تحرير فلسطين مدنيا: مثل جنوب أفريقيا؟/ بشار حميض

اتخذ مانديلا نهج العنف بعدما اعتبر أنّ الوسائل اللاعنفية التي تبناها ANC لعشرات السنين قد فشلت، فيما بقي آخرون متمسكين بخيار المقاومة المدنية. وكان لانتهاج الأسلوب العسكري في المقاومة أثر سلبي من حيث إطالته لعمر الصراع وعلى حقوق السود أيضًا

تحرير فلسطين مدنيا: مثل جنوب أفريقيا؟/ بشار حميض

هذه سلسلة مقالات منبثقة عن بحث حول استراتيجية للمقاومة المدنية لتحرير الإنسان على كامل أرض فلسطين. ستعالج المقالات بالترتيب المواضيع التالية: ماهية المقاومة المدنية وفلسفتها، العسكرة والمقاومة المدنية في التاريخ الفلسطيني، هل حان وقت المقاومة المدنية؟  فعالية المقاومة المدنية، أسس المقاومة المدنية في فلسطين، تمكين المقاومة بالثورة الخضراء والمدن والقرى المستقلة ذاتيا من حيث الطاقة والمياه والغذاء.


|بشار حميض|

في سياق البحث عن نموذج مناسب لتحرير فلسطين مدنيا، كثر في العقدين الأخيرين تشبيه الحالة الفلسطينية بحالة جنوب أفريقيا التي خضعت لنظام الفصل العنصري. فوجود المستوطنات بكثافة في الضفة الغربية وإصرار إسرائيل على يهوديتها والتطرف المستمر نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي ورغبته بالتخلص من فلسطينيي الداخل، أو عزل مناطقهم، يجعل الحالتين الجنوب أفريقية والفلسطينية تقتربان من بعضهما البعض من حيث الخصائص.


مانديلا والعسكرة

صحيح أن هذا التشابه يجب استغلاله بقوة أكبر في سياق التحركات الفلسطينية، ولكن يجب الانتباه أيضًا إلى أنّ الطريقة التي أُسقط فيها نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي ليست بالضرورة هي الطريقة المناسبة بكل عناصرها للحالة الفلسطينية. فلقد انتهجت في جنوب إفريقيا وسائل في المقاومة أرى أنها أطالت من عمر نظام الفصل العنصري الذي خدع العالم لعشرات السنين بحجة أنّ المقاومة ضدّه هي حركة عسكرية إرهابية. وكان لنيلسون منديلا دور هامّ في عسكرة الصراع، حيث أنه انتهج منذ عام 1961 المقاومة العسكرية ضد نظام الفصل العنصري وذلك من خلال قيادته للجناح العسكري للموتمر الوطني الأفريقي المعروف بسيف الأمة (Umkhonto we Sizwe). مانديلا اتخذ هذا النهج بعدما اعتبر أن الوسائل اللاعنفية التي تبناها المؤتمر الوطني الأفريقي  ANC لعشرات السنين في السابق قد فشلت، فيما بقي آخرون متمسكين بخيار المقاومة المدنية. وكان لانتهاج الأسلوب العسكري في المقاومة أثر سلبي ليس فقط في إطالته لعمر الصراع  وإنما على حقوق السود أيضا.

فقد مارس المؤتمر الأفريقي التعذيب في معسكراته “بشكل روتيني” خصوصا في الفترة ما بين عام 1979 إلى 1989، كما ورد في تقرير للجنة الحقيقة والمصالحة التي أسّست في جنوب أفريقيا بعد زوال نظام الفصل العنصري. كما وقع المؤتمر الوطني وحزب إنكاثا للحرية IFP المدافعين عن حقوق السود، في أتون حرب دموية بينهما امتدّت لسنوات خلال تسعينيات القرن الماضي الذي أصبح العنف يوجه فيه بشكل متزايد ضد السود بدلا من مقاومة نظام الأبارتهايد.


عسكرة الثورات

إنّ هناك ضرورة لإعادة النظر في الجانب “البطولي” لعسكرة الثورات العربية الجارية حاليًا والتي جرت من قبل ضد الاستعمار، ودراسة ما نتج وما يمكن أن ينتج عنها من أنظمة ودول. فالدول التي نراها اليوم تفتك بمواطنيها أشدّ الفتك، هي الدول نفسها التي طالما أشاد خطابها الرسمي والشعبي ببطولاتها العسكرية في “دحر الاستعمار” و”تطهير البلاد من العملاء”. نفس النخب العسكرية ذات التاريخ في محاربة أعداء الخارج، تتشدّق اليوم بمحاربة “أعداء الداخل”، الذين هم الشعب. فالتشكيلات والأنظمة المسلحة تحمل في طياتها طاقة سلبية تدميرية تنعكس على الذات بعد أن تنتصر على الآخر أو حتى حين تفشل في الانتصار عليه. وعادة ما تتمثل الحركات العسكرية التحرّرية أساليب المحتل القمعية بسرعة، لا بل أنها تزيد عليها وتطورها، نظرا لطبيعة العمل العسكري المبجل للقوة، غير القائم على النقاش أو الحوار والاختلاف بقدر ما هو قائم على تنفيذ الأوامر. ولعلّ المثال الحيّ على ذلك ما ورد مؤخرًا في تقارير منظمات حقوقية دولية من قيام قوات الثوار في ليبيا بممارسة أصناف التعذيب ضد المدنيين، مثلما تفعل كتائب القذافي، وهو ما يلقي بظلال قاتمة على شكل النظام القادم في ليبيا.

هناك ضرورة لإعادة النظر في الجانب “البطولي” لعسكرة الثورات العربية الجارية حاليًا والتي جرت من قبل ضد الاستعمار، ودراسة ما نتج وما يمكن أن ينتج عنها من أنظمة ودول

ما يمكن استخلاصه من مثال جنوب أفريقيا هو ضرورة مواجهة العنصرية التي تمارسها بخطاب وعمل مقاوم قويّ التأثير، غير عنصريّ ويحشد التضامن العالمي خلف الحقّ بالعيش في دولة تكون لكافة مواطنيها من دون تمييز ديني أو إثني، مثلما كان يطالب المؤتمر الوطني الأفريقي منذ بداية تأسيسه وحتى آخر يوم من الصّراع؛ فهذه كانت العناصر التي أدّت إلى تداعي نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا في النهاية، فقد سقط نتيجة أنه أصبح عبئا على دول العالم التي لم تستطِع تبرير وقوفها إلى جانبه، وهو ما نرى بوادر حصوله في حالة إسرائيل أيضًا.

وفي السياق الفلسطيني فإنّ ذلك يعني ضرورة البدء بمقاومة جذرية للطبيعة الصهيونية لإسرائيل وحشد القوى الفلسطينية في الضفة والقطاع والداخل والشتات نحو مشروع واحد للتحرير بالتعاون مع كل القوى الدولية واليهودية غير الصهيونية وفق شروط صارمة ترفض الطبيعة اليهودية للدولة وقوانينها ومستوطناتها.

(باحث في مجال المقاومة المدنية والطاقة؛ تُنشر هذه السلسلة هنا بالتنسيق والتعاون مع موقع “حبر”)


رابط للمقال الأول
رابط للمقال الثاني
رابط للمقال الثالث: فلسطين التي نريد
رابط للمقال الرابع: دقت ساعة الانتفاضة
رابط للمقال الخامس: عائد إلى يافا
رابط للمقال السادس: تشويش على الإصلاح!
رابط للمقال السابع: الكيان القلق


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>