شحرور في تل أبيب/ جورج جريس

لم أفهم معنى هذا الاشتياق.. سبق وقالت لي إن أخوّة حميمة تجمع فيما بيننا. فبتّ أقلق من مصطلح ” الأخوّة” حدّ النفور. ماذا تنفعني الأخوّة وقلبي يلتجّ مثل رياح الموج؟

شحرور في تل أبيب/ جورج جريس

ساندرو ساباتيني، "أن تكون أو لا تكون"، أكريليك على قماش


|جورج جريس|

غدا امتحان القبول للمعهد المسرحي في تل أبيب. أجرت سكرتيرة المعهد معي اتصالا قبل أسبوع لتنصب لي هذا اليوم الدرامي- كوميدي. عليّ أن أحضّر مونولوجين باللغة العبرية، أحدهما دراميا والآخر كوميديا وأغنية إسرائيلية.. لم أفهم ما معنى أغنية إسرائيلية… هل تقصد طابع الأغنية الإسرائيلي؟ أم كلماتها العبرية؟ ربما العربية؟! (لا.. لا.. لا يجوز…). الحقيقة أني لم ألحّ عليها في السؤال كي أستوضح هذا المعنى.. ربما خُبثاً ( فلتسقط “ربما” التي ملّت تبرئتنا)؛ كي أغني ما أشاء.. “وأسلطن” على وجع الأغنية الشرقية العربية التي تستهويني دوماً. وذلك رغم البحث الممقت في موقع اليوتيوب عن أغنيات إسرائيلية عبرية  لم أفلح يوما في اكتسابها أو جلبها إلى روحي أو حتى دندنتها.. شعرت حين سعيت جاهداً في حفظها وكأنني طالب في الصف الثالث يقوم بتلاوة أنشودة لم يفهم كلماتها ولم يدرك بعد أن الأغنية مزيج تناغميّ بين الكلمة واللحن والقلب…

كعادتي.. أؤجل كل العمل إلى آخر لحظة، خاصة العمل لمهمة حاسمة، تحسم المصير.. أجوب وأجول غرفتي الصغيرة مثلثة الشكل بكل زاوية منها متفحّصاً كل تفاصيلها وممتلكاتها أُلقي نصّي المونولوجين المختارين تارة من على السرير الفوضوي وتارة في قلب الخزانة وتارة جانب جهاز قاتل البعوض. لم تنقص الأشياء والتفاصيل والمعدّات في غرفتي التي يمكنها أن تكون هدفاً تقنيّاً للمحاورة في كلا المونولوجين بل لتكون المحفّز المستفزّ لمشاعري المتناقضة.  كلّما حدّقت في تعليقة الملابس أسدّد إليها هدفي فأرى عيني أبي.. فيسقط منها بنطلون البيجاما… وكلّما وجّهت الكلمات إلى الخزانة فتخرج منها قمصان الحرير وأقمشة الكشمير وجلود التماسيح… أنظر إلى البعوضة المقتولة على أسلاك الماكينة.. أنظر في عينيها.. أرى وجه حبيبتي التي لم تحبّني.. يسكت النص.. لحظة صمت… أسمع صوت أمّي يناديني من المطبخ: تعال كُل.. إسّا ببرد الشوش برك…

- يمّا.. اصلا الشوش برك بتاكل بارد!

رغم أنني حفظت المونولوجين عن ظهر قلب وعشت كل لحظاتهما إلا أن لغتهما العبرية أربكتني وجعلتني أنظر، وأنا في القطار إلى تل أبيب، إلى وجوه الممتحنين الثلاثة الذين سيمثلون أمامي على بعد ثلاثة أمتار في غرفة التصفية ينظرون إلى هذا المتنافس العربي الوحيد بملامح أعجز حتى الآن عن تقدير مكنوناتها. سيختارون ثلاثين متنافسًا من ضمن ثمانمئة! هذا الإجرام المسرحي،”المنجرة” المسرحية.. كيف يترتب لهم خلال عشر دقائق فقط، مُعدّة لكل متنافس، اختيار الثلاثين الأفضل؟؟ مهما كانت قدراتهم الحدسية وموهبتهم فوق الطبيعية، كيف لهم أن يكتشفوا خبايا النفوس وطاقتها المختبئة؟ لا سيّما وأن أحد المتنافسين عربي ينطق العبرية- العربية؟ كيف سيغضب العربي بالعبرية؟ كيف سيضحك؟ كيف سيكون دونجوان؟

حاولت أن أرتّب أفكاري على سلّم لتكون فكرة المسرح والقبول للمعهد متربعةً على أعلى درجة وتتدنى حبيبتي التي تسكن وتتعلّم في تل أبيب إلى أسفل السلم… لكن رجّة هاتفي النقال والتي علت رجّة القطار فاجأتني برسالة مكتوبة: وينتا جاي على تل أبيب؟.. اشتقتلك…

لم أفهم معنى هذا الاشتياق.. سبق وقالت لي إن أخوّة حميمة تجمع فيما بيننا. فبتّ أقلق من مصطلح ” الأخوّة” حدّ النفور. ماذا تنفعني الأخوّة وقلبي يلتجّ مثل رياح الموج؟

رسالة أخرى: بدّي أشوفك بتل أبيب…

تل أبيب التي نادراً ما أزورها أصبحت اليوم محطّة فاصلة للحلم المسرحي وللحب.. هل تحلّلت ذرّات “الأخوّة” من أخواتها لتندسّ في عناصر العشق؟؟ هل تحوّل الأخ البريء إلى عاشق فلع؟ ( كلمة “فلع” مقتبسة من قاموس الكاتب علاء حليحل).

عند وصولي تل أبيب قررت إلى أن يأتي موعد الامتحان للمعهد بعد ثلاث ساعات، أن أواجه، حاليا، امتحانا آخر: المقابلة الحاسمة، أخ أنا أم عاشق؟

طلبت من سائق التاكسي أن يقلني إلى شارع ديزينغوف حيث تتواجد حبيبتي.

- إلى أين؟

- ديزينغوف.

- أين بالضبط؟

- قلب ديزنغوف.

- أين؟؟!

- قلب ديزنغوف.

- لا أصل إلى…

انتظرت دقيقتين أخريين حتى أتى تاكسي آخر.

- من أين أنت؟

- ماذا يهم؟ أريد السفر إلى قلب ديزنغوف.

- عليك أن تكشف هويتك… نحن من الشرطة.

- هويتي؟ لماذا؟ لقد نسيتها في سيارتي في محطّة القطار.

- أنت مشتبه! عليك أن تغادر تل أبيب.

دخلت القطار المغادر إلى الشمال في غضون دقيقتين. جلست بجانب ثلاث نساء إسرائيليات مسنّات.. أشعلت سيجارة في قلب القطار رغم كل اليافطات التي تمنع التدخين. نظرت إليّ النساء بشبهة بالغة. حدّقت في عيونهن ليصبحن هدفا تقنيا للمحاورة وألقيت أمامهن كلا المونولوجين المُحضّرين. وغنّيت لهنّ أغنية شرقية عربية…

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. مفتخر انك ولعت سيجارة بالقطار؟! ممنوع يعني ممنوع! فكرت بكمية القرف والمضايقة اللي ممكن يشعر فيها اللي بالقطار؟؟ غير الي عندهن مشاكل صحية.
    احترام القانون والبنيئادمين مش مفهوم ضمنًا عنا احنا العرب، منتعامل معاه باعتبارو عقاب وحكم جائر وشخصي، ومش كوسيلة بتضمن مصلحة الجميع!
    سوري ملاقيتش إشي تاني يشدني للرد.

  2. جورج ايها المبدع
    مع اني بحبش الشوشبرك وطلعني ذكرها من التركيز ولكن رائع ما تكتب..
    سؤال: قالت لك الشرطة انت مشتبه؟
    المعنى انك مشبوه وقد تقوم بعملية انتحارية تقتل فيها ابرياء. وطردوك خارج تل ابيب اذًا بكلمات اخرى “اذهب وتفجر في مكان آخر”…
    تهانينا

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>