اللاجئين وحق العودة” كما يرى علي هويدي، أمين عام المنظمة الفلسطينية لحق العودة (ثابت). ولم تؤثر التحركات من أجل فلسطين سلبا على الثورة السورية المطالبة بالحرية ، كما لم يؤثر ما حدث من قمع لمسيرة العودة في غور الأردن على الحراك الأردني من أجل الإصلاح، بل العكس هو الصحيح. فملفات التطبيع والفساد وارتهان الديمقراطية لمصالح كبرى وليس للأفراد، كلها أمور مترابطة عضويا، كما يبين المثال المصري والأمريكي وغيره بشكل جلي.

الحراك المدني ضد الصهيونية مناسب الآن وفي كلّ دول الطوق وفي الداخل الفلسطيني وفي أنحاء العالم أيضًا. إنّ قضية فلسطين تتأثر وتؤثر إيجابًا في قضايا العدل العالمية أينما كانت؛ فالإنسان الحرّ هو القادر على تحرير أرضه، أما من ينتظر من أنظمة قمعية أن تحرك جيوشها لتحرير فلسطين، فهو لا يدعو إلى تحرير بل إلى احتلال من نوع آخر.

(الكاتب باحث في مجال المقاومة المدنية والطاقة؛ تُنشر هذه السلسلة هنا بالتنسيق والتعاون مع موقع “حبر”)


روابط المقالات السابقة في السلسلة:

http://www.7iber.com/2011/05/civil-resistance5
http://www.7iber.com/2011/05/civil-resistance4
http://www.7iber.com/2011/05/civil-resistance3
http://www.7iber.com/2011/05/civil-resistance2
http://www.7iber.com/2011/05/civil-resistance-1


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>