شبق الشوكولاتة/ هشام روحانا

شبق الشوكولاتة/ هشام روحانا

الحظر الذي يقيمه الوالد على ابنه بعدم تناول الشكولاتة، جزء من الوظيفة الوالديّة التي على كل أبّ أن يقوم بها، أي: تلذّذ بحيث لا تتجاوز مبدأ اللذة، أي بحيث لا يسبب فائضُ اللذةِ الألمَ

2000-poster-chocolat-1

>

|هشام روحانا|

هشام روحانا

هشام روحانا

للشكولاتة إذًا، أرادتها وروحها الخاصّتان بها، متحوّلة بهما من مجرد سلعة للتبادل، إلى قيمة رمزيّة عابرة لمادّيتها المجرّدة نحو تأسيس مكانة متميّزة لها ما بين سائر البضائع؛ إنّها كالنقود: “الربّ المعبود بين البضائع” (كارل ماركس، رأس المال). ومن خلال معالجة حالة السيدة-السوقية في الطائرة (الفيلم المنتشر الآن على مواقع التواصل الاجتماعي) على علو آلاف الاقدام، والتي مُنعت من الحصول على الشكولاتة، سيتضح لنا أيضًا أنّها -أي الشكولاتة- ترمز إلى فائض التلذّذ المميز لحضور الذاتّ المعاصرة الساعية نحو تحصيل أكبر قدر من اللذة، متجاوزة قانون الحظر الذي يمنع تجاوز تحصيلها، هذا التجاوز المسبب للألم وتأنيب الضمير. لهذا فإنّ مبدأ هذه الذاتّ المُلتاعة أمام فائض البضائع والملذّات يقول: “أعطِني مزيدًا من الشكولاتة ولكن رجاءً فلتكن قليلة الدسم”. وسيتبيّن لنا لاحقا أنَّ حالة هذه السيّدة-السوقية تكشف لنا عن إشكاليّة لم يتم حلها بعد على مستوى الهُوية.

هناك العديد من الأعمال الأدبية والفنية التي تعالج موضوع الشكولاتة وعلاقاتها باللذة والجسد  وما إلى ذلك، لكنني سأعرض هنا لفيلمين حديثين نسبيًّا عالجا الموضوع- كلٌ من زاوية مختلفة. الفيلم الاول بعنوان “شوكولاتة”، وهو فيلم رومانسي أنتج

عام 2000 استنادًا إلى رواية جوان هاريس التي تحمل نفس الاسم. ويتحدّث الفيلم عن الأحداث والتغيّرات المجتمعيّة العميقة التي يثيرها حضور أمّ عزباء (جولييت بينوش) وابنتها إلى قرية فرنسيّة ريفيّة  وادعة عام 1959، وافتتاحها لدكان الشكولاتة البيتيّة في

القرية. وسرعان ما يثير الأمر قلق وخوف أسياد القرية من اتقاد اللذة من جديد بين أبناء القرية، الأمر الذي يهدّد النظام التقليدي لمجتمع القرية الهشّ. يتم اضفاء قوى سحرية للشكولاتة التي تصنعها هذه الأمّ العزباء، ما يُرغم كلَّ من تذوّق الشكولاتة على الاعتراف أمام الكاهن على كرسيّ الاعتراف. وبالفعل، سرعان ما تقوم سيدة مُعنفة جسديًّا من زوجها السكيّر بترك بيتها والانتقال للعمل في دكانة الشكولاتة. بالتوازي مع هذا، تبدأ بالعودة علاقات أُسريّة تم احباطها ما بين جدّة متقدّمة بالسنّ وحفيدها ولاحقا مع ابنتها التي كانت في نزاع معها. لن أتابع سرد احداث الفيلم،  إلا أنّه من الواضح تمامًا أنّ حضور الشكولاتة هنا هو حضور يحتوي قوة تحرّرية ثوريّة تعصف بهدوء القرية الواقعة تحت تأثير عادات وتقاليد وعلاقات مشوّهة استمدّت قوة استمرارها من انعدام حضور اللذة.

أمّا الفيلم الثاني فهو بعنوان” تشارلي ومصنع الشكولاتة” عام 2005. والفيلم هو مغامرة موسيقية من إخراج تيم بورتون وتمثيل جوني ديب في شخصيّة صاحب مصنع الشكولاتة الشاب “ويلي وانكا” وفريدي هايمور في شخصية الفتى “تشارلي”. يفوز الفتى تشارلي مع بعض الفتية بجائزة تمكّنه من قضاء بعض الوقت بصحبة مالك مصنع الشكولاتة الأسطوريّ والشاب ويلي وانكا. وخلال سير احداث الفيلم يتضح للفتى تشارلي أنّ للشاب صاحب المصنع علاقات إشكالية مع والده طبيب الأسنان والذي قام بمنعه وهو صغير من تناول الشكولاتة خوفا عليه من تسوّس الأسنان، إلا أنّ وانكا وبعد أن يتعرّف بلذّة طعم الشكولاتة يُصاب بالإدمان عليها، ليتخلّى لاحقا عن كلّ علاقة مع أسرته وينشئ مصنعه الخاصّ بالشكولاتة وينعكف فيه منعزلا عن العالم المحيط . يعرض الشاب ويلي وانكا على تشارلي أن يصبح شريكا له في المصنع بشرط أن يتخلى هذا الأخير عن أسرته ويتركها نهائيًّا. يرفض الفتى تشارلي هذا العرض مفضلا الرجوع إلى عائلته الفقيرة والعمل كماسح أحذية على أن يتركها إلى جاه يحرمه إياها. يتعجّب الشاب ويلي وانكا من عمق هذه العلاقات الأسريّة التي تربط تشارلي بأسرته، ويتعلّم لاحقا كيف يتصالح مع والده ويكسب أسرة جديدة هي أسرة تشارلي. إنّ الحظر الذي يقيمه الوالد طبيب الأسنان على ابنه الصغير دون تناول الشكولاتة هو جزء من الوظيفة الوالديّة التي على كل أبّ أن يقوم بها، أي: تلذّذ بحيث لا  تتجاوز مبدأ اللذة، أي بحيث لا يسبب فائضُ اللذةِ الألمَ، ورفض الولد  الانصياع لهذا الوظيفة هو رفض للانصياع لقانون الأب، الامر الذي يسير بويلي وانكا نحو نوع من الانعزال المرضيّ عن المجتمع والتمترس في مصنعه بعيدًا عن الناس لمدة 15 عامًا. تقوم الشكولاتة هنا بدور يمثل فائض اللّذة والذي إذا ما تم الانصياع له فإنه سيؤدّي حتمًا إلى الألم.

المنع الذي يمنع المرأة من شراء الشكولاتة على متن الشركة المفخرة للكينونة الإسرائيلية،  يُقرأ من قبلها بأنه منع تقيمه السلطة الأشكنازية عليها بوصفها شرقيّة، فتُصاب بالهلع حقًا. فما امتناع الشكولاتة دونها سوى المبضع الكاشف عن عمق الجرح القائم في هويتها هي بالذاتّ

أمّا فيلم الواقع (Reality film) والذي شاهدناه مؤخّرًا، فإنّ واقعيته تفوق كلّ خيال. إحدى سيدات-السوق المسافرات في مجموعة في الطائرة إلى مدينة فارنا ببلغاريا، تطلب من مضيف الطيران شراء الشوكولاتة، ولسبب إجرائيّ ما يرفض هذا تلبية طلبها لتلتهب على الفور حالة من الهوس الجماعيّ تصيب جميع أفراد مجموعتها، فتصرخ هي: “يا ابن الكلبة أريد الشكولاتة لن تمنعني من شرائها!”؛ وتصيح أختها: “أعطِها الشوكولاتة يا ابن الزانية، أتحسبها عربية لكي لا تعطيها الشوكولاتة؟”؛ وهكذا. وفي معظمه، تعامل الإعلام الاسرائيليّ مع الحادثة بوصفها صورة مُسيئة يقدّمها المواطنون عن إسرائيليّتهم. لكنّنا نشاهد هذه الإسرائيلية قيد الفعل اليوميّ في كلّ مرفق ومرفق وكلّ وقت وأوان.

ليس هذا ما يهمّني هنا، ولا تلك العنصريّة المنفلتة من عقالها وبأدنى درجاتها. ما شأن العرب مع مجموعة المقامرين هذه والمسافرة على متن إحدى شركات المفخرة الإسرائيليّة إل-عال؟ (إلى الأعلى إلى الأعلى!) لا يتحقق هنا وعد شركة منتجعات الهيلتون والقائل بأنّ السفر من نقطة “أ” إلى نقطة “ب” سيجعل منك شخصًا أفضل.

بيد أنّ هذه السيدة الممنوعة دون ما تحسبه حقًّا لها تثير الشفقة حقا، حين تستمع لتبريراتها: “إنني في حقيقة الأمر لست كذلك، لقد جرى تضخيم الحادثة من الإعلام..”. ولكنها أيضًا مثيرة للشفقة لأنها مُنعت دون الحصول على الشكولاتة، أي دون فائض اللذة الذي تعتقد أنها تستحقه. ولكنها لو كانت سيدة حقا لكانت استحقته دون اللجوء لتبرير عدم مصداقيّة منعها عن الشكولاتة، من خلال اللجوء إلى كونها ابنة لشعب الله المختار، وإلا فما هو شأن العربي هنا؟ إنّ هذا المنع الذي يُقام دونها وشراء الشكولاتة على متن الشركة المفخرة للكينونة الاسرائيلية  يُقرأ من قبلها على أنه منع تقيمه السلطة الأشكنازية عليها بوصفها شرقيّة، فتُصاب بالهلع حقًا. فما امتناع الشكولاتة دونها سوى المبضع الكاشف عن عمق الجرح القائم في هويتها هي بالذاتّ.

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>