حبّتا عنب/ جورج جريس

هل أورثتها أمها الجينات المسؤولة عن حجم الصدر وسيكون لها صدر صغير مثل صدر أمها؟ أم أنّ جيناتها المكتسبة أضعف من جينات أمها ولن ينبت لها ثديان على الإطلاق؟… لبست الصدرية فأحاطت حبتيْ عنب وفراغًا واسعًا، ثم دسّت بعض قطع الإسفنج في الفراغ الواسع

حبّتا عنب/ جورج جريس


"اِمرأة شقراء بصدر عارٍ"، إدوارد مانيه، 1878



|جورج جريس|

لم يسبق لسائق الباص أن يلتفت إليها وهو يقرط لها بطاقة الاشتراك الشهرية في سفرها في نفس الباص، يوميا، منذ سنتين من محطة قريتها إلى المدرسة الثانوية في حيفا. كادت أن تتعثر حال صعودها الدرجة الثالثة وهي تتشبّث بحقيبتها المدرسية. ركعت أرضاً تسترجع بطاقتها التي وقعت. نظر إليها سائق الباص بنظرة خاطفة. ربما نظر إلى المنطقة التي يقع فيها صدرها. هكذا قالت لنفسها…

الساعة السادسة صباحا. هي أولى المسافرين في الباص. احتلت مكانها الدائم الملتزم في المقعد الزوجي الرابع؛ المقعد الأكثر هدوءًا. ألقت حقيبتها بجانبها كما فعلت دائمًا كي يتسنى لها، قدر ما يتسنى، ألا يشاركها أحد الجلوس على، الأقل قبل أن يكتظّ الباص بالمسافرين في المحطات المقبلة.

- ممكن أقعد حدّك حبيبتي؟ راسي بوجعني اليوم. قالت أم الياس.

أم الياس مسافرة نفس الباص الدائمة، زبونة المقعد الأوّل خلف السائق، مقعد الهرج والقصص واللهو. المقعد الذي أهداه الله لسائق الباص ليصرف وقته المُملّ مع زبونة رائعة مثل أم الياس.

مرّ العمال الشبان الثلاثة، المسافرون الدائمون، متجهين إلى مقعدهم الأخير الملتزم، زبائن المقعد الأخير الذي يتسع لخمسة أشخاص.

رمقوها بنظرة خاطفة. ربما نظروا إلى المنطقة التي يقع فيها صدرها. هكذا قالت لنفسها…

الساعة السادسة وعشر دقائق. اِزدحام في حركة السّير. شعرتْ بأنّ كلّ النظرات مُوجّهة إليها. الكلمات أيضًا.

- البنات بتكبر قوام.

بدأت معها أم الياس رغم وجع رأسها اليوم.

عليها أن تصل مدرستها في السابعة، قبل بدء الدوام بنصف ساعة. كل يوم يصل الباص في هذه الساعة. لكنها اليوم شعرت بأنّ عائقًا قدريًا سيحصل. سيتأخّر الباص. الشارع مكتظ بالسيارات. الحصّة الأولى: رياضة بدنيّة. هل سيكون لديها الوقت الكافي لأن تدخل غرفة تغيير الملابس في المدرسة قبل وصول زميلاتها وتبدّل كنزتها المدرسيّة الفضفاضة بكنزة لاصقة خاصّة لحصّة الرياضة البدنية؟ أوصت معلمة الرياضة بنات الصف بأنّ الكنزة الفضفاضة التي يلبسنها دومًا في المدرسة لن تجديهنّ بعد الآن في حصة الرياضة، ولذلك عليهنّ من اليوم فصاعدًا تبديلها في غرفة تبديل الملابس فور وصولهنّ المدرسة بكنزات لاصقة تركتها لهنّ المعلمة في الغرفة.

الباص سيتأخر حتمًا.. هكذا قالت لنفسها…

الساعة السادسة والنصف. حادث طرق في الطريق.

- بنتي عايدة صارت تلبس صدريتي.. بعدها بنت 15 وصار صدرها لحلقها، قالت أم الياس.

هل ستكتشف أمها سرقة الصدرية؟ هكذا قالت لنفسها وهي تجلس في المقعد الرابع.

الساعة الخامسة والنصف صباحًا. دخلت غرفة أمها وتناولت صدرية مقاس 70B. هل ستلبس يومًا من الأيام هذا المقاس؟ هل أورثتها أمها الجينات المسؤولة عن حجم الصدر وسيكون لها صدر صغير مثل صدر أمها؟ أم أنّ جيناتها المكتسبة أضعف من جينات أمها ولن ينبت لها ثديان على الإطلاق؟ نظرت في المرآة في الغرفة شبه المظلمة إلى حبتي العنب المتدليتيْن من منتصف صدرها. لبست الصدرية فأحاطت حبتيْ عنب وفراغًا واسعًا، ثم دسّت بعض قطع الإسفنج في الفراغ الواسع. نظرت مرة أخرى في المرآة إلى الصورة الجديدة. بدت لها الصورة معقولة ولكن غير مكتملة.

هل ستصمد الصدرية ريثما تصل غرفة تغيير الملابس؟

- بنتي عايدة إجاها عريس… استرسلت ام الياس.

تخيّلت وتأكّدت أنها سترى بأمّ عينها بنات صفها، بنات الخمس عشر، وهنّ يخلعن كنزاتهن ويكشفن عن صدريّاتهن الـ 70B والـ  75Bوحتى الـ 80C. يتضاحكن ويتبادلن الصدريات ويقسن لبعضهن البعض رابطهن وكوبهن ودائرية حلماتهن. تذكرت بالذات ليندا، صاحبة أكبر صدر في الصف، ربما تعدّى الـ 80C، ترفع عن صدرها وتحمل صدريتها بين كلتي يديها مقهقهة: “مين بدها تلبس صدريتي؟”

لماذا تضحك الإناث بقهقهات جماعية عند تعرّيهن؟…

الساعة السابعة صباحا. تأخرّ الباص عن موعد وصوله.

لو وصلت في هذه الساعة لدخلت غرفة التبديل وحدها قبل وصول كل البنات وسوّت الصدرية ليتناسق شكلها مع قطع الإسفنج. ربما وقع بعضها إلى أسفل بطنها خلال السفر وأصبح لها صدر غريب، ثدي محدّب من جهة ومقعّر من جهة أخرى. لو أنها وصلت.. سيبدو لها صدرًا عاديًا.. ربما وسطيًا- وهو الأكثر قبولا.

نظرة سائق الباص والعمال الثلاثة وكلمات أم الياس وتأخر الباص- هكذا قالت لنفسها…

لكنها وصلت.. السابعة وعشرون دقيقة.

حارس المدرسة يلقاها عند البوابة.. يلمحها بنظرة خاطفة.. ربما ينظر إلى المنطقة التي يقع فيها صدرها…

الطلاب موزّعون في الساحة.

غرفة التبديل هادئة.. بلا أية ضحكات. جميع الطالبات جالسات في كراسيهنّ التي تحيط الغرفة. جاهزات، يلبسن الكنزات اللاصقة.

المعلمة في الوسط.

الغرفة تنتظرها.


قراءة شخصية ■ علاء حليحل

يكتب جورج جريس من قلب التفاصيل الشخصية. شخصياته تبتعد عن الهلامية، واضحة المعالم، صراعاتها حاضرة، قوية، تتحول إلى أفعال يومية أو شبه يومية، تعكس ما يجول في داخلها.

جورج، طالب المسرح اليوم والكاتب الأدبي الواعد والصاعد، يكتب وفق القاعدة الدرامية: “الشخصية ما تفعل لا ما تقول”. شخصية الصبية في هذه القصة تلبس صدرية أكبر من صدرها كي تبدو امرأة ناضجة أسوة بزميلاتها. لن تجدوا في القصة إسهابات فكرية خاملة أو شحطات تأملية أو خواطر يسهل على كل شخص أن يكتبها كمواضيع الإنشاء.

جورج يختار الطريق الأصعب: المادة الدرامية المنبنية على الصراع، على تداخل القصص الثانوية مع القصة الرئيسة، على البحث الدائم عن الخبايا في النفوس عبر مُستمسكات مرئية تبدو للكثيرين عادية (banal) لكنها هي هي الحياة الحقيقية.

موتيف تكرار جملة بعينها، المستوحى من الكتابة الشعرية (التي يطرقها جورج أيضًا)، حاضر هنا عبر جملة “ربما ينظر إلى المنطقة التي يقع فيها صدرها”. هذه جملة ذكية لأنها تحوي الرجاء بأن يروا صدرها، لكنها تحوي أيضًا خيبة الأمل والتردد والخوف من صدرها. وكلما تكررت الجملة من خلال السّرد اتسعت معانيها واتضح الصراع الذي تبثه رويدًا رويدًا، بين ومن خلال السطور.

هذه كتابة ديناميكية، غير سهلة، لا تعتمد على البلاغيات أو الزركشات أو الوقفات التي يحب مُستَمنو الإنشاء تسميتها “خواطر” أو “تأملات”. لغة جورج بسيطة لكنها غنية بالمفاتيح السردية والدرامية، وهذه لغة صعبة الكتابة أكثر بمئات المرات من الحشو البلاغي واللغوي المُرهِق والمُرهَق. جورج يكتب عن الحياة بكلّ المتانة التي في السهل الممتنع.



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. إلى الأمام باتجاه نشر ثقافة وأدب “الحيوانات المنوية والحلمات”

    مسكين يا شعبي

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>