سِتّـيِّة مَيْ: فوضى تضاجعُ اللّغة فوق مُكعّبٍ اسمنتيٍّ/ علاء حليحل

سِتّـيِّة مَيْ: فوضى تضاجعُ اللّغة فوق مُكعّبٍ اسمنتيٍّ/ علاء حليحل

فوضى ضدّ الركود، كلام يحذف المعنى الجاهز، موسيقى طفوليّة ناضجة ونضوج طفوليّ موسيقيّ

عرض فوضى في حيفا، الأسبوع الماضي

عرض فوضى في حيفا، الأسبوع الماضي

>

|علاء حليحل|

ala-newهل هناك فوضى من دون نظام؟ أليست “نظريّة الفوضى” محاولة حثيثة دائمة لاكتشاف المنطق من وراء السلوك العشوائيّ؟ العمل المُركّب والذكيّ “فوضى” لا يسعى لنظام جديد، بل هو محاولة أخرى ناجحة للإشارة إلى مكامن الضجر والبؤس والركود في كلّ نظام. نصُّ صارخٌ يستنكر “الأدب الجاد والمسرح الجاد والخبز الجاد والويسكي الجاد…” مشيرًا بوقاحة وشجاعة إلى الملل الكامن في “الجدّيّة” المفتعلة التي لا وظيفة تاريخيّة لها إلاّ التغطية على السطحيّة اللا معقولة التي يمارسها “الجادّون”، في شعورهم بالعجز عن الإبداع الحقيقيّ.

لا مجال للاستمتاع بعمل “فوضى” من دون الاستسلام لفوضاه. تقرّر أنّك ستستمع الآن إلى الكلمات من دون تأثير الموسيقى، ثم تنجرف مع الموسيقى التي تعمل “ديليت” مؤقّتًا لـ “تْراك” الكلام. “أكتب للآخرين” يقول النصّ- وفي هاتيْن الكلمتيْن ما يمكن أن يختزل الكثير من المفاجآت التي تنتظرك في هذا العمل. الآخرون هم “هُم”، كلّ من ليس نحن، ولكن من نحن؟ الجادّون؟ قتلة جوليانو مير خميس؟ الفلاحون والنساء الحاملات لأدلاء المسح والتنظيف؟ من يستطيع أن يفصل “هم” عن “نحن”، ولماذا نكتب لهم ما دمنا نكتب لنا؟ الكتابة للآخرين فخّ عنيد عويص: لا كتابة للآخر من دون كتابة عن النفس. الآخر ليس الجحيم كما قال سارتر، بل هو الحاجة المستمرّة للكلام والتبرّم والتشكّي والحُلم. لا آخر من دون كلام (وموسيقى) ولا كلام من دون الآخر. جدليّة لا تكتفي بالأفكار النمطيّة الجاهزة عن السلطة وعن النظام وعن… الثورة. كم من ثورة أضحت نظامًا وكم من نظامٍ فَصْفَصَ عظام الثورة على مهل واشتمّ الكوكايين من داخل سُرّتها؟ “نكتب للآخرين” وكأنّهم فكرة في أغنية، سطر بديع في حواريّة مختلفة عن الما-بعد-أبصر-شو. “والقلب واحدٌ” يقول العمل، إذًا فأين الآخر لنكتب له؟

“فوضى” عمل الأسئلة- ولذلك فهو عمل غزير ومثير للغدد السمعيّة والتأمليّة. إذا كان العملُ يقول “أكتب لأعيش”، فهذا لا يعني أنه يعيش ليكتب، أو أنّه يعيش الآن وسيكتب لاحقًا، أو بالعكس. ومن سيقول للطفل عمر على حاجز قلنديا إنّه يكتب ليعيش، وهو مقتنع تمام الاقتناع بأنه يبيع “سِتّيّات المي” على حاجز قلنديا كي يعيش؟ لغة العمل كاللغة العربيّة فيه: خليط من الفصحى المعياريّة مع المحكيّة الفلسطينيّة. لغة بلا نظام، تتجمّل جَمالا أخّاذًا بالأخطاء اللغويّة. عملٌ يمدّ لسانه للقواعد والنحو، يلعن سنسفيل الفاعل وينتصر للمفعول به فيرفعه ولو لمرة واحدة في حياته. فوضى لغويّة تليق بالعمل، تتمرّد على اللغة “المعياريّة”، لغة السلطة والنظام. لو لم يذبح هذا العمل بقرة اللغة المقدّسة لكان مزيّفًا وضعيفًا وركيكًا. “وحياة ولادك! وحياة عينيك! تشتري منّي كمان ست قناني مي؟!”- يصرخ عمر على الحاجز، وهذا ما تصرخه اللغة في وجوهنا: اشتروا منّي قناني مياه أخرى، لا تنسوْا أنني أعيش على الحاجز، يكرهني الجميع ويخافونني، ولا أحد يرى أنّي ملتهبةٌ أتوحّم على غريبٍ يحملني بقوة ذراعيْه ويضاجعني فوق المكعّب الاسمنتيّ الذي يختبئ وراءه الجنديّ.

الموسيقى في “فوضى” غير تقليديّة كأقلّ ما يُقال. فيها توتّر واعٍ ومتصاعدٌ من دون أن يكون مزعجًا: وعيٌ ذاتيّ بأنّها في الخلفيّة أحيانًا، مع أنّ عليها أن تتصدّر العمل. لعبة خيال وظلّ، مركز وهامش، فوق وتحت. موسيقى تبدو للوهلة الأولى أنّها أجنبيّة، غريبة ابنة غريبة، لكنّها ليست أجنبيّة أو عربيّة أو “عميلة” أو “دخيلة”، كما نحبّ أن نصنّف أعمالنا وفق معادلات الشرق والغرب المتجذّرة فينا. هي موسيقى كالرمال المتحرّكة، تسير فوقها ببطءٍ وحذر، تخشى أن تبتلعك فجأةً، تنجو بقدميكَ عائدًا إلى النصّ الكلاميّ، وأنت تعرف أنّ رمال الصحراء أكبر من أيّ محاولة. موسيقى مغامِرة، طفوليّة بنُضج، ناضجة بطفوليّة جذّابة.

“فوضى” عملٌ فلسطينيّ بوست-تراوماتيّ بجدارة، وهذا ما يجعل منه عملاً كونيًّا ليس فلسطينيًّا. لقد تحرّر طاقم “فوضى” من أبجديّات التراوما الفلسطينيّة، والشكل “الذي ينبغي” أن نكتب فيه ونحيا وفيه ونُلحّن فيه. نصوص عن “عبيد المصانع” تندمج مع “جِيب الهويّة” في حالة انسيابيّة لا تحتاج إلى أيّ تبرير. “فيوجِن” بلا وتيرة واحدة، بلا “إيقاع” متناغم؛ عملٌ غريب بكلّ ما تحمله الكلمة من رغبة صادقة في التأمّل التآمريّ على الفهم الجاهز والمُعلّبات الفكريّة- الفنيّة. هذا عملٌ طازجٌ، نيء في بعض مقاطعه، لكنّه عملٌ فاتح للشهيّة، تمامًا كما يجب أن يفعله أيّ فعل جدير بالحياة.

.

fawda poster

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>