الأعمال الخيرية للمشاهير: خطاب الهيمنة الأيديولوجيّ/ هشام روحانا

أدّت هذه التصرّفات بأحد الصحفيين لنعتها بـ “كولونيالية المشاهير. وبغضّ النظر عمّا إذا كان هذا الاصطلاح ملائما لهذه الحادثة بالتحديد أم لا، فإن كثراً من العاملين في مجال الدراسات الما بعد كولونيالية تلقفوه لوصف مجمل العلاقة الناشئة بين المشاهير والعالم المُسمّى ثالثا

الأعمال الخيرية للمشاهير: خطاب الهيمنة الأيديولوجيّ/ هشام روحانا

أنجيلينا جولي في أحد مخيمات اللاجئين

“إن إستراتيجية وضع السلطة (الإنتداب البريطاني في الهند) لنصوص من الأدب الأنجليزي (في برامج التعليم في الهند) لم تفعل سوى أن محت التاريخ القذر للاستباحة الكولونيالية للممتلكات والاستغلال المادي والقهر العرقي والطبقي وراء السيادة العالمية الأوروبية… عَمِل النص الأدبي الإنجليزي بوصفه رجلاً [جُندياً] إنجليزياً بديلا في أرقى وأكمل حالاته” (جورى فيسوناثان)

 >

|هشام روحانا|

بعيداً عن الدوافع الشخصية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدفع مشاهير العالم للقيام بالأعمال الخيرية، كثرت في الآونة الأخيرة الدراسات النقدية التي تسلط الضوء على هذه الظاهرة المتزايدة  لتغدو حقلاً غنياً للدراسات الما بعد كولونيالية. وفي كتاب نشر حديثًا(*) يدَّعي المؤلف أنّ أعمال الإحسان الخيرية للمشاهير بعيدة عن أن تكون منزهة وغيرية (Altruistic) بل إنها ملوثة وذات طابع أيديولوجيّ مُحدّد، ممّا يجعلها جزءاً من خطاب “التطوّر” الذي تُشهِره دول الاستعمار القديم في وجه مجتمعات الدّول النامية.

يُشير الخطاب هنا إلى منظومة المقولات التي يُدرَك العالم من خلالها (فوكو)، وهو منظومة تُمكن الجماعات المهيمنة في المجتمع من تَشكيل مجال الحقيقة من خلال فرض معارف مُحددة على الجماعات الخاضعة، وهو بالتالي آلية إجتماعية للتحكم والسيطرة. وكلا الخطابين، خطاب “الشهرة” وخطاب “التطوّر”، متصلان اتصالاً وثيقاً، وأوجه التشابه بينهما ظاهرة للعيان، فمصدرهما في حقيقة الأمر واحد، حيث أنّ كليهما وفي نهاية المطاف، تعبير ونتاج وحكاية ترمز للحداثة والتقدم والعقلانية والنجاح في العالم الرأسماليّ المعاصر. وتعني الحداثة في هذا السياق توجها محدداً حيال العالم، يرتكز إلى قيم اقتصاد السّوق الرأسمالي وهيمنة السلعة والديمقراطية المُقتصِرة على شكلها الليبرالي وقيم الفردانية (Individualism) منظوراً إليها على أنها خاصّيات ضرورية وملازمة لكلّ “تطوّر” و”تقدم”. ومن هذه الناحية فإن مُحتوى الشهرة الهوليويدية لا يتضمن هذه القيم فحسب، بل يقوم بترويجها وتسويقها على أنها القيم الضرورية تحديدًا، في الطريق نحو “الحضارة”.

ويساهم هذا الخطاب في خلق ما يسمى “صناعة الآخر” (Othering http://en.wikipedia.org/wiki/Other) ، والذي تُهيَّأ من خلالها الذات الكولونيالية لتغدو ذاتاً تابعة وبدائية، يقابلها الآخر الكبير (Other) الإمبريالي المتحضر والمهيمن (يُنظر أيضا، جاياترى سبيفاك). وتساهم الأعمال الخيرية للمشاهير في تأسيس الرأسمال الرمزيّ لبلدان المركز لتُضاعِف من خلاله إِحكام السّيطرة والهيمنة الما بعد كولونيولية. على أنّ هذا الرأسمال الرمزيّ يصاحبه بالضّرورة عُنف رمزيّ؛ فبحسب بورديو (Bourdieu) هنالك نوع من العُنف الناعم وغير المرئي والذي يرافق عمل الأحسان، خصوصًا لأنه يخلق حالة من عدم التوازي ما بين المُحسِن والمُحسَن إليه، وتحديداً لأنّ هذا العَطاء يشكل دَيْناً لا يمكن ردّه.

يضاف إلى هذا أنّ أفعال الإحسان هذه من شأنها أن تخلق وهماً مفاده أنها تستطيع أن تساهم في تغير الأوضاع المختلفة للمجتمعات المعنية، عدا عن أنها قد تخلق الإنطباع الزائف بأنّ شيئا ما يُقدم من أجل حلّ المشاكل المتراكمة لهذه المجتمعات. وفي المقابل فإنها تعزّز من شرعية وسلطة الثراء الفاحش وتضع مجتمعات البلدان المتخلفة تحت نوع من الوصاية الأخلاقية.

بحسب سالي ماثيوس فإنّ الانتكاسة الكبرى لمشاريع التنمية تكمن في “أنها لا تستطيع النجاح إلا إذا كانت القيم التي توجّه هذه المشاريع قيمًا مشتركة للمجتمع المعنيّ” (**). وحال مشاريع الإحسان الخيرية للمشاهير ليس بأفضل من حال المشاريع الأخرى والآتية من خارج هذه المجتمعات، مغلفة مسبقا، ودون استشارة المجتمعات المحلية. يقدم لنا مشروع أوبرا (Oprah) وينفري في أفريقيا لتخريج فتيات أفريقيات قياديات باسم الأكاديمية القيادية لونفري “Winfrey’s Leadership Academy” مثالا جيدا لوجهة النظر هذه. فبالرغم من سموّ الفكرة إلا أنّ المشروع وبحسب دراسة نقدية (***) هو إشكاليّ على أقلّ تقدير. إنّ القيم الاستهلاكية وقيم الفردية المفرطة (Individualistic) للسّيدة أوبرا تصبغ جميع نواحي الأكاديمية. وفي حين أنها تخلق الوهم بأنّ التعليم متاح للجميع إلا أنها عبر انتقائية محدّدة تقوم بتفضيل مجموعة صغيرة من الفتيات، ولتقدم لهنّ “حلولاً” فردية. زدْ على ذلك فإنّ المشروع برُمّته يقدّم استجابات خاطئة لاحتياجات مجتمع جنوب أفريقيا، عدا عن أنه يسوق للمُثل الاستهلاكية التي تخدم أوبرا ذاتها وليس تنمية المجتمع المحلّي لجنوب أفريقيا.

إنّ الأطفال والنساء واللاجئين في مجتمعات الدول النامية هي المجموعات الأكثر عرضة والأكثر هشاشة في وجه “مساهمات” المشاهير الخيرية. فتدخّل المشاهير الكثيف في المشهد والذي يرافقه بدون شك كمٌّ كبير من الأعلام، يُعرِّض هذه الفئات للعين المُشاهِدة المتلصّصة والمستطلعة. وفي معظمه فإن الإعلام المرافق يقوم بعرض المشهد والمعانة بشكل سطحي ومقولب (Stereotypic)، ممّا يعزّز الصورة الذهنية الموجودة لدى عموم المشاهد الغربي غير ذوي الاختصاص.

مادونا وعائلتها متعددة الجنسيات

ومع أنّ مسألة التبني بحدّ ذاتها مسألة شائكة ومتعددة الأوجه على المتبنى والمتبني، فإنّ المسألة أكثر تعقيدا عندما يكون المُتَبنى من العالم الثالث. ولا يكفي الإدعاء القائل بأن ظروفه الأقتصادية والحياتية القادمة ستكون أفضل بما لا يقاس، لكي تبرر إقتلاع الأطفال من وسطهم ومحيطهم الحضاريّ والبيولوجيّ. وقد يقدم لنا الفيلم “2003 Casa de los babys” (منزل الأطفال)، إضاءة معينة على موضة السّعي المحموم وراء تبني الأطفال من دول العالم الثالث والتي انتشرت في العقد الأخير في الولايات المتحدة تحديدًا، ويعزوها البعض إلى مساهمة بعض مشاهير هوليوود (على سبيل المثال، مادونا وأنجيلينا جولي) بعد إقدامهم على ذلك، ممّا زاد موجة التبني (لأطفال من العالم الثالث) أضعافا مضاعفة. إذ أنه ليس بالأمر معدوم الوزن أن تكون مشهورا من مشاهير هوليوود في هذا العصر الذي تتعدّى فيه سطوة الشهرة أسوار هوليوود العظيمة؛ فتصرّفات المشاهير تخلق خطابا ووعيا محدديْن يسوقان من قبل الإعلام وجماهير المعجبين وسوف يمس بالضرورة طبائع وتصرفات المتلقين.

لقد أثارت الضغوط التي مارسها الزوج برات بيت وأنجيلينا جولي، مع اقتراب موعد ولادة طفلتهما، على السلطات في ناميبيا (مكان الولادة) في مسعى من أجل منع الصحافة من متابعة الحدث، حفيظة كل من الصحافة العالمية والمحلية*. لقد أدّت هذه التصرّفات بأحد الصحفيين لنعتها بـ “كولونيالية المشاهير” (Celebrity Colonialism). وبغضّ النظر عمّا إذا كان هذا الاصطلاح ملائما لهذه الحادثة بالتحديد أم لا، فإن كثراً من العاملين في مجال الدراسات الما بعد كولونيالية قد تلقفوا هذا الإصطلاح الموفق لوصف مجمل العلاقة الناشئة ما بين المشاهير والعالم المُسمّى ثالثا وخصوصًا أفريقيا. وبالرغم من المستويات العديدة المتاحة للدراسة (****) والتي يفتحها مثل هذا الإصطلاح إلا أنّ واحدًا من أهمها هو وجهة النظر التي تنظر إلى أعمال المشاهير الخيرية بوصفها قاطرة تحمل قيم الثقافة والهيمنة الأخلاقية الأوروبية-أمريكية.

يساهم خطاب المشاهير الخيريّ في خلق حالة من الـ “هم” والـ “نحن”، هم الضعفاء غير القادرين والمحتاجين إلى العون ونحن الأقوياء والمسؤولون (ولو جزئياً)عن هذا الوضع، ممّا يضع مجتمعات العالم الثالث في موقع الضحية التي لا حول لها، والتي هي بحاجة إلى التطوير، ومن غيرنا (الغرب) القادر على القيام بهذه المهمة؟ ويمكن صياغة الأمر على الوجه التالي: “على ما يبدو فإنّ أفريقيا [إقرأ: العالم الثالث] بحاجة مرة أُخرى لأن تُنقذ، ولكن هذه المرة يجب إنقاذها من المشاهير” (روبرت كلارك).

>

*(للتنويه فقط، لقد بيعت حقوق نشر الصّورة الأولى للمولودة مع العائلة السعيدة بمبلغ 10 ملايين دولار).

(*)  Celebrity Humanitarianism, The Idiology of Global Charity, By Ilan  Kappor(20012).

(**)Sally Matthews, Post-Development Theory and the Question of Alternatives: A View from Africa, Third World Quarterly 25 (2004).

(***) Celebrity humanitarianism and international development an analysis of Oprah, Bono, and Angelina Jolie in Africa, By Chantal Petrie (2008).

(****) Celebrity Colonialism: Fame, Power and Representation in Colonial and Postcolonial Cultures, Edited by Robert Clarke(2009).

 

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>