التاريخ الصيني في ملحمة سينمائية/ وائل قبيسي

التاريخ الصيني في ملحمة سينمائية/ وائل قبيسي

تتوالى أحداث الفيلم على خلفية الاضطرابات التاريخية التي شهدتها البلاد في تلك الحقبة حيث تتأثر حياة البطلين جراء الغزو الياباني للصين في الثلاثينيات وانتصار الشيوعيين عام 1949 واندلاع الثورة الثقافية في الصين عام 1966

FAREWELL MY CONCUBINE, Leslie Cheung, 1993.

| بيروت – وائل قبيسي |

أثار كتاب “نصف الرجل امرأة” للصيني زانغ كزيليانغ فضولي عند قراءته للغوص في تاريخ السياسية في الصين، لكن عندما قررتُ الاطلاع على السينما الصينية (كنت قد شاهدت سابقاً رائعة In the mood for love) دخلتها من الباب العريض عبر مشاهدة فيلم Farewell My Concubine (1993 – إخراج شان كايغ). يتناول الفيلم أهمّ حقبة في تاريخ الصين إذ تمتدّ أحداثه على طول نصف قرن من التاريخ الصيني عبر قصّة الصبيّين شيتو وداوزي اللذين التقيا في صغرهما في مدرسة للتدريب على فن الأوبرا ويرصد تطور العلاقة بينهما بعد أن أصبحا من أشهر نجوم الأوبرا في الصين.

تأخذ العلاقة بينهما مجرى مغايراً عن زمالة المسرح حيث بقيا يؤديان دور الملك وخليلته في الأوبرا الشهيرة وداعاً يا خليلتي منذ صغرهما وعلى مدى سنوات طويلة لتتعقد العلاقة بينهما بعد ظهور جوشيان، فتاة بيت العاهرات التي يحبها داوزي ويقرر الزواج بها ما يثير غيرة شيتو.

تتوالى أحداث الفيلم على خلفية الاضطرابات التاريخية التي شهدتها البلاد في تلك الحقبة حيث تتأثر حياة البطلين جراء الغزو الياباني للصين في الثلاثينيات وانتصار الشيوعيين عام 1949 واندلاع الثورة الثقافية في الصين عام 1966 التي جعلت صلة الصين تنقطع بالعالم الخارجي حيث بدأت حملة تطهير داخلية كبرى لحماية ما سُمي بقيم الثورة الشيوعية التي دنسها التأثير الغربي على المواطن الصيني.

كان لتلك الثورة تأثير كبير في الثقافة الصينية حيث بدأت عملية محو هوية متعددة الأعراق والأصول والثقافات لتحل محلها ثقافة واحدة، وصوت واحد، ولون واحد. الثورة التي أطلق شرارتها ماو تسي تونغ للتخلص من العناصر البرجوازية التي تسربت إلى صفوف الحزب.

انطلقت حملات للتنكيل بكل رموز العهد الإمبراطوري السابق وكل مظاهره الثقافية، فاختفت الأزياء الزاهية رمز الطبقية البرجوازية، وأحرقت كنوز من التراث الثقافي المرئي والمسموع والمكتوب، ولوحق المواطنون في منازلهم وحقولهم وطرقاتهم للتأكد من ولائهم المطلق للثورة وقائدها.

كان أكثر من تأثر بتلك الثورة هم الفنانون الذين كبح جماحهم وصودرت حرية الرأي والإبداع وكانت الأوبرا الضحية الأكبر حيث اعتمدت أوبرا بكين العريقة في عروضها على حكايات وأساطير العهد الإمبراطوري المتوارثة منذ مئات السنوات والتي بدورها تحكي بطولات وصولات الملوك والأباطرة، وتجسدهم بملابسهم الزاهية ورقصاتهم البديعة. تم منع كل ذلك منعاً باتاً وحل محله أوبرات حديثة تتحدث عن الكفاح والنضال الثوري، وبدلاً من تجسيد شخصيات الأباطرة والملوك وخدمهم ورجال البلاط، أصبح الثوار وقوى الشعب العامل برداء المصانع والجيوش هم أبطال الأوبرا الحديثة في بكين.

يبدو تأثير تلك الثورة جلياً في الفيلم حيث نشاهد خليطاً من الحبّ والخيانة والغيرة والتضحية والفنّ وتوازياً مبهراً بين أحداث قصّة الأوبرا وحياة الرجلَين لينتهي الفيلم بمشهد ملحمي يختتم ساعتَين و40 دقيقة من الأحداث المتسارعة ومن التمازج بين الفنّ والحياة عبر عمل صوّت له 25 ألف سينمائي صيني ليحتل المرتبة الأولى ويعتبر أهمّ فيلم صيني لفي القرن العشرين.

الفيلم من بطولة ليسلي شينغ وهو أحد أيقونات الموسيقى والتمثيل ليس في الصين وحدها بل في معظم أنحاء القارة الآسيوية، وكما كانت نهاية الشخصية التي يجسّدها شينغ في الفيلم ملحمية، كذلك أنهى الرجل حياته بطريقة ملحمية عام 2003 بعد 10 سنوات من الفيلم عبر القفز من الطابق الرابع والعشرين لأحد الفنادق بعد معاناة مع الاكتئاب، ليشكّل رحيله صدمة للملايين في القارة الآسيوية بعد حياة حافلة فاز فيها بأهم الجوائز العالمية في الغناء والتمثيل.

جميع عناصر الفيلم مجتمعة تجعل منه تحفة فنية لا مثيل لها، من الإخراج الذي أبرز حياة الأوبرا وتأثيرها في المجتمع الصيني في تلك الحقبة إلى التصوير السينمائي والأزياء التقليدية الملونة والماكياج، إضافة إلى الأداء الرائع للأبطال الثلاثة اللذين ارتكز عليهم الفيلم والسياق التاريخي الذي يشكّل أهمّ مرحلة في التاريخ الصيني.

وكما مثل أداء الممثلين عنصر تميّز للفيلم، فقد أضاف التصوير السينمائي والإخراج ثقلاً للقصة، فالمخرج شان كايغ تميّز بعشرات الأعمال إخراجاً وكتابة وتمثيلاً، إلا أنّ هذا الفيلم يبقى الأهم في مسيرته ومن أبرز أفلام القرن الماضي في السينما الصينية والآسيوية والعالمية وقد فاز عنه بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1993

 

الفيلم: وداعاً يا خليلتي Farewell my concubine

إنتاج: الصين 1993

إخراج: شان كايغ

كتابة: ليليان لي (مقتبس عن كتاب لها بالعنوان نفسه)

تمثيل: ليسلي شينغ – زانغ فينجي – غونغ لي

المدة: 171 دقيقة

 

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>