“بردقانة”/ د.عبد الله البياري

“بردقانة”/ د.عبد الله البياري

تناولت “بُردقانة” السؤال الإنساني أولًا، الفلسطيني ثانيًا، الذي لايموت، وإن تم ذلك في سياق “تبسيطي” أخل به وبأثره في السرد، وتكون منظومة وجود “فايز” القيمية لدى المتلقي/القاريء، تلك التي تنمو بالتساؤل والتأمل، وهو سؤال “الوطن” و”العمالة”.

orange

| د.عبد الله البياري |

(“بُردقانة” رواية للكاتب الفلسطيني إياد برغوثي، أُنجزت في إطار “مُحترف نجوى بركات” في دورته الثانية 2013-2014 التي أقيمت بالتعاون مع وزارة الثقافة في مملكة البحرين).

 
الرواية التاريخية و التخيل التاريخي

برغم وقوع الرواية -التي تحمل إسم هذه المادة النقدية-، في سردية لحقبة تاريخية وأحداثٍ وشخوصٍ تاريخية وُجدوا فعلًا في فترة هامة للغاية، من فترات التاريخ المار على فلسطين والمساهم في تشكيل الوعي الفلسطيني، وهي فترة الإنتداب/الإستعمار البريطاني، بل وأكثر من ذلك يمكن القول أنها فترة تعاظم مؤثرين تاريخيين وحضاريين، وتقاطعهما، وهما التاج الإنجليزي، وماحمله الإنتداب/الإستعمار على فلسطين، وتنامي الجهود والمؤامرة الصهيونية الإمبريالية للاستيلاء على فلسطين أرضًا وتاريخًا، إلا أن تلك الرواية لا تنحو منحى الروايات التاريخية الإعتيادية –بافتراض أنها تاريخية-، تلك التي يتأسس فيها المشهد السردي على هامش الحدث التاريخي كالمركز  والطرف، بشكل أساسي، مثلما هي الحالة في “ليون الأفريقي” لأمين معلوف، مثلًا، بل إن “بردقانة” تحكي هاجسًا فلسطينيًا بامتياز، ليس مقيدًا بتفاصيل “الآن و الهنا” الاستعمارية الإنجليزية، بل ممتدًا منذ أيام الثورة الفلسطينية إلى الوقت الحاضر، لا لشيء ولكن لأن الهم الأساسي في الرواية أو “العقدة” –كما توصف نقديًا- لا يزال متمثلًا في سؤال تعلو وتيرته في العقل الفلسطيني، مع تزايد المراجعات الذاتية والحوار الذاتي بتراكم الهزائم الذاتية وخدر الإنتصارات الشكلية السياسية، ألا وهو سؤال “العمالة”، السؤال الذي لا يأتي وحيدًا أبدًا، إنما يترافق في العقل والإدراك مع سؤال “الوطن”، فإذا عُرف الوطن عرفت حدود العمالة، أما إذا غاب الوطن، تسامت حدود العمالة، وبالذات إذا علمنا أن مفاهيم كالوطن والمقاومة والثورة (بشكلٍ ما) تتشكل بفعل ممأسس سياسيًا مجتمعيًا و ثقافيًا.

 هذا جميعه وشواهده، يؤكد الحاجة إلى إحلال مصطلح “التخيل التاريخي” محل “الرواية التاريخية” (كما يرى الناقد العراقي د. عبدالله إبراهيم)، مايدفع بالسرد إلى التحرر من كليشيهات التصنيف المرجعية، بدرجة تتيح للقاريء/المتلقي التقرب من الهم البشري الفردي و الجمعي المحايث للحدث التاريخي دونما الحاجة لصكوك المرجعية التاريخية، ما يفتح السرد أكثر على الكشف عن العبر المتناظرة بين الحاضر و الماضي، ورمزيتها ودلالاتها في الحدث الإنساني، متأملًا المصائر، والإنهيارات القيمية، و التطلعات الكبري و الصغرى، فيغدو التخيل التاريخي هو المادة السردية المتخيلة بشأن الثابت المتحقق التاريخي، منطلقًا من التوثيق إلى التأمل و التعاطف و التفهم، بوظيفة جمالية.

****

حكاية البردقانة والسينما

“ُبردقانة”، تتلبس السينما وبنيتها في السرد الروائي، فـ”بُردقانة” تمثل منتصف المشهد السردي والرمزي على التوازي، هي المركز الذي تدور حوله كل الأحداث وتُنسج، فتنبني حولها كل المشاهد السردية، تمامًا كالسرد السينمائي القائم على وجود شخص/شيء/مادة مركزية حاضرة  في كل المشاهد ومتكررة من البداية إلى النهاية. وكأنها –”بُردقانة”- شاهدة على تواتر التاريخ والإنسان معًا حولها، حوارهم مع ذواتهم وعالمهم، في زمن/حدث تاريخي لن يتوقف أمام مجرد “بُردقانة”، وإن غلب عليها الصمت، أوليست “كل عكا تعرف بردقانة” كما يقول “فايز” (الشخصية الرئيسية مع بردقانة في الرواية).

 وبرغم الثقل التاريخي الذي يتمتع به المكان السردي: فلسطين والعالم العربي، بحيفا وعكا ويافا و مصر وغيرها، وما تتمتع به الشخوص في الرواية والتاريخ: العرب والفلسطينيون و الإنجليز واليهود، وما مثله ذلك كله للمجتمع الفلسطيني من رمزية وفعل وحدث على مدى التاريخ إلى الآن، إلا أن القاريء لا يمكن إلا أن يسائل نفسه على امتداد السرد في بعض المواضع القليلة (وهنا موطن ضعف) التي غابت فيها بردقانة، “ماذا ترى، بردقانة؟”، “ماذا كانت لتقول هنا، ولماذا هي صامتة؟”. يذكرنا هذا البناء الروائي المتمرئي –من مرآة- سينمائيًا، بفيلم 3 Iron  الكوري، 2004، من إخراج وتأليف كيم دوك كيم، إذ أن بطلي الفيلم، صامتين على طول الفيلم، وكل الأحداث التي تتعالى وتنخفض تنسج حولهم وتؤثر فيهم، وصولًا إلى تعاطف لايمكن منعه، وتفهم لتلك العاطفة التي تربطهما، ولكن “بُردقانة” التي ينسج السرد في ظلها، وضعها أكثر تعقيدًا مما هو حال الحضور الصامت في الفيلم، إذ أنها لاتنطق، ولا تتحقق فيها مقولة دافيد لوبورتون “الوجه ميزة الإنسان”، إذ أنها تحرم حتى من قناة التعبير تلك.

في الرواية، في الفصل السابع تحديدًا، تُعطى “بُردقانة” فرصة للحياة والتعبير والتناص والحديث في حياة موازية، في “الآن” و “الهنا” الفلسطينيين المستعمَرين، إذ تغدو جزءًا من المواجهة التي لا تنتهِ (ولا يجب أن تنتهي بين المستعمر والمستعمر، وهو مايؤكد على كون أي نشاط إنساني واقع تحت الاستعمار، لايجب أن يوجه إلا ضد الاستعمار). في الفصل السابع، تحدث الواجهة السردية في الواقع المحكي، كما تحدث في المجاز والاستعارة، مما يحرر المعنى من قيده المدرك مباشرة، ويجعل الفكرة أقدر على البقاء و التعبير و المواجهة و الجمع. يذكر الفصل السابع، من الرواية: “كانت آخر أيام الثورة، قبل الحرب بكم شهر، بالـ39 بفكر، بهاي الفترة كانوا ييجوا كبسيّات على البلد، عنّا بسولم، بتعرفوا وين سولم، صح؟ أيوا! بمرج ابن عامر، الله لا يسهل عليه ولا يرحمه اللي باعه للخواجات، ياويلك من سواد ليلك يا سرسق الكلب. المهم، كانوا ييجوا الإنجليز كبسيات يدوّروا على الثوار، كل يومين ثلاثة، يهلهلوا. وكنا إحنا الشباب، كل يوم العصريات، نتجمع نلعب فوتبول على التل المسهمد، غربًا، على فوتة البلد. وبتعرف، إشي ييجي حافي إشي لابس “فقراوية”، عندكوا “فقراوية” بعكا، كابتن؟ أيوا الكندرة القديمة اللي الله بمدّ بعمرها وبطعجها من ورا تتصير حفاية أبدية، بالزبط” [….] “المهم بشي يوم بعد الظهر، إجب كبسية إنجليز يلمّوا الثوار، شافونا، الشباب بلعبوا فوتبول والغبرة عابقة. شو بتساووا؟ بنلعب فوتبول. كلمة هون، كلمة هناك، ولا الجنود مركبين فريق وبلشت اللعبة. جبنا جول، جابوا جولين، جبنا جول تعادل. وخبطت أنا جول، مرقت الطابة من بين نص إجرين الجوّيل الإنجليزي، خفت يطخني من نظراته، بنص اللعبة، بيجي إبراهيم الخليل القرعان تيضرب هالطابة، ولا الفقراوية طايرة من إجرو، وفاقعة الجندي الإنجليزي بنصّ وجهه” […] “حميت الأمور وعصبوا الإنجليز وصار اللعب خشن ولئيم. بعد شي ربع ساعة، بيتصاوب جندي مع إنه لابس بسطار، وبطلع محمل إجره. بعصّب الضابط زبوقف اللعبة، بلّم الجنود، بينسوا الثوار، بينسوا لشو جايين وبطلعوا من البلد، ماكلين صرامي بوجههن وخسرانين”.

الرمزية والإستعارة التي أسست لهزيمة “جيش الإنجليز” في هذه الإقتباس البسيط، وبرغم اعتراف “فايز” إذ يقول:” بفكر عمي أبو مفلح، إنه مش بسيطة تغلب جيش الإنجليز!”، ليست مجرد مواجهة في لعبة كرة قدم، يحكيها صبي، وبالذات إذا توقفنا أمام عناصر بنيوية في تلك المواجهة جاءت في السرد، وارتأت أن تستمر في باقي الأحداث، شواهدها لا تظل حاضرة بقوة في الحاضر الفلسطيني الذي ورث لعبة الإنجليز الإمبريالية التي لم تنته به وهي الكيان الصهيوني، وبالتالي فالحاجة لتأمل تلك الشواهد لا تظل حاضرة.  فالهزيمة/الانتصار من وجهة نظر صاحب “الفقراوية”، يجب أن تكون بمشاركة كل الفلسطينيين، وبكسر كل موانع المشاركة تلك، من الرواية:

-  “ودخلك عمي، بأي ستايل فريكقوا غلب الإنجليز؟”

- “إحنا فلاحين عمي، فش عنّا فرق، ولا منوصل منتخبات، ومنعرفش شو هاذ الستايل، بس منغلب الجميع…”

- “كل الناس خير و بركة، عمي.”
- “جواهر عمي. لو هيك الكل بفكر عن جد، كان من زمان غلبنا باللعبة الكبيرة”.

وتمتد الإستعارة و المجاز لتكشف في موضع آخر من ذلك الفصل الذي تتحدث فيه “بردقانة” في حياة أخرى موازية في نفس النص، فتتناول على لسان الصبي، نقطة بنيوية في المواجهة بين المستعمر و المستعمر، ألا وهي المدينة و الريف:

- “فاهم عليك، لاعيبة المنتخب لازم يكونوا من الفرق العضوة بالاتحاد… يمكن صعب يكون…”

- “يعني المنتخب بس لولاد المِدِن؟”

- ” في قرى فيها فِرَق…”

- “إنت بدك تغلب ولا ترضي الأكابر؟”

- “أنا بدي أعمل فريق لكل الشعب…”

_ “وإحنا مش شعب؟! ولا بس وقت الثورة والطخ منصير شعب؟ الحكي مش إلك كابتن، ما تفهمني غلط، بحكي واحد مقروص، استشهدلنا أخو، و اتشحشطنا بهالثورة اللي قلبت علينا”.
إلى أن أعلنت الاستعارة عن نفسها في نهاية الفصل، و أقرت موقعها من “اللعبة الكبيرة”:

- “بالفقراوية ممكن تغلب الجيش الإنجليزي نفسه، مش بس الفريق!”.

بهذا الإعلان الواضح للاستعارة عن نفسها، وكيف أن بساطة الاستعارات تحررنا (كما قال درويش)، يمكننا تفهم الدلالة الثقافية والاجتماعية، للفعل الإنساني في السياق الاستعماري، وكيف أن أي عملية إنتاج فلسطينية (بالمعنى المادي والمعنوي) يجب أن تصب في حيز المواجهة مع الإستعمار، حتى ولو كانت مجرد “لعبة” كرة قدم، فهي ستظل جزء من “اللعبة الكبيرة”.

*****

المجهول و الموت في الحكاية الفلسطينية

في حياة الفلسطيني ثمة مكان دومًا لمجهولَين إثنين، يسيران معه كظِله: “المجهول” و”الموت”، ويعرِّ ذاته بهما، ولهذا فهو باحث عن بداياته على الدوام، “البدايات” تستطيع دومًا أن تقلل أثر “المجهول” على حاضرنا ومستقبلنا، وهنا يمكننا الإشارة –مثالًا- إلى “بدايات” إدوارد سعيد الذي أسس فيه لمفهوم البداية في العمل الروائي، وصولًا إلى البداية في الوجود الإنساني كاملًا وسردًا، ومنه يمكن تفهم فكرة المنفى لدى إدوارد سعيد كفلسطيني وحنينه ودفاعه الدائم عن بداياته التي شكلت حاضره ومستقبله.

تلك “البدايات” التي يمكننا من خلال ترصدها أن نرى أن للرواية “بدايتين”، بداية سردية، تسير بالقاريء و المتلقي في الحكاية، تبدأ مع “فايز” وقصته الإنسانية البسيطة وحلمه وقصة حبه ومشاريعه، وهي البدايات التي تأسست بفعل قوى النسيج المجتمعي الذي يخضع لها “فايز”، فهو مثلًا، لم يختر حبيبته “ثريا”، إنما إختارتها له والدته، وتستمر إلى نهاية السرد. في “بردقانة” برغم تطور أحلام “فايز” ومشاركة من في محيطه، إلا أن ذلك التطور محكوم ببداية أخرى دائمًا، غير تلك السردية، وبداية المرء من أبيه/نسله، وهنا يمكننا تفهم كيف أن سردًا كهذا وإن أتى على أحداث جسيمة لشعوب وجيوش وأمم وأوطان ونضالات وعمالة، وغيرها، إلا أنه يظل سردًا ينحو منحىً دائري، أنه يبدأ من حيث انتهى، إذ من دون تلك “البدايات” لا يعود المرء إلا لمحله (محلك سر)، بدأ فايز من “لعبة فوتبول” وإليها انتهى، بكل ما مر به من تساؤلات وهموم وهزائم.

تعلق “أم فايز” في النوع الثاني من البدايات، وهي البداية الزمنية، فبرغم دوران السرد دائريًا ومحمولًا على هديره ابنها “فايز”، فإن لها طقوسها اليومية في شرب القهوة كمراقب، إذ تضع “الصينية النحاسية وعليها الغلاية وثلاثة فناجين قهوة، على المائدة. لم يسألها، حتى الآن، لمن تأتي بالفنجان الثالث. يخاف أن يفتح باب الوجع”.

لايريد “فايز” أن يفتح بابًا للوجع، الذي لا يأتي وحيدًا أبدًا، يأتي ومعه “الموت”، ذاك “الباب”، الذي بانفتاحه يعريه كاملًا، وإغلاقه يقربه من بعيده المشتهى في عيون الناس والمجتمع، ذاك المشتهى الذي بانهياره استحال حلم فايز كابوسًا وهاجسًا وجوديًا. يذكرنا منطق الباب/البدايات هاهنا بمقولة: “مأساة السجن، ليست فقط في الإغلاق، بل في استباحة الفتح”، فايز من دون أن يفتح للموت باب بداياته ويسائل نفسه أسئلة وجودية لأي فلسطيني : ما الوطن؟ ما العمالة؟ أين هي الثورة؟، استحال سجين دائرة حلمه الذي بدأت منها الرواية، وإليها إنتهت، “لعبة فوتبول” منسية بين أمم تتصارع على جثة والده/بداياته، “من بعد ماخربت الثورة، كل إشي خرب!”.

*****

“العمالة” بين الوطن والخيانة

تناولت “بُردقانة” السؤال الإنساني أولًا، الفلسطيني ثانيًا، الذي لايموت، وإن تم ذلك في سياق “تبسيطي” أخل به وبأثره في السرد، وتكون منظومة وجود “فايز” القيمية لدى المتلقي/القاريء، تلك التي تنمو بالتساؤل والتأمل، وهو سؤال “الوطن” و”العمالة”، ذلك السؤال الذي يزداد كثافة وترسبًا في الوعي الفلسطيني بقدر ما تزداد قابليته للإجابات السريعة، إلا أنه بالتأكيد على حرية السارد/الروائي والمسرود/النص، لاينبغي أن نحاسب الكاتب عما نملكه نحن من أفكار وتوقعات، فتلك أول الرقابة.

خارج السرد قد يكون لمقولة “الكاتب مرآة عصره”، وجاهةٌ ما، تدعونا للغوص فيما يحيط الكاتب من تمظهرات سؤال “العمالة”، “من يحدد من هو العميل ومن هو الوطني؟، حامل السلاح؟ صاحب الصوت الأعلى؟ من يزاود أكثر ولا يعمل حسابات الربح و الخسارة؟”، وفي موضع آخر: “أليس من حقي  أنا أيضًا أن أختار تعريفي الجديد للخيانة؟ كنت عندما أفكر بكلمة عميل يخطر ببالي ذلك النذل الذي يتسحّب في خباثة الليل أو بوقاحة النهار إلى مقرات المخابرات، ليبلغ عما التقطته أذناه من أسرار ومعلومات عن مكان اختباء ثوار أو موعد تسليم سلاح أو سجّل من خطاب لمناضل متحمس أو مخالفة دار يريد الانتقام منه. كنت أتصوره ذلك الخسيس الذي يصطحب ملاكي الأراضي إلى تل أبيب يسكرهم ويريهم ذديي عاهرة ويدفعهم للبصم على عقد بيع الأرض، أو يزوّر الأوراق ويوقع عليها دون أن يشعر بسوء. أو ذلك السياسي الخبيث الذي تأتيه الأوامر من أسياده ويتظاهر بالخوف على مستقبل الوطن والأمة. لكني لم أفكر يومًا، أبدًا، بأن من كان مثل أبي هو العميل” . هنا يأتي دور الشرطي “هاشم” الذي كشف ممارسات الاستعمار، وأن قاتل الشقيري إنما هو ضابط عربي إنجليزي؛ وهو ما يكسر تقابلية “إما أو أو” الثنائية، التي انبثقت منها “العمالة” و “الوطنية”، وهو الكسر الذي يعمد إليه الإستعمار ليخترق بنية “المقاومة” و”الثورة” ومفهوم “الوطن”.

ثمة حوارين متوازيين في السرد عن مسألة “العمالة”، والحواران يقاربان العمالة من زاويتين مختلفتين، ويطرحان أسئلة مشروعة عن “مفهوم العمالة” ،في الحوار الأول بين “ثريا” وأخاها، وفيه يصل الأخ إلى القول: “كان لازم توقفي جنب خطيبك حتى تتأكدي من الحقيقة. هاي كمان إسمها خيانة”، وعن “من هو العميل” في الحوار الثاني بين “فايز” و”منير”، وفي خاتمته يصل “فايز”: “أنا عميل، آه؟”. ثمة ما تم إسكاته في الحوارين تقصدًا لأنه مالك الحسم في السؤال:
أولًا : “الوطن”، وهو الوجه الثاني من سؤال “العمالة”، لو كان “فايز” وطنًا لـ”ثريا” لما خانته، تخليها عنه “خيانة”، وعلى شاكلة هذه المقاربة، لو مُسخ “الوطن” إلى مؤسسة أو دولة أو حزب بات من السهل إستصدار ختم بالعمالة لكل من لا يوافق المؤسسة، الدولة أو الحزب. ثانيًا: “الإنسان”: “ما أعرفه يا ثريا، هو أن هناك ثوار صادقون قدموا حياتهم وحريتهم وبيوتهم من أجل القضية، وهناك أناس ركبوا على موجة الثورة وسرقوا حياة وحرية وبيوت ناس آخرين من شعبهم، حملوا السلاح وبدل أن يقاتلوا المستعمر، أرهبوا الناس ليسيطروا وينتقموا ويسرقوا. كما أن هناك عملاء أنذالًا وجشعين باعوا بلدهم وأهلهم وأرضهم بثمن بخس أو باهظ. وهناك عملاء غرر بهم وكانوا جهلة وضعاف نفوس احتلهم الخوف. وهناك أشخاص كانوا من مصاف الثوار وقادتهم وحاربوا بشراسة، ثم باعوا القضية واشتغلوا لحساب الإنجليز والصهاينة”، قتل الإنسان لا يحرر وطنًا بل تحرير الإنسان من يحرر الأوطان، فبقدر ما زغردنا أمام جثث شهداءنا، وكم فرحنا أمام اعدامات عملائنا، سنبكي يومًا على من فقدناهم جميعًا.

مفهوم “الوطن” وقيمة “الإنسان” هما محددا فكرة “العمالة” و”الوطنية”، ولعل غياب “أبو فايز” باعتباره شخصية “بينّية” عاشت بين ثورة و استعمار كأغلبية الشعب تكدح لتوفير شروط المعيشة، دونما أن يفرض ذلك إنفصالًا عن المواجهة، فـ”أبو فايز” ساعد ثوارًا في السابق وأخفاهم عن أعين الإحتلال، “أبو فايز” ضياع الفلسطيني بين الأنساق والأُطر التي سرعان ما تلتهمه، فيتسامى بين “وطن” و”عمالة”؛ ويأتي تغييب أي مساءلة أو كشف لتاريخه،  ليقول للقاريء وللفلسطيني، ولـ”فايز” إذ يقول : “لو تركنا الإنجليز بحالنا، لما كان هناك من الأصل أي عملاء!”… كم أنت مخطيء!.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>