أقارب/ فرحات فرحات

  . |فرحات فرحات| بعد أن وصلنا إلى نقطة قريبة من جسر بن […]

أقارب/ فرحات فرحات

 

الجولان السوري المحتل

.

|فرحات فرحات|

بعد أن وصلنا إلى نقطة قريبة من جسر بنات يعقوب، أوقفتنا نقطة تفتيش عسكرية وانتظرنا لمدة ساعات حتى حصلنا على إذن بمتابعة المشوار. قطعت سيارتا “الدوزوتو” الجسر المعلق فوق النهر تاركتيْن وراءهما أصوات طقطقة واهتزازاً أثارا فزعي. كنا في طريقنا، أبي وأولاد عمومته وبعض الشباب، إلى قرية بقعاثا في زيارة أولى للأقارب في هضبة الجولان، بعد حرب حزيران 1967. بدا على السيارتين التعب والإعياء، وهما تقطعان الطريق الملتوية العالية والمليئة بالحفر بفعل الحرب وجنازير الدبابات. كان الشارع محاطًا بأشجار الكينيا وعلى جانبيه أسلاك شائكة بفعل الألغام المزروعة على جانبي الطريق. سيارتا “الدوزوتو” كانتا محمّلتين بأكياس الأرز والطحين بالإضافة إلى الخضرَوات والمعلبات وأصناف أخرى من الطعام. لم يمضِ شهر على انتهاء الحرب وما زالت آثارها ومخلفاتها بارزة للعيان في كلّ مكان. ويظهر من المحتويات التي ما زالت على الطرقات، أنّ الناس تركوا بيوتهم على عجل وقد حملوا ما استطاعوا ووقع على الأرض ما وقع، من دون أن يكلفوا نفسهم عناء حملها من جديد. رأيت وسائد، مقاعد خشبية وقشًا، بالإضافة إلى أدوات المطبخ أو أدوات عمل كالشواكيش والمقصات وغيرها. فكرت مليا ً في هذا المنظر الذي يدعو إلى الإحباط والحيرة ويجسّد هول الحروب وفظاعتها. كيف استطاعت إسرائيل أن تخترق هذه الهضبة العالية بأيام قليلة؟ كيف؟ أنظر إلى الأطراف فلا أرى إلا مخيمات الجيش بلونها البنيّ المائل إلى الرماديّ وكأنها بيوت تسكنها أشباح. ويشطح خيالي بعيدًا فأرى الضباط والجنود السوريين وهم جالسون في تلك الغرف الكئيبة من دون كهرباء أو ماء، منقطعين عن أهلهم وذويهم في مهمة تراءت أمامي في تلك الأثناء بأنها مهمة مستحيلة.

هذه الرؤية تجذرت في جوارير ذاكرتي لغاية الآن، وكلما مررتُ من هناك، قفزت أمام ناظري لتذكرني بفظاعة ذلك المشهد. لون الأرض والبيوت قادني إلى مسحة من الكآبة والعزلة عن المحيطين بي وبدأت أفكر في تعاسة النظم العربية والفرق الشاسع بين لغة الخطاب والممارسة. كنت يومها ما زلت فتى يانعًا في الصف التاسع، غير أنني -خلافًا لكثيرين من أبناء جيلي- كنت مهتمًا بالشّعر والسياسة والسينما وخطابات عبد الناصر. لا أظنّ أنه فاتني خطاب واحد من خطاباته، فقد عشقت صوته وحفظت فقرات عديدة من أقواله، خاصة ذاك الخطاب الذي أعلن فيه استقالته بعد حرب حزيران. مرّت عليّ سنون طويلة حتى استفقت من حلم جمال عبد الناصر، من هذه الرومانسية الزائفة والأمل المكسور.

بعد استراحة قليلة، ارتاحت فيها السيارة من عناء الحمل والمشهد الحزين، تابعنا السير حتى وصلنا مشارف مدينة القنيطرة. في هذه المدينة، تجسّد لي معنى الهزيمة. مدينة أشباح مدمرة، تركها سكانها عن بكرة أبيهم مخلفين وراءهم نفس المشهد الذي رأيناه سابقا على الطريق إليها. هنا مقرّ المحافظة وهنا سينما الأندلس وهنا صالون حلاقة وأستوديو للتصوير. لماذا يهرب الناس؟ أليست لهم جذور في هذا المكان؟ لمن تركوها ولماذا؟ أهو الخوف من الغازي، من المجهول أو الخوف من أنفسهم وضعفهم أمام أسطورة كاذبة؟

بعد ثمانية كيلومترات وصلنا إلى مشارف قرية بقعاثا. عند المدخل الرئيسي تواجدت “كازيّة” قديمة لم أرَ مثلها في حياتي. استهجنتُ الأمر أكثر بعد أن علمت أنه لا يوجد في كل الهضبة سوى سيارتين أو بالأحرى، تراكتور وشاحنة روسية الصنع قديمة جدًا كالتي كنا نراها في أفلام الحرب العالمية الثانية. الشارع المؤدّي إلى القرية ضيق جدًا، ترابيّ، وسيارة الدوزوتو اخترقته بصعوبة إلى أن وصلنا إلى مركز القرية حيث يسكن عميد آل فرحات الشيخ “أبو غالب محمد فرحات”. الساحة أمام البيت مترامية الأطراف وفي وسطها عامود منحوت أملس ومكوّر تنبعث منه رائحة التاريخ وعبق الماضي. لا أدري إن كان أقاربنا على علم مسبق بزيارتنا وما أن حطت بنا السيارات ونزلنا حتى هبّ الشيوخ بعمائمهم البيضاء وشراويلهم الكحلية لاستقبالنا بوابل من القبل والاحتضان.

من هم هؤلاء الناس؟ كيف أصبح لي أقارب في الهضبة السورية، وأنا لم أسمع عنهم من قبل؟ لماذا لم يخبرني أحد بهذه الحقيقة؟ هل نسي جدي وأبي أو تناسيا الحديث حول الموضوع في جلساتنا العائلية على مرّ السنين؟ وإذا كنا أقارب فعلا ً فكيف تقسمنا ومن انشق عن من ومن ترك وهاجر. هل أصلهم من الكرمل أم نحن من جئنا من سوريا؟ شعرت بالغضب حيال هذه الحقائق التي بدت تتكشف لي ولم يكن لي علمٌ بها على الإطلاق. هذا جزء من تاريخي وكينونتي كان خافيًا عني بسبب تجاهل الآخرين وإهمالهم. سوف أحاسب كل الكبار على فعلتهم هذه فالمسألة ليست معلومة عابرة سقطت سهوًا، إنها جزء من هويتي. ليس أصعب من أن تزور قريبًا لا تعرفه ولا يعرفك. هم أقربائي، الآن لا شكّ لي في ذلك، لكني لا أستطيع أن أبدي أيّ نوع من العطف والحنان إزاءهم فهم أقرباء غرباء لا أعرف أسماءهم، أشكالهم، أكلهم، لبسهم، عاداتهم وتقاليدهم.

يبدو في الجلسة أن ذاكرة الكبار بدأت تعود إليهم ومن الحديث الذي دار فهمت أن قسمًا منهم سكن في دالية الكرمل في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي.

بيوت القرية، معظمها من الطين والحجارة البازلتية السوداء، من دون كهرباء أو شبكة مياه. يبدو الفقر جليًا عليهم فبيوتهم خالية من أدوات أساسية كثيرة ومن الممكن أنّ فقرهم الذي أحسست به يعشش في مخيلتي فقط لأنني حكمت على ظواهر الأمور. لحظة بعد أخرى، بدأ منظر الفقر والقلة يتلاشى كلما علت ضحكاتهم وتبدّت لي أواصر المحبة والتعاون فيما بينهم. تبًا للمياه والكهرباء، فليست هي التي تصنع السّعادة والاستقرار.

إنفتحت القلوب وتبدّدت كل حواجز الغربة خلال سويعات؛ فالناس هنا طيبون، لهم عراقة الشرق وعبق البادية بأصالتها وعفويتها وطقوس استقبالها للضيف. افترشنا الأرض بعد أن حضر الطعام الذي تكوّن من مناسف مليئة باللحم والأرز، جلسنا بشكل دائري، وجلست أنا على ركبتيّ بجانب أبي لأني لا أحسن الجلوس أرضًا كبقية من حولي ثم بدأت بالنظر إليه لثوانٍ عله يرشدني ماذا عليّ أن أفعل الآن. لاحظت أن مضيفينا لم يضعوا الشوَك والمعالق فاقتربت من أذن أبي سائلا كيف لي أن آكل الآن. رد أبي بنزق محاولا ألا يثير انتباه الآخرين بوخزة من مرفقه في خاصرتي، أن أتصرف كبقية خلق الله المتواجدين. نظرت حولي فرأيتهم يشمرون عن سواعدهم ثم يغرفون بعد البسملة بأصابعهم في الأرز واللحم. تابعت المنظر، مرة تلو الأخرى حتى أتبين إن كنت أستطيع الانتصار على نفسي ومشاركتهم الطعام، ولا أنكر أني كنت أتضور جوعًا، حتى اقشعر بدني. فأنا المهووس بالنظافة، لا أتحمل أن أمدّ يدي بهذا الشكل، وأن أشارك أحدًا طعامًا، تلطخ بأصابع يعلم الله أين كانت ممدودة قبل ذلك…

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>