قراءة نفس-تحليلية، لاكانية في “تحت شمس الضحى” لابراهيم نصرالله/ هشام روحانا

لذكرى من بكّر في رحيله عنا، الرفيق د. جبور خوري والذي عرفني على أعمال إبراهيم نصرالله

قراءة نفس-تحليلية، لاكانية في “تحت شمس الضحى” لابراهيم نصرالله/ هشام روحانا

shams

>

|هشام روحانا|hisham-rohana-qadita

“وقالت (وردة): أريدك ان توقع لي، ولكن ليس باسمك أنت “سليم نصري”، بل باسم الشخصية التي تؤديها “ياسين الأسمر”.” (“تحت شمس الضحى”، ص. 155، ط. 2009)

“تحت شمس الضحى” هي واحدة من سلسلة روايات إبراهيم نصرالله بعنوان “الملهاة الفلسطينية”. وكما يورد المؤلف نقلا عن “لسان العرب”، فالملهاة هي شكل من اشكال الاشتغال على والانشغال بالهدية جزيلٌ عطاؤها. والهَديّ هي العروس محملة بالهدايا إلى عريسها. وها هي “تحت شمس الضحى” كالهَديّ، محملة بالهدايا نشتغل بها وعليها من منظور التحليل النفسيّ، ولكن ليس ببعيدٍ عما قد تلقيه ضرورات مثل هذه القراءة على سياقها الموضوعيّ أو توظيفها السياسي لما نحن فيه وعليه.

يستحضر الراوي بطله “ياسين الأسمر” من تاريخ الثورة الفلسطينية بتنقلاتها من الضفة إلى الأردن ومن ثم إلى لبنان تل الزعتر عائدا إلى الضفة مع “أوسلو”، بطلا بكامل تجهيزه وعلوه، صورة للمثال الذي لا يشوبه نقص، ولا حتى ذلك الوهن الذي في إحدى ساقيه عَرَجا، يُضفي على البطل واقعية تجسد البطولة كاملة في جسم ناقص وكأنه ينوء بحملانها. إنه الخياليّ متمثلاً صورةَ البطل*. أما مثيله “سليم نصري”، أي ذلك المُمثِل الذي يكتشف حكاية ياسين الأسمر ليقوم بإدائها على حلبة المسرح، فهو نتاج للواقعيّ بكامل تجلياته منكسراً متشظيا ومعطوبا، هذا الواقعيّ المتموضع في المستنقع المسمى “سلطة أوسلو”.

نحن هنا أمام الذاتّ الواقعية (سليم) وصورتها الكاملة (ياسين) التي تصبو هذه الذاتّ لأن تكونها، متماهية معها بما هي مِثالها. ذاتٌّ منكسرة ومتشظية ومعطوبة، تقف أمام صورتها الموحّدة والمتكاملة والمتناسقة. وإذا ما كنا أمام ذاتّ تصبو متماهية نحو صورتها، فما هو إذا هذا السرّ الذي يقودها فيه تسلسل الرواية متقدمة بثبات نحو الإجهاز على الصورة المثال بطلقة من مسدس تقضي على ياسين نهائيا؟ من الممكن حل الإشكال بالقول بأن البطولة تأبى الكثرة؛ هنالك بطلان، فلا بد إذًا لأحدهما أن يقضي على الآخر ليتفرّد بها هو وحده، وبما أنّ عنوان المرحلة هو هذا الواقعيّ الآسن فلا بد لشخوصه المعطوبة أن تعتلي هي خشبة المسرح. قد يشكل هذا، أي البطولة تأبى الكثرة، بما هي نرجسية في جوهرها، مدخلاً ما إلى النظر في العلاقة (الثنائية) والتي هي بالضرورة عدائية حُكما، ما بين الذاتّ، أي ذاتّ، ومِثالها.

تتكون الأنا بحسب لاكان في مرحلة المرآة من خلال التماهي، فالأنا هو نتيجة هذا التماهي مع الصورة المرآوية لشخصي أنا فيها. ويكمُن مفتاح هذه الظاهرة في حقيقة تأخر نضوج التناسق الحركي مقارنة بالتطوّر الحاصل في النظام البصري لدى الرضيع البشري، ففي أشهره الأولى لا يمتلك درجة عالية من التناسق الحركي. يستطيع الطفل التعرف على صورته في المرآة في حين أنه لم يتمّم سيطرته على حركاته بعد. ينظر الرضيع إلى صورته المنعكسة في المرآه فيراها كلاً متكاملاً موحّدًا ومتجانسًا، لكن هذا الإدراك وبعكس المتوقع، يخلق لدى الرضيع إدراكًا لجسمه هو، كجسد مُجزّأ ومُنقسم فيخبَرَه على أنه جسد مُتشظٍّ (Corps morcelé).

يشعرُ الوليدُ بهذا التناقض على شكل خصام بينه وبين صورته المرآوية هو، إذ أنّ كمال هذه الصورة المرآوية يهدّد الذاتّ بالتشظي، لهذا فإنه وفي هذه المرحلة المبكّرة يتأسّس التوتر العدائي ما بين الذاتّ وصورتها. نجد لهذا الامر اثباتات صريحة في النص دون حاجة لكثير من التأويل؛ خذ مثلا على هذا المقطع من الفصل الثاني: “أيقن سليم نصري أنه فقد الممثِل، ولم يستطع الاحتفاظ بالشخصية التي أدّاها. ظلّ الغراب الذي قلّد الحمامة، في النهاية، غراباً قلّد حمامة، أما هو فقد أصبح المشية نفسها، حين أحسّ بأنه لم يعد لصورته.”

إنّ هذا التوتر ما بين الذاتّ وصورتها هو توتر عِدائي دائم، قد تتصاعد أو تخبو حدته، إلا أنه يبقى كامنا كمون النار في الجمرة. وفي محاولة منها لحل هذا التوتر العدائي، تقوم الذاتّ بالتماهي مع صورتها المرآوية؛ التماهي الأوليّ[1] مع النظير هو ما يُكون الأنا. يصف لاكان لحظة التماهي هذه والتي فيها تتبنى الذاتّ صورتها المرآوية كصورتها هي ذاتها، كلحظة بهجة عُليا ، إذ أنها تصل به نحو شعور سيادة مُتخيلة؛ حيث ” تنبُع فرحته من انتصار مُتخيل يَبلُغ به درجة سيطرة حركية يأملها، لكنه لم يصلها بعد[2]. أو كما يرد في نص الرواية في الفصل الأول (ص 8) بعد أن أتم الممثل سليم مسرحيته التي تروي سيرة حياة ياسين (أي تماهيه مع صورته): “وحيدًا انحنى الممثلُ فوق الخشبة (…) وللحظة فكر أن يواصل انحناءته إلى ما لا نهاية، أن يثمل بها، وأن يحلق، وقد أدرك أنّ الحياة تبدأ الآن، وهو يتلمس لحظة ميلاده التي تفوق الخيال“. إلا أنّ هذه البهجة العارمة لدى الطفل ستشوبها حتما ردة فعل كئيبة عندما يوازي ما بين شعوره غير المستقرّ بالسيادة مع هذه القدرة الكلّية التي لدى الآخر البالغ. وكما يرد في الرواية في الفصل الثاني عشر (ص 63): “إحساس سليم بأنه أمام مصيره، جعله يقبض بكامل جسده على عرضه المسرحيّ، يفلت جسده فيعيده بالدور، ويفلت الدور فيلحقه بجسده ويعيده إلى حيث يجب أن يكون”.

هناك إذًا توتر عدائيّ جوهريّ بين الممثل سليم وصورته المثال، ذلك البطل الذي وكأنه قد قُدَّ من بلور. وسنجد على طول الرواية مواقع يخفت فيها هذا التوتر وينكفئ منقلبا إلى شكل من أشكال التماهي المطلق مشركا الأنا في وعدٍ لتكامل مستقبلي محافظا عليه في حالة من الترقب الدائم. أو كما ورد مثلاٌ في الفصل الرابع من الرواية (ص 21): “… لم يكن (سليم) قد أدرك بعد، أنه واقع تحت سحر شخصية لا يعرف إن كان يريد أن يؤدي دورها فوق الخشبة، فحسب، أم في الحياة؟!” أو في نفس الفصل (ص 22): “المشكلة لم تكن قائمة في…، ولكن في عدم قدرته على الابقاء على ذلك البرزخ الضيق بين دوره وشخصيته، اللذين راحا يختلطان، دون أن ينتبه لهذا، حتى، بعيداً عن الخشبة”. وسنجد في مواقع أخرى من الرواية أن هذا التوتر العدائي سيتصاعد إلى الحدّ الذي يتساءل فيه سليم: “- لماذا لا أحرّر الجمهور من شخصية ياسين الأسمر، بدل أن ألقي بهذا العبء على نفسي؟!” (ص 23). أو كما سيظهر لاحقا بالتخلص الفعلي لسليم من ياسين باغتياله بطلقة مسدس.

إنّ هذا التماهي القائم ما بين الذاتّ وصورتها المرآوية ما هو إلا تماهٍ خياليّ، تغدو فيه هذه الذاتّ مُغتربة عن ذاتها ولهذا فتأسيس الأنا بالتماهي مع ما هو خارج (وحتى ضدّ) الذاتّ هو ما ” يبني الذاتّ كخصم لنفسها[3] فيُشبِكها بالعدائية والاغتراب وهذا الاغتراب الذي يرتكز عليه الأنا مشابه للعُظام (Paranoia)، لهذا فإنّ لاكان يقرّر أنّ للأنا مبنى شبيهًا بالبرانويا Paranoid))[4]. ونجد آثار هذه البنية العُظامية في الرواية في أمكنة عديدة وتتمثل على شكل يبدو فيها وكأنها تهيؤات صريحة لظهور مُهدِد لشخصية ياسين كشبح يقوم بمشاهدة المسرحية، أو كشخص يظهر متنقلا في القاعة ليختفي فجأة.

نستطيع الإدعاء بأنّ هذا التماهي المتشكل ما بين سليم مُمثِلاً وشخصية البطل في صورته المثالية المتمثلة بياسين الأسمر، ما هو إلا محض تماهٍ لا يتجاوز بعده الخيالي، إذ أنّ الحضور الفعلي للبطل مُشاهِدا للمسرحية وكما يبدو مرارًا عديدة في الرواية كان يشكل عامل مثيرا للقلق والإحباط البالغين في نفس الممثل إلى الحدّ الذي جعله في أحيان كثيرة يخرج عن النص أو يتعثر في إدائه ويخرجه عن طويته.

لا تستطيع الذاتّ الانتقال إلى السوية النفسيّة (إلى حدٍّ ما) إلا بتجاوز هذا التماهيّ الخياليّ نحو نوع آخر من التماهيّ وهو التماهيّ الرمزيّ. ولا يتم لها هذا الا بحضور مُمثل للنظام الرمزيّ وذلك على هيئة الشخص البالغ الذي يعتني ويرعى الطفل الوليد. وحالما تقوم الذاتّ مبتهجة بتبني صورتها المرآوية كصورتها هي، تتوجه بنظرها نحو هذا الشخص البالغ والذي يمثل ال-آخر الكبير وكأنها تطلب منه أن يصادق على الصورة. يقوم هذا ال-آخر الكبير من خلال المصادقة على كمال هذه الذاتّ المتماهية مع صورتها قائلا: “نعم أنت هو هذا الكامل المرغوب وأنا أحبك كما أنت”. تتعالى الذاتّ بواسطة هذا التماهي وبالتأثير المباشر لل- آخر الكبير عن العدائية المطبوعة فيها بالتماهيّ الأولي، ولهذا فإنه من الممكن القول إنّ هذا النوع من التماهيّ يمثل قدراً معينا من التطبيع الذي يتمّم اكتمال عبور الذاتّ إلى داخل النظام الرمزيّ، ليولد مثال الأنا. وإلى جانب كون ال-آخر الكبير موازيًاٍ للغيرية المطلقة والمتجاوزة لأيّ وجود في الواقعيّ، إلا أنه مطبوع في النظام الرمزيّ مُمَثلا باللغة والقانون والخطاب الجمعيّ، وهو بهذا يشكل ركيزةَ الذاتّ في المستوى البيْن-ذاتي وضمانة ضرورية تحول دون تفسّخها وتشظيها في مستوى الذاتّ الداخلي، على حدٍ سواء.

إنّ هذه الضمانة المعبر عنها بالمصادقة على، أو لنقل هذه الشرعية لوجود سليم نصري هي محط تساؤل دائم من قِبله هو، وحرمانه منها هو ما سيُحدد المجرى المأساوي للأحداث لاحقا. يسحب الكاتب الغطاء عن هذا ال-آخر الكبير في الرواية ليظهر على حقيقته كسيحا، مثلوماً وفاقدا للقدرة، هو غائب في ظلّ غياب خطاب شامل لمشروع تحرّريّ للمجتمع الفلسطينيّ الذي يغذي سليم ويتغذى به، ويكاد يكون غائبا في الشخوص الاشكالية المحيطة بِه. وحدها وردة، تلك المعجبة صعبة المنال والتي شكل وجودها ركيزة لثبات الذاتّ هي ما يمثل ال-آخر الكبير، متشخصاً على صورة فرد مقابل هذه الذاتّ. ولهذا عندما تقوم وردة بطلب التوقيع من سليم ليس باسمه الشخصيّ بل باسم الشخصية التي يؤدّيها، أي ياسين الأسمر، فإنها تقوم بالفعل بسحب شرعية وجوده؛ إنها تقوم بدور ال-آخر الكبير الذي يغدو غير معنيّ بهذه الذاتّ واصمًا حيال طلبها منه منحها المصادقة والشرعية. يُصاب سليم نصري بالذهول متجمدا لا يدري ما الذي عليه أن يفعله أمام هذا الطلب الذي يوازي الحكم بالإعدام عليه. وأمام هذا الشعور بأنّ “… وردة [كانت] أجمل شيء حدث له في حياته، وها هو يخسره”(ص 156) يندفع ياسين بإتيان أفعال لا واعية يغيب فهمها عنه وعن المحيطين به. ها هو يطلب الآن من الدكتور أن يزوده بمسدس ولا يدري ما هو مبرّر حاجته إليه عندما يُسأل، ولاحقا تتوالى مثل هذه الافعال اللاواعية. يشكل الفصل الثلاثون ذروة العمل الفنيّ، ها هنا يشتبك الواقع بالخيال، تشتبك الذاتّ مع صورتها فلا تدري من يقوم بتمثيل دور من؟ أياسين هو هذا الذي على خشبة المسرح أم هو سليم؟ وهل هذا الذي يظهر بين جمهور المشاهدين ياسين بشخصه أم أنه شبحه هو؟ يدخل سليم في طور ذُهانيّ مندفعا “يركض خلف ياسين دون أن يدرك السبب”(ص 173) وها هو يجد نفسه فوق جسد ياسين الملقى على الأرض جريحا إثر القصف الأسرائيلي وفيه بقية من حياة و”رآه يبتسم (…) أغضبه ذلك كثيرا، لكن ما فاجأه أنه كان هو نفسه، يبتسم الابتسامة ذاتها”، إنه الآن غائب عن الوعيّ تمامًا” وعندما أخرج يده من جيبه أطلت عين المسدس فارغة عمياء…” (ص 174-175) لينفجر دويّ الرصاصة في منتصف الابتسامة.

إزاء هذه الرسالة المُشفرة لوردة [ممثلا لل-آخر الكبير] والتي يسقط من خلالها مبرر وجود سليم ذاتاً متفردة وتسحب الركيزة التي تحول دون تشظيها، تدخل هذه الذات في طور ذُهانيّ متقهقرة من التماهيّ الرمزيّ مع صورتها نحو ذلك التماهيّ الخياليّ المطبوع بالعدائية والاغتراب ليقودها في واحد من مسارين. أحد هذين المسارين هو أن تقوم الذاتّ بحل هذا التناقض القائم ما بينها وبين صورتها في غياب ضمانة ال-آخر الكبير، بالانتحار. ويسمى هذا الفعل ” انتقالا للفعل” (Passage to act)[5]. ومثالنا على هذا هو حال المرأة المثلية [أحدى حالات فرويد السريرية] التي كانت تجول شوارع مدينة فيينا بصحبة عشيقتها، لتلتقي عينها بنظرة والدها الغاضبة، فتلقي بنفسها على سكة الحديد. وفي هذه الحال تقوم الذاتّ بالخروج نهائياً من المشهد، وهو هروب من الرمزيّ إلى الواقعيّ لتتلاشى فيه الذاتّ نهائياً. أما في المسار الثاني والذي يتبعه الكاتب فتلجأ الذات إلى حل هذا التناقض بالاجهاز على صورتها، وإذ غدا الكلام غير ذي فائدة فإنها تعبر عن نفسها بالأفعال ويدعى هذا “التعبير بالأفعال” (Acting Out). أنها تقوم بإرسال رسالتها المشفرة إلى ال-آخر الكبير والذي بات أصمَّ حيالها، لتقول له في هذه الحالة التي أمامنا إنّ لي أنا أيضًا حكايتي. وكما يرد على لسان ياسين في الرواية: “أنا بطل لأنّ لي حكاية… كل واحد من هؤلاء يمكن أن يكون بطلا (…) كلّ واحد سيغدو بطلا اذا ما كانت له حكاية…” (ص 158). أنها حكاية وعد لبطولة محتملة وقد أُهدِرت في الأرض اليباب.

..

* قد تحتاج شخصية “ياسين الأسمر” معالجة منفردة وخاصة في وقت لاحق، بوصفها شخصية تعيش حياتها “بين موتين”، إلا أنني سأركّز في هذه المعالجة على ما يخصّ الشخصية الأخرى في الرواية، شخصية “سليم المصري”.


[2] ‘Some reflections on the ego’, Int. J. Psycho-Anal., vol. 34, 1953: pp. 11–17.

[3] An Introductory Dictionary of Lacanian Psychoanalysis, Dylan Evans

وبالتحديد الفصول: Dual Relation, Mirror Stage, Narcissism,

[4] المرجع السابق.

[5] معجم مصطلحات التحليل النفسي، جان لاببلنش و ب بونتاليس، ترجمة م حجازي، 1987، ص 187-189.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>