“لا أحد يهتمّ بالموتى”؛ الغوريلاّ: رواية شريرة بعمق إنسانيّ/ ريم غنايم

.  “أفضّل أن أرى الناس يشكّون في الحقيقة على أن أ […]

“لا أحد يهتمّ بالموتى”؛ الغوريلاّ: رواية شريرة بعمق إنسانيّ/ ريم غنايم

غلاف الرواية- دار الساقي

“أفضّل أن أرى الناس يشكّون في الحقيقة على أن أراهم يقبلون بالباطل” (فرانك كلارك، كاتب أمريكي)

 .

|ريم غنايم|

ماذا سيحدث لو دسّ أحدهم إصبعه في فم الرّواية؟ وماذا إذا كان هذا الإصبع حارًا؟ هذا ما يحدث في رواية الغوريلا للكاتب التونسيّ كمال الرياحي والصادرة مؤخّرًا (2011) عن دار السّاقي. رواية أقلّ ما يقال عنها إنّها تُلهب رؤوس كلّ القضايا المهمّشة والمتآمر عليها: جهل النسب وتبعاته، العنصريّة وإسقاطاتها، معنى الهوية بتشكلاتها المختلفة، انتماءات الفرد الجنسيّة والعرقيّة والوطنيّة. نعي الفضيلة والتوغّل في العمق الإنسانيّ لقضايا تبدو للوهلة الأولى تونسية محليّة وما تلبث أن تتحوّل إلى عربيّة فَكَونية، ودخول القارئ في حالة من الشكّ بحقيقة الأحداث إلى حدّ الاعتراض على كميّات سمّ الواقع المدسوسة في الرّواية إلى حدّ الغثيان. هذه هي النقاط الرئيسيّة التي يدسّ الكاتب إصبعه الحارّ فيها مثيرًا قضيّة أطفال بورقيبة أو اللقاطة في تونس في “الكتاب السريّ لطفل بورقيبة الأخير” والذي من خلاله يحاول الكاتب أن يربط بين أحداث وأسماء وشخصيّات خياليّة إلى درجة الواقع أو لنقل أحداثا واقعيّة لا يمكن احتمال واقعيّتها فتأخذ منحى سينمائيًا وبُعدًا فلسفيًا وشعريًا على مستوى اللغة وعلى مستوى الحكايات الصغيرة التي تتسارع في فصول، وتتباطأ في فصول أخرى وفقًا لمزاج الراوي الذي يروي كل فصل على حدة ووفقًا للأبطال المجرمين المشاركين في صنع الأحداث، ووفقًا للحركة السينمائيّة المدهشة داخل الرواية.

رواية تحكي حكاية أبطال عديدين. أولهم الغوريلا أو صالح الملقّب بالغوريلا الذي نجده معلّقًا فوق برج لساعة العملاقة في العاصمة ويهدّد بالانتحار. بطل من ماء أو من نار أو من لا شيء معلّق في الهواء يحاول أن يثأر لذاته المكلومة كردّ فعل على لقاطته وعلى تهميشه وعلى مواجهته أسوأ الاحتمالات في واقعٍ لا يرحم السّود. تختلط حكايته بحكاية أبطال أو مجرمين مهمّشين ومقموعين وضحايا كالجط القاتل الصغير وشاكيرا المثلي وبوخا وهبلة وسردوك وحبيبة وعلي كلاب وغيرهم. بعضهم يطارد بعضهم وبعضهم يتعاطف مع الآخر: وجهان لعملة واحدة في بلاد يحكمها الطغاة والمستبدون والمجرمون. يلتقي هؤلاء خطفًا في معسكر لتدريبهم على تنفيذ عمليات ارهابيّة- يشاركون أو لا يشاركون فيها لينتهي المشهد الأخير بحرق جثة الغوريلا واندلاع ثورة تونس وانتفاضة شعب كامل.

الغوريلا هو البطل الذي يجسّد حالة اللابطل أو الخصاء الجماعيّ الذي يتحوّل إلى ثورة جماعيّة تعمّ تونس في نهاية الرواية مع موت اللقيط/الرمز/المخطوف/البوعزيزي/ الراوي/الطفل/العبد/سيّد الثورة. وتطفو على السّطح حكايات داخل حكايات مرتكزها في الأساس الانتقام من الأفكار الجاهزة التي يصدّرها الواقع في مجتمع يعتمد أساسًا على تبنّي الأفكار الجاهزة.

كمال الرياحي

يعلن الراوي حالة “عصيان” البطل صالح أو الملقّب بالغوريلا بصعوده الساعة العملاقة (برج ساعة 7 نوفمبر- كما يشير الكاتب- هو رمز للانقلاب الذي قام به الجنرال زين العابدين بن علي على الرئيس الحبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر 1987 وكان ينتصب مكان الساعة تمثال للزعيم الحبيب بورقيبة)، ممّا يعني أن الرّواية تفتتح أساسًا برمز العصيان والتمرّد وتنتهي بشكل دائريّ عند السّاعة واحتراق جثة الغوريلا. وما بين البداية والنهاية تلتهب عوالم وقضايا أخرى تتصالب وتتقاطع مع  التاريخ والعبث والسينما والجريمة وحكايات هامشيّة متروكة لا أحد يجرؤ على أن يطأ أرضها. شخوصٌ مهمّشة، أحداث عبثيّة، واقعٌ أغرب من الخيال، وأبطال لا أبطال. يخرج كمال الرّياحي هذه المرة- بعد رواية المشرط- عن إطار معالجة الواقع: زناة ومجرمون وبؤساء يتحوّلون إلى طغاة فجأةً في جوّ كابوسيّ على طريقة الرواية القوطيّة، ويسيطرون بدهاء وشجاعة على أحداث الرواية المركزيّة: صالح الغوريلاّ (المجرم الذي يتحول الى بطل قوميّ)- الجطّ- علي كلاب- شاكيرا-حبيبة-بوخا-هبله-كرطوشة، جميعهم مجرمون صغار يتحوّلون إلى أبطال. هذه استراتيجيّة شهدناها بخفّة في الرواية التجريبيّة الأولى والتي تحمل عنوان “المشرط“: من سيرة خديجة وأحزانها” حيث يوجز الكاتب غايته من الكتابة قائلاً:

“هدفي من كتابتي دائما كان إعلاء شأن المتروك والمنسي، أو كما قال الكاتب البرتغالي خوزيه ساراماغو” عدم التخلي عن الناس الذين جاؤوا إلى العالم في الظلام”، النساء والمهمشين والشطار والنشالين والمجرمين الصغار والخارجين عن القانون والخارجين عن إطار اللوحة السعيدة. كنت ضد الأدب السعيد، أدب السياحة الثقافية والورود والبساتين، وأنا أكتب للمعتوهين والمجانين وأتحدث على ألسنتهم وأعطي لكل منهم صوتا في روايتي”.

ومن خلال حكاية الغوريلا، هذه الشخصيّة الإشكاليّة والمركبة والبسيطة في ذات الوقت، يعرض الكاتب واقعًا فوضويًا وشريرًا- و”ليس من شرّ أكبر من الفوضى” كما يقول المسرحيّ الإغريقيّ سوفوكليس. فالشخصيّات ترتبط بطريقة غريبة من خلال مسرحة الحدث المركزي- ركوب البطل الساعة العملاقة وتسارع الأحداث من خلال رواية الشخصيّات الأخرى ووجهة نظرها في هذا اللقيط الزنجيّ المثقّف- المجرم الصغير- المهمّش- والإنسانيّ إلى درجة الحزن. وما يزيد من مفارقة الموقف انشطاريّة شخصيّته الظاهر في ازدواجيّة اسمه (صالح-الغوريلا). إذ نراه منذ البداية هاربًا من جريمة إطلاق الرصاص على قبر بورقيبة، “الأب المزعوم”، كردّ فعل انتقاميّ على لقاطته وعلى إشكاليّة هذه اللقاطة- فهو العبد الزنجيّ مجهول النسب وهو ابن السيّد والزعيم:

إحساس فظيع بالفخر والهوان معا في اللحظة ذاتها يتصارعان داخله مثل ثورين هائجين وهو يقلّب هويّته على جنبيها مثل قطعة نقدية غريبة، وجه يقول إنه سليل أهم رجل في البلاد فترفعه الفكرة إلى أعلى الجدار ليطلّ من خلف صاحب الصورة على القصور والحدائق والزرابي واللحوم والثمار، ووجه يقول إنه مجهول النّسب وإنه ليس ابنا حتّى لجرذ أو حمار فيسقط من جديد في التّبن ويغرقه الزيت والسردين والعار. يذوب في ابتسامة بيضاء كجمجمة لرجل لم يسمع عنه. فليس سوى طفل من أطفال بورقيبة الكثر”.

ونراه انسانيًا عميقًا يدافع عن المظلومين وينتقم من الأعداء والأشرار ويقع في الحب ويحارب الرذيلة ويركن إلى ضعفه الإنسانيّ والعاطفيّ. ضعف يؤدي إلى اختطافه على يد عصابة من الإسلاميين لتدريبه مع فرقة صغيرة على عمليات إرهابيّة تنتهي بإعلان العصيان واالانقلاب الذي يكشف لنا الراوي أخيرا أنه لا يمت لصلة بالإرهابيين وإنّما بعمليّة الإطاحة بحكم بن علي:

يومها اكتشفنا بالصدفة أننا رهائن عند هذه العصابة وأن عائلة الحاكمة تموّلها بالسلاح لتستعملها وقت الحاجة وكشف أحد الملتحين ألا علاقة لهم بالإسلاميين وأنهم يسعون للإطاحة ببن علي سنة 2013 وأن هذه جيوش الرئيسة المقبلة. وقد أوهموا المختطفين أنهم في قبضة الإسلاميين حتى إذا كشف أمرهم أو فر أحدهم لم يكشف سرهم. كانت الخطة مدبّرة جيدا حيث كان مصير بورﭬيبة ينتظر الرئيس بن علي ولكن الانقلاب هذه المرة سيكون على يد زوجته”.

يحاول الكاتب الدخول إلى “المناطق الحرام” مستفزًا القارىء “المدلّل” الذي ينتظر افتتاحية معتدلة وشخصيّات برجوازية تتوازن مع العقل البرجوازي المعتدل في كلّ شيء للرواية التي تنتجها الساحة الأدبيّة اليوم. لكنّه لا يجد شيئًا مما ينتظره. لا يجد إلا تكسير كؤوس الزجاج في ساحة بيته الوديعة. لغةٌ تطاحن نفسها وسط الأحداث. ويمكن القول إنّ اللغة في هذه الرواية تكاد تكون بطلاً مطلقًا وذلك لقدرتها على التشكّل والتأقلم مع كلّ فصل ومع كلّ شخصيّة. فالغوريلاّ يستخدم لغة الهروب والخوف واليتم والعبث:

رحلة فراري من مدينة قبر المعلّم كانت أوّل عهدي بالخوف. كنت أنبطح على بطني كلما سمعت سيّارة شرطة أو طائرة أو بوما أو هدهدا زاهدا في شجرة خروب ميّتة. ركضتُ وركضتْ معي الأفاعي والفئران والسحالي والعقارب. الكل يشاركني هروبي”.

فيما علي كلاب، صائد الكلاب الذي تحوّل إلى الخدمة في الشرطة والذي تربطه علاقة حقد وانتقام مع الغوريلا يستخدم لغة العربدة والإجرام والقوّة والبطش:

“لا أحد يقسم هنا». صفعة ثانية هزّت وجه الحارس ورسمت خيطا قانيا جديدا على الجدار. أرى في عينيك كذبا. أنت تخفي الكثير أيها الوسخ. لا مزاح هنا. علّقوه… هكذا أمر علي كلاب رجاله فرُفع الحارس في الهواء وعلّق من بدلته في مجذب مروّع بأعلى الحائط. تقدّم منه علي كلاب. مسح على  ركبيته بلطف، أنت مجرّد شاهد. حدّثني عن كل شيء. كل نفس كان يخرج منه. كل همسة. تذكّر ولا تخف. ليس هناك إلى الآن ما يخيف. نحن في الجنة” وفجأة  قبض  علي كلاب بعنف على خصيتي الحارس المعلّق في السماء: « مِشْ باش تِتْكَلِّمْ يا وِلْد القحْبه وِإلاّ نَفْقصْهُمْلِكْ ونورّيلك جهنّم”.

  أما شاكيرا فيستخدم لغة تميل أكثر إلى الغنج والتي تبعث نوعًا من الفكاهة أو الفسحة الكوميدية “comic relief” للتخفيف من حدّة وبطش اللغة والأحداث في الرواية. وفي أحيان كثيرة تصير اللغة مجازًا كبيرًا لعمليّة وصف دقيقة قبيل الدخول في التفاصيل العميقة:

“السماء الفسيحة مثل صدر أرملة عجوز. قشرة سميكة من الجلد الميت. النجوم كانت تأكل نفسها والقمر جثة مشنوقة في الظلام وأشجار الطريق غانيات في ماخور ضيق يصطدن التائهين. وحده كان يتدلّى في يتمه لا يشبه أحدا غير جرو عارٍ منسيّا على الإسفلت. تُنبتُ جمجمته غربانا تطير لتأكل الأسماء وتبتلع العوالم”.

والمتتبّع للكتابة الروائيّة عند الرّوائيّ التونسيّ كمال الرّياحي وحواراته يلاحظُ استناد الكاتب الشديد لفكرتين رئيسيّتين. الفكرة الأولى هي خلق مناخ روائيّ جديد أبطاله من المهمّشين والضحايا والمجرمين “الصّغار” والخروج بذلك عن خطيّة الرواية العربيّة عمومًا والتي تغرق كثيرًا في إغراق الواقع برومانسية متكلفة إلى حدّ أسطرته وحذف سمة الواقعيّة عنه، وهو بذلك يمركز الشّاذ ويهمّش المركز أو ما يسميه “الأدب السعيد”، بخفّة ساحبًا البساط من تحته- وهو بذلك يكشف عن قدرته وخبرته بإعادة إنتاج مشهد الرواية التونسيّة والعربيّة الجديدة من خلال الخروج على سمات الأدب المألوف. فشخصيّاته واقعيّة إلى حدّ خروجها عن المعقول المرئيّ وولوجها في غيبوبة ما بين الخيال والواقع. المكان والزمان والأحداث تبدو واقعيّة فيما اللغة وسمات الشخصيّات قادمة من عالم آخر تعشش فيه روائح السحالي والكلاب والخنازير والعراء الذي لا يسكنه البشر. وتتّحد الصورتان معًا بشكل غريب عجيب ومن خلال مجهود كبير من قبل المؤلّف من خلال لُحمة اللغة والعدسة السينمائيّة التي يتمتّع بها.

الفكرة الثانية هي الدّفع بهؤلاء المهمّشين الممثّلين لعُمق الواقع باتّجاه مسرحة هذا الواقع لا أسطرته. فكرتان رئيسيتان تنجمان وتتفرعان مما قيل أعلاه، هما العبثية والتمرد. “أتمرّد إذن أنا موجود.” قوّة السلطة وتمرّد المهمّشين والملعونين والقانطين وحريّة الهاربين من قمع الجماعة كلّها تنتج سمات العبث والتمرّد. وهذا الشعور لا يفارقنا أبدًا حتّى وهو يروي لحظات حميميّة في الرواية. الشعور بالوحدة والقمع يولّدان الاحساس بالعبث والرغبة في التمرد. واللغة تفعل فعلها في هذا الجانب. وهذا ما نراه في المشهد التالي من فصل “بيت من جثث”:

“كلما خفّ جيبه يتذكّر تلك السنوات. البارحة وهو يرمي بجثته على السرير الحديدي اختلطت أنّات عظامه بأنّات السرير المسنّ. لاحظ أن كل شيء في غرفته أصابه الوهن، مذياعه بجانب رأسه مشدود بمطاطة يجهش بأصوات أجشّة ووسادته فُتح جانبها فخرج صوفها مثل بطن بقرة مبقورة. حذاؤه هناك بعيدا في الركن فقد لونه البنّي وبدأ يميل إلى شيء رمادي تستلقي عليه جوارب شاحبة فقدت أقدامها وتمزّقت أطرافها. الساعة الحائطية قُتلت في السابعة والنصف! لا يدري متى حدثت تلك الجريمة، صحيح أنه اشتمّ منذ مدّة تلك الرائحة الغريبة في غرفته لكنّه لم ينتبه إلى جثّة الساعة على الحائط، كان يحسب ألاّ جثّة غيره في ذلك البيت. العنكبوت الذي كان يزيّن زاوية من السقف انتحر هو الآخر وسقط في الشباك التي نسجها. قوارير العطر الرخيص والخمر الرخيص والشامبو الرخيص. هناك في الزاوية اليسرى. قوارير ميّتة لأمس رخيص. على المشجب تدلّت رابطات العنق الرخيصة كالمشانق، ابتاعها منذ زمن، ربطها وعلّقها، لم يضع واحدة حول رقبته”.

أكثر ما يشدّ في هذه الرواية هو قدرتها على احتواء تقنيات سينمائيّة عالية مثل فن  المونتاج أو التركيب في الرواية حيث يقوم الكاتب (وهو المخرج والمونتير وكاتب المشاهد وأحيانا المشارك في الأحداث ولا يفوته ذلك في ملحق الرواية وفي توثيقه لما حدث في ثورة تونس) باختيار وترتيب المشاهد وطولها الزمني، بحيث مستندًا إلى اللغة وإلى قدرته على رسم خيوط الأحداث الرئيسيّة في غمرة الحكايات المتسارعة والمتقاطعة. فهو ينجح في أن يسرد حكاية الغوريلا من الأمام إلى الخلف في الوقت الذي يستخدم فيه أسلوب التقطيع الذي يقطع حكاية الغوريلا ويصلها بحكايات أخرى كحكاية الجطّ، زميل الطفولة، وحبيبة وعلي كلاب وسردوك وهبلة وبوخا وحتّى شاكيرا باسمه المثير للضحك والذي يسرد هو الآخر حكاية طفولته وبداية عشقه للمثلية الجنسيّة. وهو مهندس ديكور يهتمّ بتفاصيل الغرف والضريح ومزرعة البطيخ والبيت وله القدرة على ملاءمة المناظر مع السيناريو ومع نفسيّة الشخصيّة المشاركة في الحدث. دراما متكاملة تفصلها مقاطع كوميديّة ويحشوها الكاتب أحيانا بتعليقات ساخرة أو فكاهيّة تخفّف من حدّة المشاهد كأن يقول مثلاً:

في حركة بهلوانية قفز إلى الأرض وصفع الملتحي الذي أمرنا بقتل شكيرا. قفزت إلى ذهني صورة عبد الله غيث في دور حمزة بفيلم الرسالة وهو يصفع أبا جهل .انتظر أن يتواصل المشهد « ردها عليّ إن استطعت!». لكن منقذ شاكيرا قال بصوت أجش «كيف تجرؤ على هذا؟»« لقد ضبطته يحلق صدره!”

أو عند وفاة والدة الغوريلا يوم مجيء مايكل جاكسون إلى تونس- يقول الغوريلا:

«لم تجدي يوما آخر تموتين فيه إلا يوم حفل مايكل جاكسون يا أمي؟».

هذه أمثلة بسيطة من أمثلة كثيرة تعجّ بها الرواية. مشاهد العبث فيها تؤسطر الحدث عنوةً ومعسكر التدريب في الرواية-حيث تلتقي هذه الشخصيات المهمّشة لتتدرب على القتل وتقتاد دون علمٍ بما ستقوم به ولأيّ سبب أو غاية، يتحوّل في النهاية إلى حدث رئيسيّ- ربّما كان بشيء من المبالغة في تسارع الأحداث وفي إقفال الرواية وكأنّ الراوي يحاول الخروج إلى الشارع ليشارك في أحداث الثورة التي تبدأ مع إنزال جثة الغوريلا وخروج المتظاهرين الى الشوارع لإسقاط الدكتاتور: تحت برج الساعة تماما ظهر الغوريلا محترقاً. جثة متفحّمة في بركة من الدماء الخاثرة. تحمله مجموعة  المتظاهرين على أكتافها وتتشكّل مظاهرة صاخبة تتجه نحو وزارة الداخلية بينما يستولي أحد المتظاهرين على عربة الحماية المدنية يرفع سلمها نحو رأس الساعة. يتسلقها متظاهر آخر يرمي بحبل حول رأس الساعة وينزل تتحرك الشاحنة لتسقط رأس الساعة القبيحة. تتطاير عقاربها في كل مكان محدثة هلعا بين المتظاهرين. الرصاص يحصد المتظاهرين الذين تسلقوا السلم بسرعة. المظاهرة التي توقفت أمام وزارة الداخلية أصبحت بالآلاف فقد التحق بنا الناس من كل مكان وانطلق التصفير والصرخات المنادية بسقوط النظام. فجأة هكذا ودون مقدمات كأن تلك الجماهير تنتظر سقوط الغوريلا لتعلن القيامة. التحقت فرق التدخل السريع المدججة في السلاح بأعوان الأمن الذين يحرسون مدخل وزارة الداخلية. بدأت الأناشيد تتوحّد منادية بإسقاط الرئيس الدكتاتور. لم نعد نسمع سوى نغم واحديردّد بالفرنسية:

Degage Degage Degage Degage Degage Degage Degage Degage

ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج ديڤاج

جاءت قراءتي لهذه الرواية بعد قراءة رواية “المشرط” التي عالجت قضايا الهامش والحرية والقمع والجماعة والفرد والفساد والجهل بطريقة الكولاج الفنّي الذي تختلط فيه السخرية بالجريمة والسينما والفكاهة والتراجيديا. هكذا يكتب كمال الرياحي فصولاً في تاريخ بلاده المعاصر- التاريخ الاجتماعيّ والإنسانيّ. ورواية الغوريلا جاءت لتكمل جزءًا من هذه السيرة التي يختلط فيها التاريخ بالذات وبالمجتمع وبالكشف عن كلّ ما هو مدثّر ومخبّأ في جواريرنا جميعًا بكلّ قسوة. قضايا الجنس والعنصريّة والتخلّف وقمع المهمّشين واتهام الضحيّة والنكوص الجماعيّ والجريمة والإرهاب الديني والتطرف الفكري- كلها قضايا تنجح الرواية في فضحها علنًا ودون خجل. نعم- “لا أحد يهتمّ بالموتى” يقول بوخا إحدى شخصيّات الرواية، فيما الكاتب يطرق أبواب الموتى ويبعثهم أحياء من خلال لوحة فسيفساء زخمة وفوضويّة وشريرة وقاسية ودميمة حدّ الجمال. عوالم تنهال في فضاء الرواء، محشوّة بواقعيّة مجرمة وشريرة إلى حدّ يبعث على التأمّل في الدّوائر الإنسانيّة المتهافتة في الطريق إلى الخلاص.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>