“سقوط القمر”: إرحموا درويش من الحب المفرط!/ فايد بدارنة

“سقوط القمر”: إرحموا درويش من الحب المفرط!/ فايد بدارنة

لا أعلم المساحة الزمنية، الذهنية ولا الفنية التي خصصها مارسيل خليفة لألبوم “سقوط القمر”، لكن النتيجة كانت، برأيي، مخيبة للآمال

 fallofthemoon

|فايد بدارنة|

في حياته وفي مماته شكلت قصائد محمود درويش نبعاً متدفقاً للكثير من الملحنين والموسيقيين العرب. كان مارسيل خليفة أحد هؤلاء الذين قدموا العديد من قصائد درويش مغناة للملايين من الناس. خليفة ودرويش شكلا “ثنائيا” إبداعيا فنياً متميزاً في المشهد الثقافي العربي. وإن كانت بداية المشوار مجهولة المعالم بين موسيقي شاب مبتدئ وبين شاعر كبير… إلا أنها سرعان ما تحولت قصائد درويش لعلامة هامة في هوية أعمال خليفة. لحن مارسيل وغنّى الكثير من قصائد درويش.. وتلازما في أذهان عشاقهما العرب، من قصيدة “أمي” و”ريتا والبندقية” و”وعود من العاصفه” و”الكمنجات” و”تصبحون على وطن” و”جواز السفر” و”أنا يوسف يا أبي”.

بعد وفاة محمود درويش شهدت الساحه الفنية وتيرة متسارعة من الانتاج الموسيقي لتخليد أعمال درويش وحالة من الحراك العاطفي الثقافي للتعبير عن العشق لحالة محمود درويش المتميزة. أنتج الحراك الموسيقي أعمالا مختلفة نذكر منها: سميح شقير ( قيثاراتان)، أنور براهام (بروة) ومارسيل خليفة (سقوط القمر). ونظراً للعلاقة الخاصة والمؤثرة التي نشأت بين محمود درويش ومارسيل خليفة “استفزني” عمل مارسيل بشكل خاص.

يحتل مارسيل خليفة مكانة مميزة في الإنتاج الفني الملتزم، ولسنوات طوال كان مارسيل وفرقته “الميادين” عنصرا مقاتلاً ومحرضاً في المشاهد الثورية، الوطنية واليسارية في العالم العربي وبشكل خاص في المشهد اللبناني والفلسطيني. هذه المكانة منحت مارسيل نوعاً من القداسة والحصانة، جنبته النقد الموسيقي. مع “سقوط القمر” يزعزع مارسيل هذه الحصانة، وإن كنت قد لمحت معالمها في بعض أعماله الاخيرة. لا أعلم المساحة الزمنية، الذهنية ولا الفنية التي خصصها مارسيل لألبوم “سقوط القمر”، لكن النتيجة كانت، برأيي، مخيبة للآمال. جاء العمل مفتقراً للثبات البنيوي، خلطا من القصائد المبعثرة، تنقلك من مقطوعة إلى أخرى ومن أغنية إلى أخرى بلا روابط، بلا جسور ولا حلقات وصل. في معظم الأغاني تضيع معالم الألحان ومعها تضيع القصائد. من الواضح أن الحاجة الملحة لتخصيص مارسيل بعمل خاص جاء متسرعا، عشوائيا وظالما لدرويش نفسه حتى باختيار القصائد، إنتاجا وليد اللحظة، لم يأت مستوعبا ولا متعمقا لحالة غياب درويش. في أعمال سابقة امتلكت الحس الأدبي والفني التلقائي للتجانس الأكثر تميزا بين اللحن وشاعره، من “أمي” مرورا بـ “أحمد الزعتر” وصولا ألى “أنا يوسف يا أبي”. أما في أسطوانة “سقوط القمر” إذ بخليفة يدفع ثماني عشرة قصيدة لتزاحم غير منصف على أذن المستمع تمتاز بقساوة اختيار غير مبررة وغير مألوفة لخليفة نفسه. وقد يوافقني الكثير من الموسيقيين أن وضع ألحان جيدة لمثل هكذا عمل قد يستغرق بضع سنوات. ويعذرني خليفة أن أنعت انتاجه هذا ابتداء من “تذكر نفسك” وصولا لـ “محمد” بالانتاج الركيك والمجحف بحق درويش وبحق مارسيل نفسه، إنتاج يضيع فية الشاعر والملحن. وقد لا يحتاج المستمع لمجهود خاص لاستيعاب نقدي هذا (في حال استمع للإسطوانة، وادعوا للاستماع اليها) اذا ما قارن مع أعمال مارسيل السابقة التي اقحمت بنفس الاسطوانة مثل “أجمل حب” و”سقوط القمر”. وأضيف هنا أن الانتاج خلق خلطاً غير مفهوم بين المقطوعة الموسيقية “سقوط القمر” وبين أغنية “في البال أغنية” التي هي نفسها تحمل عنوان سقوط القمر في ديوان محمود درويش “العصافير تموت في الجليل” الصادر في العام 1969.

 في الاغنية الاولى “تذكر نفسك” يطمئنك مارسيل بأن العمل يسير بخطاه، وتشكل الأغنية نوعا من الحفاظ على أسلوبه الذي عهدناه في السنوات الأخيرة. تنتقل للأغنية التالية متأملا صعودا ملفتا، دمجا جديدا، قديما دافئا، إلا أن “آه يا جرحي المكابر” لا تكابر، بل تعكس هبوطا متسارعا في الغناء واللحن والأداء العام. ولا أجازف إن قارنت مع أداء أكثر موفقا للفنانة أمل مرقص لنفس القصيدة من ديوان محمود درويش “يوميات جرح فلسطيني”:

أغنية “آه يا جرحي المكابر” من أسطوانة ” سقوط القمر ” لمارسيل خليفة:

وفي أغنية “الآن في المنفى”، نستمع إلى مقدمة موسيقية واعدة بخلق حميمية موسيقية ما بين اللحن والكلمة والصوت إلا ان هذا الأحساس سرعان ما يتبدد. حوار العود والكونتراباص الذي أحببناه في بعض حفلاته الأخيرة يثقل عليه مارسيل بغناء مبتذل، منهك، يكرر قديمه بلا إقناع. في “اجمل حب”، يزج مارسيل أغنية سبق وأن أدرجت في أحد إنتاجاته. ويثير تساؤلا حول الحاجة لهذا التجميع لإغان سبق تلحينها، توزيعها وتسويقها. في المقطوعة الموسيقية الخامسة يقدم مارسيل لحنا موسيقيا بلا ملامح، بلا هوية، بلا بداية وبلا نهاية، بعد سماعها لعدة مرات لم أتردد بوصفها حتى بالبائسة:

في “تعاليم حورية”، التي تبدو واعدة ببدايتها، يؤكد مارسيل على محدودية هوية العمل في  صوتين غير منسجمين، غير متكافئين ضمن السياق العام للأغنية. الالحان متمثلة بأداء الالات من إيقاعات، عود، وآلات نفخ والأصوات لا تفي القصيدة ما تستحق ومفتعلة إلى حد ما فوضى موسيقية ملائمة لبعض الهواة. فتلمح صعودا وهبوطا في مستوى الأداء. ولا يمكنك أن تقاوم إجراء المقارنة ما بين انسجامك العاطفي والموسيقي الممتد على سنين طويلة، منذ طفولتك حتى اليوم مع قصيدة “أمي” التي ارتبطت أشد ارتباط مع مارسيل خليفة وما بين هذه الأغنية التي لا تترك، برأيي، أثرا موسيقيا ولا عاطفيا .

أما “رقص الفالس لشتاء ريتا” تبدو مختلفة قليلا، بداية واثقة في بدايتها لكنها سرعان ما تتحول لمقطوعة مرتبكة، غير واضحة المعالم يحاور فيها العود الفالس، لا شرق فيها ولا غرب، وحالة رمادية، إلى أن يعود العود مجددا ليذكرنا بعمل ريتا “التاريخي”:

 

أما مقطوعة “سرير الغريبة”، وهي أحد أعمال الدرويش الرائعة، تحظى بلحن بلا وطن وبلا منفى. مقطوعة كانت تحتاج، باعتقادي، لبعض المجازفات والخصوبة، إلا أنها أبت إلا أن تكون بوتيرة ثابتة، وقد كان بإمكانها، أن تستوعب مداعبات موسيقية أكثر نضوجا.

في ” عينان” يعود خليفة للانضباط والاصطفاف مع الفنان خليفة، وإن لم يجدد موسيقيا، إلا أنه يحافظ على أسلوبه بقديمه وحديثه. في أغنية “في دمشق” يكرر ويجدد ويستحضر فيروز والرحابنة بلحن أندلسي وطربي أصيل. اما في قصيدة “الأرض” فقد اخفق مارسيل في التعبير الموسيقي عن عاشق التراب محمود درويش ورغم محاولاته في استنهاض الهمم فاللحن والأداء منهكان عاجزان عن استنهاض ما هو جديد:

أحاول أن أثني المديح على هذا الانتاج الموسيقي إلا أن “قيثاراتان” لا تمكنني الخروج من دائرة “النبش” في هذا العمل الموسيقي. في قيثاراتان مبالغة في سطحية القراءة للقصيدة الدرويشية وترجمها مارسيل حرفيا لمعزوفة جيتارات ممتلئة بالركاكة من حيث اللحن واللغة الموسيقية:

ولا يختلف الأمر في “نحن نحب الحياة”: يعد العود والإيقاعات لأغنية رائعة من أشهر قصائد درويش على المستوى الجماهيري وفعلا يحاول مارسيل إعدادها جماهيريا.. إلا انه يطل مرة تلو المرة بغناء محدود، بلحن مألوف وصوت محاصر.

اما الاطراء فهو من حصة “مواويل الهوى”، لتقديمها ثبات اللحن والكلمة في تناغم وعناق وثورية ألفناها في أعمال خليفة:

)

ينهي خليفة أسطوانته بأغنية “محمد”. لقد كانت هذه القصيدة وليدة لحظة استشهاد محمد الدرة عند محمود درويش وكما ولدت سريعا ولم تعمر بذهن عشاق درويش فهكذا ولد اللحن سريعا، سرديا وضعيفا عند مارسيل ولم ينجح صوت أميمة الخليل في إسعاف القصيدة، كما لم ينجح صوتها بذلك خلال مجمل العمل.

على مرّ تاريخه وإنتاجه الموسيقي نادرا ما لجأ مارسيل خليفة لإنتاج اعمال موسيقية تخلد ذكرى شخصيات هامة، إلا أنه حين فعل ذلك منذ زمن بعيد استطاع أن يعبر فنيا وبشكل رائع عن تقديره لدور تلك الشخصيات، ونستطيع أن نشير إلى بعض الأعمال الهامة مثل: “شدوا الهمة” التي أهداها إلى روح النقابي اللبناني الشهيد معروف سعد، وأغنية “نفلفش جريدة” و”جبل الباروك” في رثاء القائد العربي البارز الشهيد كمال جنبلاط. إلا أنه في “سقوط القمر ” لم ينجح موسيقيا بالتعبير عن عشقه لمحمود درويش، وربما كان الأجدر أو الأنسب بمارسيل أن يعبر عن حبه لدرويش من خلال عمل موسيقي من خارج نصوص درويش، يأخد مساحة زمنية فكرية لاستيعاب غياب درويش من خلال عمل موسيقي مبدع ومتميز يليق بهذين العاشقين.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. ما تسميه “مواويل الهوى” هو أيضا “تلزيق” لكلمات القصيدة على لحن سابق لمارسيل، هو أغنية “إنهض يا ثائر” من كلمات أدونيس.هذا الألبوم يفضح، لا مارسيل وحده، بل يفضح أيضا الارتزاق الموسيقي الذي مارسه مارسيل وزملاؤه (لنذكر ترهات الهبر، ووليم نصار) في السابق. وإن كان لهذا الارتزاق ما يبرره في أزمنة وظروف أخرى، فقد سقطت المبررات.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>