50 عاماً على رحيل بياف، ولم تزل “الحياة وردية”/ رشا حلوة

50 عاماً على رحيل بياف، ولم تزل “الحياة وردية”/ رشا حلوة

الأسطورة الفرنسية التي كانت على ثقة أنّ كلّ ما يقوله القلب الحرّ يعيش في حضن الأغاني، لم تخف يوماً أن تبوح بشيء ولم تندم على ذلك.. هي التي ختمت أغنيتها “نشيد الحبّ” بــ: “الرب سيجمع الأحبة معاً

piaf

| رشا حلوة |

في المقاطع الأخيرة من الفيلم La Vie En Rose (2007) للمخرج الأمريكي أوليفر داهان، حين قررت الديفا الفرنسية إديث بياف (قامت بدورها الممثلة

رشا حلوة

رشا حلوة

الفرنسية ماريون كوتيار) عدم الذهاب إلى حفلتها بسبب تعبها الجسدي أثر إدمانها على الكحول، يصل رجل إلى بيتها ويطلب لقاءها. ترفض بداية إلا أنّ إصراره على اللقاء وهو حامل بيده ورقة نوتات لأغنية جديدة جعلها تستقبله.

يدخل هذا الرجل الغريب، يجلس أمام بيانو “الديفا” ويبدأ بعزف لحن لم تسمعه من قبل لأغنية تحمل اسم “Non, Je ne regrette rien” ومعناها “لا، لا أندم على شيء”. هذه الأغنية التي غنّتها في نهايات عمرها، قبل أن ترحل عن عمر ناهز 47 عاماً، تعبر بكلماتها تماماً عن مشاعر إديث جيوفانا غاسيون (19 كانون الأول/ ديسمبر 1915) إزاء حياتها ومسيرتها.

أما للغناء، فكانت لها مقولتها الشهيرة chanter c’est ma vie، أي “الغناء هو حياتي”، والتي فيها افتُتح موقع إلكتروني بالفرنسية إحياءً للذكرى الخمسين لرحيل الأسطورة الفرنسية إديث بياف في هذا العام، حيث رحلت عن هذا العالم في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1963 في بيتها بمدينة كراس. احتوى الموقع الإلكتروني أربعة أقسام: الصوت، الرجال، الأماكن والإرث، بالإضافة إلى مقاطع غنائية وصوتية لها.

وُلدت بياف في حيّ بيلفيل الفرنسي، وعاشت منذ طفولتها في ظروف صعبة وقاسية، حيث وُلدت لأم هجرتها وهي صغيرة ومن ثم انتقلت للعيش مع والدها، الذي هجرها بطريقة أخرى؛ حيث وضعها لسنوات عديدة مع والدته (أي جدّتها من أبيها) والتي كانت تملك بيت دعارة، فتربّت فترة طويلة هناك. فترة تحدثت بياف فيما بعد عن أهميتها بالنسبة لها وحميميتها في ظلّ غياب العائلة البيولوجية وحنان الوالدين. بعد سنوات، عاد والدها ليأخذها معه من مكان بدأت بالاعتياد عليه، كي ترافقه بجولاته مع مجموعة السيرك التي كان يعمل معها. وفي عام 1930، تركت والدها وذهبت للعيش مع رفيقة دربها وصديقتها سيمون برتو التي كانت تسميها “مومون”. بدأت مسيرة غنائها في شوارع وأحياء باريس، إلى أن اكتشفها صدفة شخص مسؤول عن  “كاباريه جيرني” في باريس، اسمه  لويس لوبلي، فأطلق عليها اسم “الموم بياف“. ومن هناك بدأت تُعرف وتتطور موهبة بياف، لكن سرعان ما يتأثر هذا التطور سلباً بعد مقتل “لوبلي” وتوقيفها كمشتبهة بمقتله ضمن المقربين منه.

عاشت تفاصيل حياة إديث بياف الصعبة في أغانيها، سواءً تلك التي اختارت كلماتها أو التي كتبتها، بحيث يصل عدد الأغاني التي كتبت بياف كلماتها نحو ثمانين أغنية، منها وأكثرها شهرة على مستوى كافة أغانيها هي La vie en rose  (لا في آن روز، أي الحياة الوردية) وأغنية L’hymne à l’amour (ليم آ لامور، أي نشيد الحبّ). والأغنية الأخيرة كانت قد كتبتها لمن أطلقت عليه “حبّ حياتها”، الملاكم مارسيل سيردان، الذي توفى في حادث تحطم طائرة عام 1949 بينما كان مسافراً باتجاه نيويورك للقائها. وبرغم أنّ الأغنية هي نشيد للحبّ، إلا أن كلماتها كانت ترتجف خوفاً من فقدان ما. بعد انتهاء بياف من كتابتها قدمتها إلى مغنية فرنسية إسمها ايفيت جيروا، وقبل أن تسجلها الأخيرة وبعد رحيل مارسيل سيردان، قررت بياف أن تتراجع عن إهداء النشيد وتقوم هي بتسجيله في في أيار/مايو 1950.

لم تغب إديث بياف عن فرنسا والعالم حتى بعد مرور 50 عاماً على رحيلها. لم تغب عن نصوص الباحثين والمذاييع الفرنسية وغيرها ولا من إرث العالم الموسيقي. ما زالت تعيش في تفاصيل الحياة الصغيرة من حبّ ورومانسية برغم صوتها الحزين، وما زالت تثير هذه التفاصيل الكثيرين ممن يهتمون بمسيرتها وحياتها. هذا الحزن الذي عششت عليه بشاعة ظروف حياة بياف. هي التي عاشت بلا والدين تماماً، وفقدت ابنتها مارسيل حين كان عمرها عامين، وبعد سنوات فقدت حبيبها الوحيد –حسبما تعتبره- والذي يحمل اسم مارسيل أيضاً. غنّت في الشوارع والبارات والكاباريهات والمسارح الفخمة، لكنها لم تغلق الباب في وجه أيّ أحد كتب أو لحن لها أغنية وإن كانت محاولاته الأولى. وكلّ هذا يعيش ويظهر في أغانيها الخالدة.

مؤخراً، صدر كتاب يحمل اسم “بياف: آن ميت فرانسي” (بياف، الأسطورة الفرنسية) للمؤلف روبير بيلوري عن “دار فايار”. يسرد الكاتب سيرة حياة بياف، مع التطرق إلى تفاصيل عُرفت للناس ولكن حسب تعبيره لم تكن صحيحة. منها على سبيل المثال أن بياف وُلدت في الشارع لكن تبيّن أنها وُلدت في مستشفى مجاور لحيّ بيلفيل الفرنسي. بالإضافة إلى أنها لم تكن مصابة بالعمى على مدى أربع سنوات في طفولتها، ومن ثم شُفيت بلمسة قديسة كما ذُكر، بل أنها عانت لأسابيع قليلة مشاكلَ في النظر بسبب الظروف القاسية التي عاشت فيها كطفلة، حسبما روى بيلوري في كتابه الأخير.

إديث بياف وصديقتها سيمون "مومون"

إديث بياف وصديقتها سيمون “مومون”

لربما قصص كثيرة عرفها جمهور بياف عنها لم تكن صحيحة تماماً، كما القصة التي بدأتُ بها هذا المقال، التي عرفتها وعرفها الكثيرين من خلال الفيلم الذي يروي سيرة إديث بياف الذاتية. لكن، كلّ هذه الأمور تبقى تفاصيل في مسيرة لا يختلف اثنان على أنها كانت صعبة وقاسية ومأساوية ظهرت في الأغاني والموسيقى والصوت ولكن لم تؤثر على روح بياف المرحة والمحبة للحياة وحسها للفكاهة، إلى أن زارها الموت وهي لم تبلغ الخمسين بعد، بسبب تشمع في الكبد، ودُفنت في مقبرة “بير لاشيز” في باريس.

في ذكرى رحيلها الخمسين، يوم العاشر من تشرين الأول/أكتوبر 2013، زارتها مجموعة من 200 شخص، كان من بينها مارسيل سيردان جونيور، ابن الملاكم مارسيل سيردان، الحبّ الأكبر في حياة إديث بياف.. الأسطورة الفرنسية التي كانت على ثقة أنّ في حضن الأغاني يعيش كلّ ما يقوله القلب الحرّ، لم تخف يوماً أن تبوح بشيء ولم تندم على ذلك.. هي التي ختمت أغنيتها “نشيد الحبّ” بــ: Dieu réunit ceux qui s’aiment، “الرب سيجمع الأحبة معاً”.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. ظاهرة لن تتكرر,هل الكتاب مترجم الى العربية !

  2. رائع .. شكرا رشا 

  3. “نشيد الحب” للأسطورة إديث بياف هو من أجمل ما كُتب في تاريخ الموسيقى. شكراً على المقال!

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>