باتمان، المأزق الأيديولوجي للرأسمالية المعاصرة/ هشام روحانا

باتمان، المأزق الأيديولوجي للرأسمالية المعاصرة/ هشام روحانا

وبالتأكيد، فإن السردية النفسية للفيلم التي تدور حول شاب واسع الثراء وذي شخصية سوداوية غامضة تئن مثقلة بفاجعة عائلية، وبتكرار عودة مشهد الجريمة إلى مخيلته، لا تشكل سوى الغلاف السطحي للمحتوى الاجتماعي السياسي للفيلم. هذا المحتوى الذي يدور حول الأزمة التي تعانيها المؤسسات الديمقراطية والدستورية للنظام الرأسمالي؛ من صحافة فقدت مصداقيتها إلى شرطة مصابة بآفة الفساد وصولا إلى ممثلي الجمهور فاقدي النزاهة.

batman

| هشام روحانا |

ستتناول هذه الدراسة فيلم ” عودة فارس الظلام ” (The Dark Knight Rises) استنادا إلى الملاحظة العامة التي يقررها “فريدريك جيمسون” في مقالة له ومضمونها أننا نستطيع تقصي كل ما نحتاجه من أجل معرفة التضاريس الايديولوجية لحقبة اجتماعية – تاريخية ما، من خلال النظر إلى كيف يتم فيها إعادة إنتاج “الشرير المناوب” (bad guy) المتخيل  (Jameson “Realism and Utopia in The Wire,” Criticism 2010,368).

وفيلم “عودة فارس الظلام”  الصادر عام 2012  هو الأخير من ثلاثية أفلام باتمان للمخرج “كريستوفر نولان”؛ “باتمان البدايات، عام 2005″ و “باتمان، فارس الظلام عام 2008″ على التوالي، وتشكل هذه الثلاثية تتويجا لمجموعة متتالية من الأفلام السينمائية التي تتناول صراع “باتمان” ضد الجريمة المنظمة والفساد داخل النظام القائم في المدينة الخيالية “غوثام”.

 يعود تاريخ شخصية البطل الخارق “باتمان” الى العام 1939 حيث ظهرت لأول مرة في سلسلة القصص المصورة (May  27Detective Comics DC) لمؤلفها “بوب كين”. وقام “كين” بإنتاج هذه الشخصية بتأثير النجاح منقطع النظير لشخصية بطل خارق سابق له هو “سوبرمان” ودمجه مع شخصية “زورو” الاسطورية ومخطوطات “ليوناردو دي فنتشي” لنماذج في هندسة الطيران.

ومع أنه يشبه من حيث المنشأ شخصية “سوبرمان” البطل الخارق والذي يسبقه الى الظهور في نفس الجانر الادبي (القصص المصورة) هذا، الا أنه يختلف عنه في منابع قوته الخارقة التي لا تعتمد على قوى خارجة عن الطبيعة البشرية كما لدى “سوبرمان” (الآتي من كوكب كريبتون والذي يتمتع بمناعة ضد الرصاص وبقوة خارقة وغير طبيعية) إذ أنه يؤسس لمصادر قوته بالتدريب والجلادة وباستخدام تقنيات التكنولوجيا المعاصرة ومصادر ثروته الهائلة. لقد قام كين بتصوير شخصية “باتمان” على صورة الرجل الوطواط بجناحين عملاقين وقناع أسود للوجه ولا يظهر كالوطواط الا في الليل.

ومنذ نشأته  في فترة ما بعد “الكساد العظيم” الامريكية في الثلاثينيات،  شكل “باتمان” عاملا مساعدا لتحصيل البهجة الجماهيرية، وظلا اسود يظلل تفاؤل الحلم الامريكي. وفي عام مولده الستين كان “باتمان” قد صار رمزا ثقافيا وبضاعة شائعة يعاد انتاجها بمواصفات الحقب الزمانية وفق الطلب والحاجة ليغدو منتجا ثقافيا جماهيريا بارعا (Batman’s big birthday, The Guardian, March 15th 1999).

تغدو هذه الشخصية الهوية السرية التي يختفي وراءها “بروس ووين” ، شاب بالغ الثراء والظاهر بمظهر وكأنه المستهتر عديم المسؤولية والذي صار ذلك الفتى بعد أن شاهد مقتل والديه بدم بارد أمام عينيه إثر جريمة سطو مسلح، ليرث عنهما مؤسسة مالية لا تنفك ثروتها عن التزايد من خلال التعامل بالبورصة وبتقنيات التكنولوجيا المعاصرة وباختراع اسلحة فتاكة للمؤسسة العسكرية الامريكية. إن مقتل والديه العنيف وبالأخص والده الذي بالإضافة لثرائه الفاحش كان محسنًا كبيرًا، شكل الصدمة التي ستلعب الدور الوحيد في مجرى حياته. ما لا يعرفه مواطنوه في مدينة “غوثام” هو أن هذا الشاب ما هو الا ذلك الفتى المصعوق من مشاهدة جريمة مقتل والديه والذي لم يستطع تجاوز  تلك الصدمة ابدا، فيبحث عن مخرج يجده في رحلة تقوده الى مدينة نائية في الشرق الاقصى يعيش فيها على هامش المجتمع، الى أن  يجد من يدربه على فنون القتال والتحكم بالقدرات الجسدية. يلتقي هناك بفرد من أفراد عصابة “مقاتلي الظِلال” ويغدو واحدا منهم. يهرب “بروس وين” من وجه هذه العصابة بعد خلافٍ دامٍ معها، ويعود الى موطنه الأصلي وقد اكتسب  قدرات جسدية وقتالية فائقة مقررا محاربة الجريمة في شوارع مدينته الأم من خلال مساعدته في القبض على مجرمين وأفراد فاسدين من الشرطة متلبسين بالجرم المشهود ويستمر بدعم الأعمال الخيرية من خلال مؤسساته. يشكل هذا الاطارَ العام لأفلام “باتمان” منذ نشأتها لغاية اليوم وتختلف فيما بينها بشخصية “الشرير المناوب” وبتطعيم الفيلم بشخصيات وتقنيات جديدة ومبتكرة.

أما الفيلم “عودة فارس الظلام” وعلى الرغم من أنه يبدو للوهلة الأولى نسخة مكررة ومستهلكة لهذه السردية، فإنه يشكل نقلة نوعية من حيث هوية الشرير الذي ينبغي على “باتمان” محاربته هذه المرة. لن أقوم هنا بسرد كامل أحداث الفيلم، بل سأتوقف عند الضروري منها من أجل الخلوص إلى الصيغة العامة التي ستشكل أرضية ما تبقى من هذا البحث. يضطر بروس ووين إلى العودة إلى مسرح الأحداث في ليل مدينة “غوثام” بعد عزلة فرضها على نفسه استمرت ثماني سنوات. المبرر الشكلي لهذه العودة هو ظهور “بين” الشرير  (Bane وتعني الهلاك) في المدينة مطالبا بالاقتصاص من “بروس ووين” لثأر قديم. أما الشرير الحقيقي وسبب عودة “بروس ووين” إلى هويته السرية؛ “باتمان”، ولمزاولته ما يعرف القيام به، أي مكافحة الجريمة، فهو “الكومونة الشعبية” التي نشأت بعد استيلاء  جمهور العامة على السلطة في مدينة” غوثام” بتشجيع ودعم من “بين” وإعلان قيام “جمهورية شعبية” مستقلة ومنفصلة عن سائر ولايات الحكومة الفيدرالية. يقوم “بين” بفرض حصار على المدينة والاستيلاء على مفاعل نووي سلمي محولا إياه إلى قنبلة ذرية. تبوء محاولات “باتمان” لتعطيل القنبلة الذرية بالفشل مما يضطره إلى نقل القنبلة في طوافته الشخصية بسرعة فائقة ملقيا بها وبنفسه لتنفجر في أعماق المحيط في فعل تضحية أثيري بالنفس. تشكل صدارة أفلام هوليود إذا، ووفق “جيجيك” مؤشرا دقيقا للمأزق الايديولوجي لمجتمعاتنا المعاصرة ،حيث يعكس الفيلم قلقا معاصرا يتم من خلاله كبح جماعة المواطنين عصية المراس والجامحة والاحتفال بـ “الرأسمالي الطيب” (Slavoj Žižek: The politics of Batman New statesman Aug 23, 2012 ).

وبالتأكيد، فإن السردية النفسية للفيلم التي تدور حول شاب واسع الثراء وذي شخصية سوداوية غامضة تئن  مثقلة بفاجعة عائلية، وبتكرار عودة مشهد الجريمة إلى مخيلته، لا تشكل سوى الغلاف السطحي للمحتوى الاجتماعي السياسي للفيلم. هذا المحتوى الذي يدور حول الأزمة التي تعانيها المؤسسات الديمقراطية والدستورية  للنظام الرأسمالي؛ من صحافة فقدت مصداقيتها إلى شرطة مصابة بآفة الفساد وصولا إلى ممثلي الجمهور فاقدي النزاهة. الجانب الآخر للمسألة في نظر العديد من النقاد والمعلقين على الفيلم هو ردة فعل استباقية لحركة “احتلوا وول ستريت” (OWS) هذه الحركة الاحتجاجية التي بدأت في سبتمبر/أيلول 2011 على أثر الأزمة النقدية التي عصفت ببورصات العالم وبتأثير مما سمي اعتباطا “الربيع العربي”. حيث يجري في الفيلم تصوير الحركة الاجتماعية التي سيطرت على الحكم في المدينة الافتراضية “غوثام” على أنها حركة شعبوية مرتبطة بأعداء خارجيين ودكتاتورية الطابع يتزعمها سجناء ومرضى نفسيون وخارجون على القانون، ليتم بصورة مبطنة إدانة الحراك الجماهيري واختزال الفعل الجماهيري إلى أفعال عنيفة دموية ذات طابع إجرامي. في المقابل يجري تصوير الرأسمالي الشاب على أنه مُحسِن كبير ومحارب لامع ضد الجريمة ومتفاني إلى حد التضحية بالذات لإنقاذ مدينته من تأثير القنبلة النووية.

ما يحدث هنا هو الاحتفاء بأفعال فرد خارق مقابل إدانة الفعل الجماعي. وقد يبدو من الوهلة الأولى بأن باتمان قد اختار طريقا مختلفة عن طريقة والده، ففي حين يحاول الأب مساعدة المجتمع من خلال أعمال البر والإحسان يقوم الابن بسلوك “مغاير”- إي مبادرته الفردية في معالجة الجريمة-  معتقدا انه سيغير من شروط حياة الناس. وفي كلتا الحالتين هنالك إيحاء لخلاص يمكن له ان يتم من خلال المبادرة الأريحية الفردية، مبادرة فردية تُكلل بهالة من القداسة. ففي الحالة الأولى يُقتل الأب على يد واحد من متشردي المدينة ، هذا بالرغم من إحسان المغدور وجزيل عطائه لهذه الفئة من الناس بالذات. وفي حالة  باتمان فإن التضحية  بنفسه في سبيل أبناء مدينته يبلغ حد القداسة لا ريب. ألم يكن بريخت مُحقا عندما قال” أي جُرمٍ هو السطو على بنك مقارنة بتأسيس بنك؟”، ذلك أن فعل الإحسان (لدى الأب) وتصيُّد مجرمي الشوارع (لدى باتمان) لا يشكلان في واقع الأمر الا الصمام الذي من خلاله يستطيعان الاستمرار بممارسة الاستغلال الفعلي، فهل هنالك وسيلة أكثر فعالية من هاتين الوسيلتين لكي يتم لهما الشعور بالرضا عن الذات.

والمأزق الأيديولوجي المُعبر عنه في الفيلم يُنظِّر للجريمة والفساد بوصفهما نتاجا ثانويا وغير أصيل للنظام الرأسمالي يقعان على هامشه، لا  كنتيجة حتمية وضرورية للملكية الفردية وتقسيم العمل ولاستمرار الاستغلال وإلقاء أجزاء معتبرة من القوة العاملة والمنتجة خارج سوق العمل. إن هذا “النقص” في النظام لا يمكن ملؤه الا من خلال العمل الفردي لرأسمالي متنور ومحب للغير، ذلك أن البديل الذي يصفه الفيلم والمتمثل بـ”سلطة الشعب” كما يصورها ويتصورها لن يقود إلا إلى دكتاتورية يحكمها أنصاف مجانين خارجون عن القانون. وابلغ تعبير عن نظرته الكاريكاتورية لهذه السلطة هي في مشهد المحاكمة التي يلعب فيها دورَ القاضي شخصٌ مختل عقليا تضع أحكامه الأغنياء الطيبين أمام خيار زائف لتكون النتيجة إما الموت غرقا وإما رميا بالرصاص. والطبيعة الزائفة لهذا الخيار هي منطق الخيارات التي يضعها الفيلم نفسه أمامنا؛ فإما القبول بالوضع السائد على ما هو عليه مع بعض التحسينات الطفيفة التي يزودنا بها أناس خيرون متنورون أو فوضى عنف يسود بسيادة دكتاتورية لا منطق يحكمها.

وفي واقع الأمر ما يتم هنا فعلا هو قصف المُشاهِد بصورٍ ومَشاهِدَ استعراضية فائقة التقنية وزائفة، تهدف إلى إدامة وتعميم نظرة محددة ومجتزئة  إلى المجتمع ليبدو وكأنه  في حالة سكون، بحيث يتم إخفاء الصراع الطبقي وأبعاده عن أعين المشاهد، مما يضمن حجب أية قراءة حقيقية، لأن المقصود في نهاية المطاف هو إعلان المصالحة مع الوضع السائد للمجتمع، ليعيد إنتاج ذاته متخطيا أزمته بالقفز عنها، ذلك أن أي فعل فردي  لباتمان لا يتناقض مع المنطق العام للرأسمالية المتطورة، فوظيفته الفعلية هي محاربة الجريمة الفردية والفساد الفردي  دون المساس بأسس النظام الذي يولدهما. تسعى هذه المقاربة إلى اختزال المواطن في “مجتمع الفرجة” وتثبيته في موقع المتفرج على فعلٍ استعراضي فردي (جـي ديبـور، “مجتمع الفرجة”، ترجمة: أحمد حسان، دار شرقيات).

يمكننا إذًا تلخيص العناصر الايديولوجية الظاهرة في الفيلم كما يلي:

  1. يصور الرأسمالي الشاب وفق أفضل الأخلاق البروتستانتية (باعتبار أنها العوامل الأساسية لتطور الرأسمالية وفق فيبر) ؛ الزهد المرتبط بالعمل الدنيوي، الاجتهاد، المثابرة ، التحكم بالرغبات والقدرة على التخطيط إلى جانب القدرة على الادخار ومراكمة رأس المال والسيطرة العلمية والتقنية على الطبيعة والعالم (يُنظر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ماكس فيبر).
  2. القلق المتأصل من عدم إمكانية الحفاظ على النظام الرأسمالي من خلال مؤسساته الشرعية والدستورية، مما يتطلب تدخلا من خارج هذه المؤسسات من قبل شخصية غير شرعية فعلا، الا أنها ذات قوى وإمكانيات خارقة (باتمان) من أجل الاستمرار في حفظ النظام العام ومحاربة الجريمة والحراك الجماهيري. مما يستدعي إلى الذهن مباشرة النواحي الفاشية الكامنة في شخصية باتمان (بدأ بتسلم زمام الأمور من يد السلطات “الشرعية” واستخدام العنف لإحباط الخصم وصولا إلى اللباس الموحد والمموه وإعلاء شأن الرموز).
  3. الاحتفاء بالفردي اللامع كمصدر ممكن للخلاص وإدانة الجماعي كمصدر أكيد للفوضى.
  4. اعتبار الثروة المتحصلة لدى ممثل الرأسمالية الشاب شرعية وخارج نطاق المساءلة وإغفال المصادر الحقيقية والإشكالية لهذه الثروة كصناعة الأسلحة الفتاكة والمضاربة باسهم البورصة، ومن ثم إبراز الأعمال الخيرية  لهذه الشخصية الممثلة للطبقة الرأسمالية والاحتفاء بها.
  5. تصوير الحراك الجماهيري لمجموع المواطنين للاستيلاء على السلطة من خارج المؤسسة الديمقراطية التقليدية (أي الفعل الديمقراطي الحقيقي) بصورة سلبية وكاريكاتورية ومتأنفه.
  6. إعادة إنتاج مفهوم التضحية الاندفاعية بالنفس من أجل إنقاذ البشرية من مصيرها المشؤوم، مقابل الحاجة إلى تعميم نمط العمل الجماعي والمثابر والمستدام.

(الكرمل)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>