مسرحية “ورد وياسمين”: جدل فلسطيني- إسرائيلي يخلق جدلًا فلسطينيًا داخليًا! / فايد بدارنة

مسرحية “ورد وياسمين”: جدل فلسطيني- إسرائيلي يخلق جدلًا فلسطينيًا داخليًا! / فايد بدارنة

المشهد المسرحي الأول كان مفاجئًا للمشاهد الفلسطيني وخلق جدلًا كبيرًا. كان المشهد مؤلمًا لأفراد عائلة يهودية تهلك تحت بشاعة النازيين، والبعض الآخر من العائلة ينجح بالهروب حتى يصل إلى فلسطين الرازحة تحت الإنتداب البريطاني. وكأن القانون الإنساني صارم ومتماسك لدرجة أنك لا تسمح لدمعة من دمعاتك أن تفلت على ضحايا لأناس تحولوا فيما بعد لألد أعدائك.

11358665_390492264478933_544173642_n

| فايد بدارنة |

“ورد وياسمين: مسرحية تحكي عن قصة حب تجمع مريم اليهودية المهاجرة الهاربة من ألمانيا النازية إلى فلسطين، وجون، ضابط إنجليزي يخدم في فلسطين في أيام الإنتداب. يتزوجان الاثنين وينجبان الطفلة “ليا”، تكبر وتتزوج من محسن الفلسطيني. ينجبان ليا ومحسن طفلتين تلتقيان بعد عشرين عامًا في معسكرين مضادين. تروي المسرحية تراجيديا تمزق العائلة المختلطة خلال ثلاثة أجيال”.

في مقالة من مقالاته المنشورة في صحيفة “المحرر”، عرض غسان كنفاني قراءة نقدية لكتاب نقدي للمفكر صادق جلال العظم بعنوان “النقد الذاتي بعد الهزيمة”، ومن بين ما قاله كنفاني: “إن في صفحاته جدل حي، يضع جيدًا العقل العربي على المشرحة بعد هزيمة حزيران في نوع من الطب الجراحي الجريء.. يختار أن يكون قاسيًا.. ولكنه برفض أن يطلي سواد الحقيقة طرشًا بالكلس”.

هذا النص الكنفاني يناقش طريقة النقد لكنه يسلم بحتمية الجرأة المطلوبة من أجل الخوض بقضايانا ومن أجل تشخيص أمراضنا. فإذا كان هذا النص حيويًا لقراءة التاريخ فكم هو حيوي في جنون وجموح المسرح؟ والمسرح ساحة للنقد، للتأمل وللرؤية الفكرية.

في إنتاجه الجديد “ورد وياسمين”، يكسر المسرح الوطني – الحكواتي حاجزًا نفسيًا وفنيًا فيما يخص تردد وحذر القطاع الفنّي عمومًا في اختيار المواد الجدلية وخصوصًا بما يتعلق بأنسنة “الآخر” في روايتنا الفلسطينية، وإن لم يكن برأيي، هذا هو محور المسرحية. وقد تم إنتاج العمل بالتعاون مع مسرح “ايڤري” في باريس ومن أخراج المصري عادل حكيم. وهنا يجب الإشارة إلى أن التعامل العقلاني الوجودي مع الآخر الإسرائيلي بادر إليه أدباء كبار أمثال إميل حبيبي، غسان كنفاني ومحمود درويش.

في هذا الإنتاج الجديد، يدور الشريط المسرحي ليحكي رواية التشرد، اللجوء والكفاح الفلسطيني ما قبل النكبة وحتى الإنتفاضة الأولى. والحدث ليس كالحدث. والحقيقة ليست كالحقيقة. في كتابات الجمهور بعد المسرحية لاحظت بأن البعض من جمهور المسرح يبحث عن الحقيقة، يبحث عن الرواية غير المخدوشة، أو يبحث عن الضحية الوحيدة حتى النهاية السعيدة إو إشاراتها.

المشهد المسرحي الأول كان مفاجئًا للمشاهد الفلسطيني وخلق جدلًا كبيرًا.  كان المشهد مؤلمًا لأفراد عائلة يهودية تهلك تحت بشاعة النازيين، والبعض الآخر من العائلة ينجح بالهروب حتى يصل إلى فلسطين الرازحة تحت الإنتداب البريطاني. وكأن القانون الإنساني صارم ومتماسك لدرجة أنك لا تسمح لدمعة من دمعاتك أن تفلت على ضحايا لأناس تحولوا فيما بعد لألد أعدائك.

والمسرحية تثير، من بين ما تثيره، جدلًا أوليًا وغير أساسيًا، حول حقيقة وجود هذا الفصل في مأساتنا. والمُسَّلم به أن هذا الفصل لا يمت بصلة لتاريخنا، بمفهوم أن الفلسطيني لم يصنعه، وبالتأكيد ليس للفلسطينيين فيه لا ناقة ولا جمل. لكن هذا لا يلغ حقيقة أن الناقة والجمل سيقا إلينا وأُلقيا بنفسها فصلًا من فصولنا. واختار النص المسرحي أن يتعامل مع رواية كاملة ما زال تفرض نفسها على العالم والصراع حتى اليوم. فقد استطاعت الرواية الصهيونية أن تجند الكثير من دول العالم حول مقولة “لا بلاد لنا غير هذه البلاد” بعد المجازر النازية. وإن أردنا أن يكون للمسرح رسالة تعبوية فلسطينية أمام الرأي العام العالمي، فقد فعل ذلك بنجاح.  فقد استبق أي ادعاء أوروبي وأظهر إدراكه واستيعابه لما تعرض له اليهود، لكن النصّ المسرحي يستدرك ليقول: “لن يكون الفلسطينيون ضحية تدفع ثمن جرائم الأوروبيين بحق اليهود في أوروبا”.

العديد ممن كتبوا عن المسرحية وجهوا اللوم على أن المسرحية لم تُسجل ولم تتعرض لأحداث تاريخية وجرائم معينة قامت بها الحركة الصهيونية والقوات البريطانية، وأن الامور بدت على خشبة المسرح أحيانًا طبيعية، هادئة ومليئة بعلاقات إنسانية لا تتوافق مع طبيعة الصراع على الأرض. ولكن هذا اللوم، وإن كان مشروعًا، فهو غير مصيب بما هو مطلوب من النص والفعل المسرحي. فالمسرحية، أي مسرحية، ليست تسجيلًا دقيقًا للتاريخ ولا تغامر بسرد الأحداث كما يبتغي المشاهد. المسرح بمقدوره افتعال الحدث المتخيل المبني على حقبة تاريخية معينة دون الخوض بكل شاردة وواردة، على أن يبقي مخرج العمل المسرحي إلمامه بالتاريخ محلقًا، ملهمًا للفعل على خشبة المسرح.

 علينا ألا نتوقع من المسرح ما نتوقعه من مناظرة تلفزيونية أو من فلمًا وثائقيًا. وعلينا أن نبتعد عن الخطابية في العمل الفني التي تسخر وتستخف بالآخر وتظهر تاريخًا رومانسيًا بطوليًا أحاديا كما ظهر ذلك في مسلسل “رأفت الهجان”. في حين أظهرت لنا الوقائع على الأرض نقيض هذه البطولات. ومع ذلك، وإن اردنا التعامل التوثيقي مع هذا اللوم، وهنا أعود لما أوردته في البداية حول ضرورة النقد الذاتي لفصول معينة لروايتنا التاريخية، فهناك الكثير مما يمكن قوله، مثلًا؛ إن الكثير من الأراضي بيعت لليهود في فلسطين بإرادة مالكيها مع اختلاف الدوافع، الكثير من الصداقات المشبوهة وغير المشبوهة نشأت بين اليهود والعرب والإنجليز ولا نعلم الكثير عن تداعيتها، وقد قامت نوادي الرقص والسهر التي زارتها قيادات عربية وانجليزية ورجالات ونساء الحركة الصهيونية. وفي نفس السياق ومع اختلاف الفترات والاحتلالات، أذكر أن الكاتب المسرحي السوري الكبير ممدوح عدوان تطرق في روايته التاريخية “أعدائي” لجوانب كثيرة لكيفية نمو شبكة العلاقات هذه (وإن تركزت أيام الفترة العثمانية، وهي فترة هامة في تاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين)، وما تمخض عنها وساهم في ضياع البلاد فيما بعد.

في مقدمته لمسرحية “الاغتصاب”، كتب سعد الله ونوس أن إلهام المسرح الحقيقي لم يكن في يوم من الأيام الحكاية بحد ذاتها، وإنما المعالجة الجديدة التي تتيح للمتفرج تأمل شرطه التاريخي والوجودي. لقد توافد الإثينيون القدماء إلى المدرجات الحجرية حيث تقام المسابقات المسرحية ليتأملوا شرطهم الحياتي في ضوء العلاجات التي يقدمها المسرحيون والرؤية الفكرية التي تطفو من تلك الأعمال. وبذلك يتحول المسرح من مكان للحوار إلى مكان للحرية وازدهار المدنية.

 والمعالجة المنتظرة في مسرحية “ورد وياسمين” هي معالجة عسيرة ومهمة صعبة، وبدلًا من أن يكون المسرح مكان للحرية وازدهار المدنية، فهو بهذه الحالة لا ينعم بالحرية، فحريته معاقة ومصادرة ومدنيته معطلة من قبل “أحد اطراف” النص المسرحي.

مخرج المسرحية عادل حكيم في تقديمه للعرض يكتب عن المسرح التراجيدي ويقول: “المسرح التراجيدي الإغريقي هو النموذح الدرامي الذي يحتذى به ويشدد على أن الأمر الجوهري هو الطريقة التي تجعل الفعل المسرحي يدفعنا للتفكير والتأمل ويقودنا إلى طرح الأسئلة حول مصيرنا الجماعي والفردي”.

دعمًا لهذا التوجه، ومن أجل جدية وتأثير الفعل المسرحي، أتابع مع ملاحظات سعد الله ونوس حول مسرحية “الاغتصاب” فيشدد على أن الرواية الفلسطينية والرواية الإسرائيلية حكايتان تتداخلان، وتتبادلان النمو. وهو يحلم بأدائين متميزين؛ أداء يميز الحكاية الفلسطينية وأداء يميز الحكاية الإسرائيلية. ويحذر ونوس من تقديم الشخصيات الإسرائيلية بصورة مضحكة أو فجة، وتحذير الممثل من عدم ضبط عدائيته تجاه الدور الذي يؤديه. وبهذا الجانب تحديدًا لا بد من الإشادة بجهود الطاقم العامل بمسرحية ورد وياسمين الذي حرص على أداء متميز للشخصيات اليهودية والإسرائيلية.

 إن تعبير ونوس عن مسرحيته “الاغتصاب” بأن العمل هو مقطع مجتزأ من تاريخ عنيف مثقل بالاحتمالات والتحولات، هو تعبير مفيد لنقاشنا حول هذا الإنتاج المسرحي، بحيث يكون الوعي التاريخي لمخرج العمل ركيزة هامة وعاملًا جوهريًا لنجاح العمل إلى جانب الابداع الفني. في “ورد وياسمين” جاءت المشاهد لترسم صورة لتاريخ البلاد مكونة من جزيئات كبيرة من التاريخ، كما ذكرت سابقًا، من محرقة اليهود في ألمانيا وصولًا لإنتفاضة عام 1987.

في الجوانب التاريخية، اختار المخرج ما اختاره من الأحداث التاريخية وبنى عليها وحولها الحوارات المسرحية. وإن كنت أطمع بإضافات بما يتعلق بالمقاومة العربية بتوازٍ مع ذكر التنظيمات الصهيونية والقوات الانجليزية في الحوارات القصيرة السريعة في الجزء الأول من المسرحية، والتي تدور بين صالح الفلسطيني والضابط الانجليزي جون، وبرأيي أن هذه الزيارات المتكررة لصالح إلى بيت هذا الضابط كان لديها متسع ومكان لخلق حوارات أكثر رصانة، جدية وجدلية لتحمل قلق وتخوفات الفلسطيني صاحب البيت، مالك الأرض وصانع الخزف. في الجزء الثاني من المسرحية كان الحوار بين هذين الشخصيتين مركبًا وجوهريًا أكثر لكنه تم بعد أن غيبهما الموت.

لقد خيم خطاب البيت الفلسطيني على امتداد المسرحية بين فاقد البيت، بين من سلب البيت وبين من لم يحمي البيت من السلب. هناك مساحة لجهد إبداعي أكثر في فكرة وبناء الديكور لتنسجم مع المشاهد، الحوارات والحقبات التاريخية التي يشكّل فيها البيت الفلسطيني رمزًا ثابتًا في الماضي والحاضر، في اللجوء وفي العودة. فيمكن مثلًا إدخال جدران توحي بالحجر والبيت الفلسطيني وتنسجم ومع ذلك تبقي على أجواء المسرح الأثيني الذي يميل إليه المخرج. لقد كان الديكور يحمل نوعًا من التكرار لنفس الديكور في مسرحية “انتيجونا” التي أخرجها عادل حكيم لمسرح الحكواتي.

أداء الممثلون والممثلات

في الجانب الأدائي للمثلين لا بد من الإشادة بشكل خاص بالأدوار النسائية التي قُدمت بشكل ملحوظ، بل بشكل رائع. لقد شكّل العرض قفزة نوعية لجميع الممثلات لمن منهن تمتلك تجربة أكثر أو تجربة أقل. لقد استطاعت شادن سليم (مريم) أن تُقنع المشاهد بدورها ونجحت أن تمسك بجميع الخيوط باتقان جعلتها أحد الممثلاث البارزات على المستوى الفلسطيني العام. اتقنت الرقص الأرستقراطي واتقنت الخطاب اليهودي ونجحت بنقل التناقضات التي تعيشها على خشبة المسرح وإلى جمهور المسرح. وفي الأدوار المختلفة للمثلتين لمى عاصلة وفاتن خوري، كانت هناك مساهمة هامة في انجاح العمل وإضافة رصانة وجدية للعمل تستحقان عليها كل التقدير، خصوصًا بعد أن كانت هذه الأدوار حكرًا على الذكورية ويغيب عنها العنصر التمثيلي النسائي.

 في الحانب الجوهري شكّلت مشاهد التحقيق، التعذيب الجسدي الجنسي والاغتصاب فرصة لمواجهة مع النفس حول القصص المغيّبة والمخفية من روايتنا النابعة من عوامل الخجل، الخوف ومفاهيم الشرف المشوهة والمزيفة. أما أميرة حبش (ليئا) فقد سبحت باتقان في الأدوار المعدّة لها، عكست بكل جدية دور الشخصيات التي لبستها، وبدون شك نجحت باقناع الجمهور بالتعاطف مع ‘نسانيتها و”يهوديتها” مما فيه اتقان للغة المسرحية. وكان لأميرة حضور ملفت في أداء الرقصات الأثينية التعبيرية. وبهذا الجانب،  برز علاء أبو غربية بدور الراقص البهلواني الذي برز أكثر بدور الجندي، وعمل على دور مقنع ومؤثر.

لقد نجح الفنان حسام أبو عيشة بـ “العيش” في شخصية “آرون” وبتمثيل الحكاية الإسرائيلية كما كتبها المخرج، واستطيع أن اجزم أنه أضاف لها الكثير بحكم تجربته الشخصية في السجن ومعترك الحياة. لقد حافظ “آرون” على رزانته وجديته المطلوبة في العمل السري كما انعكس ذلك فعليًا على مجريات التاريخ. وبالمقابل برزت شخصية جون (سامي متواسي) الإنجليزية التي تعكس تخبطًا لضابط انجليزي متزن ومهذب، لعب دوره بشكل ممتاز دون أن يحمّله المخرج خطابًا سياسيًا أو عسكريًا، لربما كان عليه أن يحمّله في هذا الصراع الذي يقف بمركزه.

الحكاية الفلسطينية حملها كامل الباشا (صالح) وداود طوطح (محسن)، والتي تفاوتت أدوارهما بين الزخم الجدلي الجيد والمتقن في الجزء الثاني، وبين بهلوانية محسن في الجزء الأول بدور الكورس وزيارات صالح لبيت الضابط الانجليزي. إلى جانب الأداء المتميز لهما، أسمح لنفسي أن اقدم ملاحظتي للمخرج بضرورة تعزيز مضامين الحوار والمواقف بين الأب صالح والإبن محسن (مثلا، يتم تسهيل الحدث والفراق: الأب إلى لبنان والإبن إلى غزة دون أن يحدث التفاعل المطلوب. وهناك مساحة للتدخل في هذه الحواريات). هذا التعزيز سيزيد من رصانة وتعقيد حكايتهما وتراجيدية الأب والإبن مقارنة بالحواريات والجدل الدائر في الحكاية الإسرائيلية من خلال عائلة مريم.

في النهاية، تشكل هذه المسرحية نقلة نوعية بالنسبة للمسرح الوطني الفلسطيني بقدرته على طرح الجدل، الخوض فيه دون خوف من أجل توسيع الرؤية ومن أجل ترسيخ الرواية الفلسطينية حول الفقدان والتشرد والحق باستعادة البيت المفقود والعائلة المشتتة. في المقابل فإننا نرى قبضة الرقابة الثقافية الإسرائيلية تشتد على مضامين الرواية الفلسطينية، كان أبرزها ملاحقة محمد بكري على فلمه “جنين جنين” وآخرها تحريض وتضييق على مسرح الميدان في حيفا لإنتاجه مسرحية “الزمن الموازي” عن قصة سجين فلسطيني. لا شك أن المسرحية تقدم للمشاهد الأجنبي رؤية فلسطينية للصراع، وإن اختلفنا عليها، يرجى عدم الاستهانة بقدرتها على تعزيز الرواية الفلسطينية في الخارج.

المصادر:

سعد الله ونوس، الاغتصاب، 2005

ممدوح عدوان، اعدائي، 2000

غسان كنفاني، فارس فارس، 1996

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>