من وحي غزّة/ فراس خطيب

انتظرت الشاحنة كي تأتي، لكنّها لم تأت. منذ ذلك التاريخ لم أرَ أبو علي ولا من معه… فهمت من بعدها، أنّ ذلك التاريخ الذي انتظرت فيه كان بداية الانتفاضة الأولى… هم توقفوا عن المجيء، وأنا توقفّت عن الانتظار…

من وحي غزّة/ فراس خطيب

فلسطيني من غزة يحمل لعبة أطفال في شارع مدمر بعد قصف إسرائيلي جوي على مقر رياضيّ مجاور في مدينة غزة، 19 تشرين الثاني 2012- تصوير: ماركو لونغاري/ أ ف ب/ غيتي إيميجس)

?

|فراس خطيب|

(1)

على تلك التلّة المطلّة على قطاع غزّة، وحين كانت الطائرات تحط بأعبائها، صفنت في ضجيج المكان: ماذا لو كانت لي ابنة، كيف كنت سأضمّها لأحميها من هلاك القصف؟

لم أغضب من القصف، ولم أحزن. انتابني نوع من الصمت غير المفهوم، اكتشفت من بعده أن هدوئي كان عجزًا؛ فحين يعجز الإنسان يصمت، ويبتسم ابتسامة لا لون لها. نظرت إلى يميني فرأيت رجلاً يبدو واهنَ القوى. الطقس بارد على تلك التلّة لكن الرجل ارتدى بنطالاً قصيرًا ونظارةً شمسية رغم الغيوم، وسترة بيضاء وقلادة ذهبية. التفت اليّ وقال: “هل تعرف ما أريد أن أرى الآن؟” حين تحدث إليّ انتبهت إلى أن أسنانه محطمة بالكامل، وواصل الحديث بقوله: “أريد أن أشاهد جثثًا لأطفال تتطاير في الجوّ، أريد أن أشاهد جثثًا مقطعة لرجال ونساء”… مرة ثانية ابتسمت ابتسامة لا لون لها. قال كلماته وذهب بعيدًا عن الأنظار إلى حين دوَّت صفّارات الإنذار، فركض حتى التهمه ملل النهار في ذلك اليوم الجنوبيّ. حين شاهدته يركض تخيلت نفسي أستيقظ صباحًا راغبًا بأن أرى جثثًا قبل أن أشرب قهوتي. لا أعرف لماذا ومن أين، لكني شعرت بالشفقة عليه…

 

(2)

صيف العام 2006. في ذلك اليوم، كان الصحافيون يجتمعون على باب غرفتها لتصوير ملامحها. قبل ساعة من وصولها المستشفى، كانت هدى وعائلتها على أحد شواطئ غزة التي استعيدت بعد إخلاء المستوطنات، حين سقطت قذيفة على مقربة منهم، مات أفراد العائلة كلّهم ونجت هي. كانت صورتها وهي تصرخ علامة على تلك الحرب التي شنّتها حكومة أولمرت على قطاع غزّة. وعلى الرغم من بعد الحيثيات لكن هدى كان تشبه أطفال فيتنام الذين ركضوا هرعًا من القصف حين اكتشف الأمريكيون القنابل العنقودية. ست سنوات مرّت على موت عائلة هدى، ست سنوات مرّت على صورتها وهي تصرخ، وعاشت غزّة حربين من بعدها، لكنَّ أحدًا اليوم لا يذكر هدى. أين هي اليوم؟ حين كان القصف ينهمر على غزّة، تذكرت هدى في لحظة ما، وأخطأت في تجميع ملامحها، تخيلتها كل شيء، تخيلتها طفلة وامرأة، ناجحة وقادرة، تخيلتها غريبة الملامح، تخيلتها كل شيء، لكني لم أتخيلها سعيدة.

 

(3)

للحرب وجهان. واحد نراه، وثانٍ أسماه جون بيلجر: “الحرب التي لا نراها”… في غزّة والشام، كما في بغداد وبيروت هناك حرب تبدأ بعد وقف إطلاق النار، حرب لا نراها. هدى واحدة من أبطالها…

 

(4)

سقطت قذيفة الهاون على مقرّبة منّا، في بث حيّ ومباشر. غادرت الكاميرا، فهمت أمّي أنَّ “الدفء في الليل” و”الطعام الدسم” لا يفيدان دائمًا. اتصلت بي وحاولت إخفاء قلقها عليّ من الحرب وسألت: “شو قال نتنياهو عن الهدنة؟”

 

(5)

حاولت أن أكون رومانسيا، فتشّت عن الكاتب الإسرائيلي حانوخ ليفين، وترجمّت ما كتبه آنذاك:

عندما نخرج في رحلة، فإننا ثلاثة-

أنتِ وأنا والحرب القادمة.

عندما ننام، إنّنا ثلاثة،

أنا وأنتِ والحرب القادمة

عندما نبتسم في لحظة حب،

تبتسم معنا الحرب القادمة

وعندما ننتظر في غرفة الولادة

تنتظر معنا الحرب القادمة

عندما يطرقون الباب، فإننا ثلاثة،

أنتِ وأنا والحرب القادمة.

عندما ينتهي كل شيء، مرة أخرى، نحن ثلاثة

الحرب القادمة، أنت والصورة

أنا وأنتِ والحرب القادمة

(6)

عرفت غزّة قبل أن أعرف الكتب، قبل أن أسمع القصف. هناك في حديقة بيتنا، كانت الشاحنة الزرقاء تقف كل يوم خميس، فنصرخ في الحي “أجو الغزاويين” ونركض نحوّهم. كانوا يبيعون كلّ شيء في الشاحنة، من عرق السّوس حتى سلفانا. تتحوّل ساحة بيتنا فجأة إلى مهرجان. كنت أكثر الأطفال سعادة كون الشاحنة تقف في ساحة بيتنا. كان أبو علي يناديني من بين الأطفال كي أصعد إليه على ظهر الشاحنة ونغني… في أحد أيام الخميس، انتظرت الشاحنة كي تأتي، لكنّها لم تأت. منذ ذلك التاريخ لم أرَ أبو علي ولا من معه… فهمت من بعدها، أنّ ذلك التاريخ الذي انتظرت فيه كان بداية الانتفاضة الأولى… هم توقفوا عن المجيء، وأنا توقفّت عن الانتظار…

(عن سكاي نيوز العربية)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>