بين من قالوا نعم ومن قالوا “آه!”/ عزت القمحاوي

بين من قالوا نعم ومن قالوا “آه!”/ عزت القمحاوي

أصل الموافقة بـ ‘آه’ لا يكمن بالانحياز لأداء السلطة الانتقالية، بل يقبع في عمق الزمان، حيث يترك التاريخ محدداته في لا وعي الشعوب

dostoor

>

|عزت القمحاوي|

عزت القمحاوي

عزت القمحاوي

تعلن لجنة الإنتخابات المصرية مساء اليوم ‘السبت’ النتيجة النهائية للإستفتاء على الدستور، لكن النتائج قبل النهائية أسفرت عن نسبة مشاركة قدرها أربــــــعون بالمــــئة ممن يحق لهم التصويت، وافق منهم نحو خمسة وتسعين بالمئة على الوثيقة.

نسبة المشاركة معقولة، ليست بالمتدنية ولا بالخارقة، لكن نسبة الموافقة المذهلة أصابت الفسطاطين المتحاربين بالذهول، لأنها وضعتهما تحت سكرة النصر وحسرة الهزيمة.

الجماعة العائدة احتفلت بالعودة المظفرة، والجماعة المخلوعة أقامت المزيد من المآتم، وانطلقت المكالمات التليفزيونية ‘التوك شو’ تستخدم هذه النتيجة للتدليل على وجهات نظر ثابتة في الرؤوس وليس لقراءة الواقع بتعقل.

الإخوان ومناصروهم يرون في غياب الـ ‘لا’ عودة لإرهاب الدولة الأمنية وإلحاح إعلامها، الذي جعل من المصوت بالرفض للدستور مجرمًا. وعلى العكس تمامًا، يرى أنصار الدولة الأمنية أن غياب الـ ‘لا’ هو غياب للإرهاب المناهض لخارطة الطريق والتفاف الشعب حول شخص وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي، ولم يعد أمام الرجل إلا أن يفرح بهذه البشارة ويطمئن إلى التفاف الشعب حوله ويعلن ترشحه للرئاسة.

لم يتوقف التحليل عند فرز السلمي من الإرهابي والوطني من الخائن، بل امتد لفرز الأجيال، واتخذ المتبارون الليليون الطوابير وسيلة لدعم حججهم؛ يعرض أحدهم طابورًا ليدلل على أن المصوتين ينتمون إلى الفئات العمرية الأعلى، وهي فئات مرتجفة تميل إلى الخنوع ولا تنتمي لتيار الثورة، ويرد الآخر بطابور يصطف فيه الشباب ليرد على المشككين!

إعلان النتيجة هذا المساء سيقدم تفاصيل أخرى، مثل نسب التصويت والموافقة في كل محافظة ومدينة على حدة؛ فيمد في عمر السفسطة التليفزيونية ليال أخرى، دون أن يحاول المتنابذون قراءة نسبة من قالوا ‘نعم’ بانشراح ومن قالوا ‘آه’ التي تعني الموافقة في العامية المصرية بقدر ما تعني تنهيدة الألم في كل اللغات.

الموافقة بـ ‘آه’ هي التي تفسر حالة الإجماع، وكان من الممكن أن تزيد نسبة الآه فترفع من حجم المشاركة وحجم الموافقة، لو لم يستفز إلحاح الإعلام قطاعًا كبيرًا من شباب الثورة ويدفعه للمقاطعة، أي أن ما فعله الإلحاح الدعائي هو الذي خفض نسبتي التصويت والموافقة وليس العكس كما يتوهم أنصار الجماعتين الغاربتين.

على أن وقت التأمل لم يفت بعد. ولو أعطت جماعة الإخوان نفسها فسحة من الوقت لتصور معنى ‘الآه’ لغيرت من استراتيجيتها الحركية والفكرية، ولو عرفت جماعة مبارك معناها لاستحت قليلاً وقللت من غرورها.

أصل الموافقة بـ ‘آه’ لا يكمن في الإنحياز لأداء السلطة الإنتقالية بعد 30 يونيو، ولا سببه ذكرى أداء الإخوان خلال سنة فحسب، بل يقبع هناك في عمق الزمان، حيث يتبدل التاريخ ويترك محدداته الأساسية في لا وعي الشعوب.

ومصر التي قد يفر منها الشباب بحثًا عن عمل فيموتون في عرض البحر، لم تزل الفردوس بالنسبة لأهلها، يتمسك به من يقدر على البقاء ويعود إليه من يفر في أقرب فرصة عودة سانحة. وبهذه العقيدة التاريخية يتصرف المصريون عندما يتهدد الخطر وجود الدولة، حتى لو كانت دولة ظالمة، فيختارون الدولة الظالمة على أمل إصلاحها في المحاولة التالية، لكنهم لا ينحازون أبدًا لتبددها أو ضياعها أو حتى ذوبانها في كيان أوسع.

لم يخص المصريون فكرة الأممية الإسلامية بالتشكك، فالفكرة القومية لم تجد في الصفوة المصرية الإيمان الذي وجدته في العراق والشام، والنذر الذي وجدته كان مشروطًا بوجود عبد الناصر؛ أي بمنظومة عربية تقودها مصر، لا تقف في ذيلها.

كيان مصر دين بحد ذاته، من يتوافق معه يكون مقبولاً إلى أن يثبت العكس، لهذا فإن جملة واحدة قالها السيسي كان لها مفعول السحر: ‘مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا’. هذه العبارة التي قد تعتبرها الصفوة المثقفة لغوًا ابتلعت كل الحيّات. وهي التي ضمنت التصويت بنعم والتصويت بآه على الدستور.

وربما يكون من الخير كذلك أن يتأمل الفرحون بالنصر والممرورون من الهزيمة ما يتبقى في ضمير التاريخ من علاقة المصري بالفرعون.

لم تعرف مصر الفرعونية العبودية كما عرفتها اليونان، لأن الإيمان المبكر بإله أسقط الحاجة إلى استرقاق البشر بعض البشر لبعضهم. الكل يعمل لخدمة الإله المتجسد في الفرعون، والذين رفعوا أحجار الهرم لم يكونوا عبيدًا، بل أحراراً يخلدون الفرعون ـ صلتهم مع الله ـ فيضمن كل منهم خلوده الشخصي من خلال خلود الفرعون.

وكان المصريون على وعي بالفرق بين البشري والإلهي في شخص الفرعون، لذلك كانوا يتفانون في العمل لرفع قواعد المعبد أو المقبرة نهارًا بالتبتل الواجب، بينما يسلون أنفسهم في الليل بالسخرية من الفرعون الإنسان، في رسوم خلدتها جدران غرفهم.

المسافة بين تبجيل النهار وسخرية الليل تؤكد أن العلاقة بين الفرعون والعامل علاقة تعاقد لا امتلاك. وبصدى هذا ‘العقد الإلهي’ المبكر تظل العلاقة التعاقدية واجبة وبحكم الزمن يجب أن يتحول العقد الإلهي إلى عقد اجتماعي. وللأسف فإن هذه الحقيقة هي الأصعب على أفهام الفرحين والممرورين على السواء.

(عن “القدس العربي”)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>