شمس أكتوبر تغدر بي/ غرام ياسين

شمس أكتوبر تغدر بي/ غرام ياسين

لم أكن أعلم عندها سبب دهشتها، فتحت عيناها وأرادت أن تعانقني على الأرجح، إلا أن البيروقراطية الألمانية في العلاقات الاجتماعية قد ردعتها. عرفت مع الوقت أن كثير من الناس هنا يَرَوْن الفلسطينيّين “كوول”.

partly-sunny-linda-peck-athens

| غرام ياسين |

فقدت قدرتي على تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة، أكره التعريف وقواعد اللغة والفواصل التي لم استعملها طالما أتحدث بسرعة وبدون “ما أشحط بريك”. هو نفسه الهواء البارد الذي كان يصفعني حين تفاءلت بأن الشمس تسيطر كليًا على ما تبقى من غيوم جزئية وخرجت بجاكيت جلديّ خفيف..

هي شمس أكتوبر تغدر بي.

********

المحطة   

كان على المحطة لافتة كُتب عليها: “اتجاه ميونخ”. أدركت حينها أن غرفتي التي اتقاسمها مع فتاة لا أعرفها في بيت كبير يقع في ضواحي ميونيخ، وليس في “المدينة” كما تصوّرت حين وصلتها. كان البيت في الماضي مشفى للمختلين عقليًا، وقرر مالكه أن يغلقه ويعرض غرفه الكثيرة المربوصة بثلاث طوابق للإيجار، بكل طابق 12 غرفة وحمامًا مشتركًا، كان شكل البيت من الخارج أنيق، لكن من الداخل خالٍ من كل شيء إلا من صوت الكلب في حديقة أحد الجيران الذي كان يركض لوحده في حديقة العشب فيها غير متناسق، ويحدها سياجًا من أسلاك رقيقة على شكل مربعات، كان يشبه سياج المدرسة الذي كنت أتفاخر بين أبناء الحيّ بأني من هدمه وبفضلي يدخلون بسهولة إلى ساحة الألعاب.

أردتُ شراء بطاقة للقطار المتوجه لمركز البلد، لا أجيد الألمانية بعد، أحاول لمس شاشة الماكينة لأرى أي علم لدولة استعمرتنا وأعطتنا الفضل لنتعلم لغتها لكي نستطيع شراء تذاكر القطار حين نغادر بلدنا. اقتربت مني سيدة أربعينية وعرضت بكل لطف مساعدتي:

-من أين حضرتك؟

-من فلسطين.

لم أكن أعلم عندها سبب دهشتها، فتحت عيناها وأرادت أن تعانقني على الأرجح، إلا أن البيروقراطية الألمانية في العلاقات الاجتماعية قد ردعتها. عرفت مع الوقت أن كثير من الناس هنا يَرَوْن الفلسطينيّين “كوول”. أضحك كلما رددها أحد امامي وأضحك في داخلي أكثر حين أبدأ بجرّ الحديث عن تاريخنا المشترك بخباثة.

********

موسيقى ليوم الموسيقى

لم أستغرق وقتًا لأن ألاحظ أن السائقين يستعملون “زمور السيارة” عند الحاجة الضرورية فقط.. كم فاتهم من لغة “الزمامير” التي تصدح في شوارعنا طوال اليوم، هو الصوت ذاته قد يعني “مرحبا، أهلًا، شو أبو البلد، يلااااا، مفكر الشارع لأبوك؟، حرك **** يازلمة”. ما عليك إلا أن تميز بين عدد “الزمامير” المنطلقة “وحدة بقفا التانية” ومدة إزعاجها.. شطبنا عليهن فش عندهن أكشن بالشارع، ومع انعدام الأكشن تنعدم “الدوديم” في الشوارع.. “إسا كيف بدّي أعرف الغناني يلي طالعة موضتها؟ يوتيوب أجمد اختراع!”، ومن هنا دخلت إلى عالم موسيقى عربية بديلة تجعلني أمتن للزمن الذي أعيشه، يعطيني الشعور بأن أحفادي، في حال أصبح لي أحفادًا، سيحسدوننا على معاصرتي لفرقة موسيقية معينة، وحين أعود لزيارة البلد في الصيف، أرمي ما لدي من أغاني لأصدقائي بثقة أنهم لم يسمعوها من قبل. انتهت مرحلة أن يطلبوا حين يركبوا سيارتي: “حطيلنا إشي بيطرب ملناش خلاق لموسيقتك!”، كانت هذه الجملة بعد أغنية “فساتين” لفرقة “مشروع ليلى”، وبعد سنة، وحين عدت لزيارة صيفية، علمت أن هم ذاتهم قد حضروا حفل “مشروع ليلى” في عمان قبلي.

كيف يعني؟

أكثر سؤال كنت أطرحه على أصدقائي اللبنانيين والسوريين لكي يكرروا ماذا قالوا وأسمع لهجاتهم التي كانت شيئًا غريبًا بالنسبة لي، تمامًا كأرض الجنوب التي تقبع خلف شريط الحدود وأتساءل إذا كانت نفس التراب الذي أقف عليه الآن هو ذاته موجود هناك؟ كنت أراقب بساتين الكرز وأصوات أهل الجولان من خلفي بلهجتهم السورية وأتخيل أني بزيارة لسوريا وليست للجولان المحتل وأن الويك إند الجاي ببيروت..

” -غرام يلا بدنا نلحق الكياكيم..”

-        ** إم الاحتلال

**********

ليش كبرتوا بسرعة!؟

” شو هاد وينتا كبرتي؟”، هي أكثر الأسئلة المتداولة في المناسبات والأعياد، يفصمك بها الأقارب الذين تلتقين بهم فقط حينها.. لم أتوقع أن أطرح هذا السؤال الغبي ذاته بداخلي حين ذهلت بأن ابن خالتي “اللي قد فخدتي، صار بفصّل تلاتة ونص مني”، أختي التي تصغرني بأحد عشر عامًا انتسبت فزيولوجيًا لنادي الدورة الشهرية وأخي بدأ أخيرًا تنبت ذقنه لطالما كان يحلقها سرًا لكي تنمو بغرازة خوفًا لأن تبقى ملامح وجنتيه الناعمة الطفولية ملازمة له.. وتروح عليه، هناك خطوط جديدة مرت على وجه جدتي وجدي يزداد عمرًا والشيب زاد برأس أبي، وأمي أنهت لقبها بالجامعة وأشجّعها الآن لخوض مغامرة اللقب الثاني بشعاري الفتاك “اكسري الروتين وتكونيش من النسوان اللي بتخلص حياتها بس يكبروا ولادها”. صراحة، كان الشّعار ذو فعالية كبيرة، كنت أخشى عليها من هذا فعلًا وبنفس الوقت من أن تمضي وقتها بالقلق المبالغ فيه عليّ. أما خالتي التي تصغرني، احتفلت أول أيام العيد بخطوبتها، وسوزان مازالت جميلة، أنيقة وتردد تقريبًا في كل محادثة، كما ياسمين: “يما نفسي إسا أكون عندك”. الأهم من ذلك كله، أن أولادهن، الذين تركتهم يردون على مداعبة الآخرين بمكاغاة وشيء من اللعاب، لم ينسوني، بل يندفعوا ليعانقوني بعد صدمتهم للوهلة الأولى من كيف خرجت من شاشة الحاسوب ومحادثات السكايب وذهبتُ لزيارتهم ببثّ حي ومباشر؟ أتوقع أنهم يفكرون أن بإمكان البوكيمون أن يخرج من الشاشة أيضًا. ولعلي أعود بصحبة أحدهم في المرة القادمة.

بعد حتلنة كل هذه التفاصيل الجديدة لي برأسي وتذكير نفسي بالأشخاص الذين رحلوا لكي لا أسأل بشكل عفوي أحد أفراد عائلة الفقيد و”افتح المواجع”، آخذ نفسًا عميقًا ويبقى رجائي أن أعود في الزيارة القادمة لأراهم جميعًا. أخاف دائمًا أن تكون هذه آخر مرة. مشكلتي أننا لا نعلم آخر اللحظات أو بالأصح استغل عقدة “آخر مرة” لأخبئ خوفي من حقيقة رحيل أحدهم.

 أنا أضعف من أن أعيشه..

********

وإيانا .. مِنّزُق

انتهيت من أكثر المراحل رعبًا في حياة طلاب الطب في ألمانيا، “آلو، يمّا؟ باركيلي نجحت بالفيزيكوم، خَلَّص خِلِّص”، بح راح أخو الشلن!، بعد أن وصلت عدوى الضغط النفسي لجدتي التي كانت تسألني” وينتا الفيزيكون يا ستي؟” ، ارتاحوا جميعهم، أنا بالكلينيك يا عالم!

وأصبحت أُخرج كل قوائم “to do list” المؤجلة لبعد أن أنهي تعريصة الفيزيكوم:

“سفر، شغل وأجمع مصاري عشان أروح عَ دولة فقيرة مدة شهر، دكتور أربايت (بحث كي أنال اللقب)، أرجع أشوف أصحابي أكتر، أرجع أقرأ كتب، أفلام جديدة، موسيقى، اتعلَّم إشي خصو بالفن، أتقوى بالإنجليزي..”. رجعت أحمل بطيختين وشمامة بنفس الوقت، لا زلت أحافظ على صداقاتي بالبلاد وأسمع أخبار البلد التي تخص ناس لا أعرفهم وأتفاعل مع صديقاتي حين تحدثاني عن آخر خبر، لا يهمني الموضوع الذي يكون غالبًا مرفقًا بصور يرسلونها بمحادثات الـ “واتس آب”، بقدر الطريقة التي يسردن بها.. أحب الشخصيات التي أعرفها بكثرة اختلافها عني، وعند الحديث بموضوع جدّي يكشف عن هذا الاختلاف بالرأي الذي لم ولن يفسد للود قضية.

*********

صح العيد بالبلد فرد خرز وحصان وعجقة سير، بس حلو

هذا تلخيص العيد الذي قضيته في “براكتيكوم” بإحدى مراكز الأشعة:

“بحب كل هاي الناس، بس بغدرش أكون كل يوم بينهن، بدّي مساحتي، بنتمي لبلدي وبحب أني منو بس إضا بعيش فيو رح يخنقني، بدّي أعطي ويتقدم مجتمعنا عشان هيك لازم أتقدم وأكبر برا وأرجع أقدملو بس أكون قوية، حلو بلدي من بعيد لازم احافظ عَ هاي المسافة اللي أبعد وأرجع مشتاقة أقضي فترة أراقب وأستمتع بكل التفاصيل اليومية وأرجع أتركها قبل ما تخنقني..أحلامي عّم تكبر معي، خليني أحققها بالطريقة اللي بحب، بعدني كيف أنا متغيرتش بس أنضج من قبل خمس سنين”.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. اسلوب حلو كثير وقريب من القارئ ولا سيما اذا كان القارئ معايش لنفس المراحلعَجَّبتي

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>