يوم الأرض، أبهى ملامحنا/ هشام نفاع

يوم الأرض، أبهى ملامحنا/ هشام نفاع

يوم الأرض هو جميع التفاصيل التي تؤلف حياة كاملة. ربما ابتعد معنى يوم الأرض عن زيتونات أرض الملّ في البطوف. ربما ابتعد عن خطر المصادرة التقليدية، فلم يعد ما يصادره مجرمو السلطة الاسرائيلية. لكن آثار هذا كله انتقلت من المكان الى الذات والنفس والروح

 

من أرشيف يوم الأرض

من أرشيف يوم الأرض

.

|هشام نفاع|

hisham-qفي أواخر الثمانينيات توجهنا بسيارة الفورد الزرقاء الى عرّابة الجليل. هي سيارة العمال، سيارة صديقنا/زميلنا في كسب العيش، التي كانت تقلّنا للعمل في القطف أو التقليم في بساتين أحد كيبوتسات الشمال. 10 عمال، معظمنا أصدقاء نعمل يوميا معًا منذ الفجر في أرض كانت مرة لنا.

أقوى ما أذكره ساعات الصباح الأولى حين تمتد يدك لقطف أول تفاحة أو إجاصة، رطبة متعرّقة ببقايا الطلّ. لكن ما أن تشدها حتى يهتز غصنها والفروع الصغيرة فلا يعبق أنفك بصباح ولا بحُبيبات ماء رقيقة ولا بمطالع شمس تتدفّأ. بل تقتحم دواخلك روائح المبيدات الكيماوية.

في هذه اللحظة يبدأ التناصّ: الاغتراب الذي درسته في محاضرات التثقيف الحزبية يتجسّد أمامك، لا بل يتجسّد فيك، لا بل تتجسّده انت برئتيك وعينيك وجلدك. وفي خلفية التفكير: أنت عامل في أرض كانت مرة لأهلك، وتبيع جهدك الهشّ لقاء معاش لا يقلّ عنه هشاشة. في هذه اللحظة يبدأ تفاعل الوعي الوطني والطبقي معًا. وعي واحد متّحد.

في نقطة ما على طول وادي سلاّمة تستوقفنا نقطة تفتيش بوليسية مختلقة. يتقدّم الشرطي سائلا: الى أين؟ سائقنا، صاحبنا، يقول بعبرية معرّبة: هولخيم ليوم هأدَماه. رايحين عَيوم الأرض؟ من أين انتم؟ من بيت جن؟ صدمة. ما لهؤلاء ويوم الأرض؟ تبوح ملامح الشرطي.. دروز لا؟ نعم؟ وما دخلكم؟ يوم الأرض لكل العرب. لكنكم دروز! شو خصّ، نحن دروز وعرب.

ثقيلة هذه الاجابات كانت. يتم إنزال الجميع من السيارة. تسجيل أرقام هوياتنا. ثم تفتيش دقيق في السيارة. دقائق طويلة، وفجأة اكتشاف هام خطير! لماذا هذا السكين في السيارة؟ نحن نعمل في القطيف والسكين جزء من العدّة. هناك مقصات زراعية ومنشار و.. لكن الشرطي لا يقتنع. يصادر السكين. ونتابع طريقنا. نشارك في المسيرة وأراقب انفعال زملاء العمل وأصدقاء أماسي القرية، وأكتم فرحي.

بعد أسبوع أو أكثر يتلقى السائق أمرًا بالحضور الى شرطة عكا للتحقيق. أرافقه. سألوه عن السكين بسرعة، ثم توالت الاسئلة عن علاقته بيوم الأرض والسياسة والشيوعيين. أذكر كيف خرج ببعض الذهول. ليس خوفًا، بل استغرابًا. أكُلّ هذا بسبب مسيرة سلمية جدًا؟ مرة أخرى أكتم فرحي.

كنا بعيدين بنحو عقد ونصف العقد عن الاضراب والمأثرة والجريمة والشهداء واستعادة عرب هذه القطعة من البلاد لأنفاسهم وإعادة استحضار روحهم الجماعية الوطنية. لكن يوم الأرض يقضّ مضاجع المصابين بالغطرسة والاستعلاء ونزعة البطش والقمع في طوابق الحكم الاسرائيلية العليا. ومرة أخرى أفهم كم يخيف يوم الأرض السلطة حتى أحشاءها

كنت قرأت وسمعت كثيرًا وشاركت في مسيرات يوم الأرض منذ طفولتي. وفي كل مرة أكون في الحدث وإحياء الذكرى، حتى الآن، أشعر أنني أستعيد ملامحي الإنسانية البسيطة. أشعر بوجودي، بكرامتي، بأنني جزء من شعب حيّ. وأفرح كم يغيظ السلطة هذا، ولا أكتم فرحي. بل أكتبه.

في كل سنة أنظر متفحصًا في الشباب المليء بالطاقة. أهو أثر سحر ورنّة ووقع عبارة وعبرة يوم الأرض على هذه النفوس الجميلة الشابة؟ أم فهم مذوّت مفصّل لعمق وتشعب الأرض وقضيتها وإسقاطاتها على حياتنا كلها:

الضيق في معظم قرانا ومدننا وأحيائنا في المدن الغائبة. البيوت المتلاصقة. البناء الذي وصل آخر حدود “المخططات”. غياب المناطق الصناعية. غياب أماكن العمل. تحوّل قرانا الجميلة الى كتل اسمنتية متراصّة. غياب الساحات والميادين المفتوحة. غياب الفناء الطبيعي المشجّر الأخضر. غياب الحد ما بين الحيز الخاص والحيز العام. غياب طمأنينة الشاب والشابة في أن يجدا بسهولة وبشكل طبيعي فضاءً لبيت مستقل ككل البشر. تردّي المعمار والتحوّل الى البناء الأدائي المكتظ البشع. اغتيال عمارتنا الحجرية العتيقة المعبّأة بقرون من الحضارة. الشعور الثقيل بحالة حصار خانقة وسط امتدادات المواقع المأهولة اليهودية الشاسعة. تحوّل قرانا الى مواقع مبيت، العمل خارجها والترفيه خارجها والاستهلاك خارجها والترويح عن النفس خارجها. ضيق شديد في المكان وفي النفس.

يوم الأرض هو هذا كله. جميع هذه التفاصيل التي تؤلف حياة كاملة. ربما ابتعد معنى يوم الأرض عن زيتونات أرض الملّ في البطوف. ربما ابتعد عن خطر المصادرة التقليدية، فلم يعد ما يصادره مجرمو السلطة الاسرائيلية. لكن آثار هذا كله انتقلت من المكان الى الذات والنفس والروح.

على مقاس هذه الآثار المؤلمة يجب تفصيل ملفات قضية يوم الأرض. وفقًا لها يجب هندسة مطالب الحقوق والنضالات. كي تكون المسيرة السنوية تتويجًا وليس تقليدًا. ليس شعارًا. ليس ساحة احترابات فئوية. كي لا ننشغل بألوان الأعلام. بل بلون حياتنا المنشود وسطوع حقنا وعيشنا الكريم في وطننا الباقي فينا ونحن فيه، رغم ضياع معظم أرضه.

(عن “الاتحاد”)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>