مدخل لاستخدامات التحليل النفسي في النقد السينمائي (2)/ هشام روحانا

مدخل لاستخدامات التحليل النفسي في النقد السينمائي (2)/ هشام روحانا

ما بين اللذة البصرية والسينما والسرد، تقاطعات وفرضيات تقوم عليها قدرتنا على التمتع البصريّ واستقبال ما تبثه لنا السينما بعناد واستمرار: فيض لا ينتهي من المؤثرات البصرية ■ الجزء الثاني والأخير

 (ننشر هنا القسم الثاني من هذا المدخل ويمكن معاينة القسم الأول عبر هذا الرابط.)

|ترجمة وإعداد: هشام روحانا|

.

هشام روحانا

هشام روحانا

مرحلة المرآة ونظرية الجهاز

Mirror Stage- مرحلة المرآة

تم وصف “اختبار المرآة” أول مرة عام 1931. ويتصل الإختبار بتجربة مُحددة تُظهِر الفرق بين الوليد الإنساني والحيوان الأكثر قرابة منه، الشمبانزي. يختلف الطفل ابن الأشهر الستة عن الشمبانزي من نفس الجيل بأن الاول يغدو مفتتناً بانعكاس صورته في المرآة ليتبناها فَرِحاً بها على أنها صورته هو، في حين أن صغير الشمبانزي سَرعان ما يتحقق من وهمية الصورة، فيتركها جانبا فاقدًا اهتمامه بها.

إنّ مفهوم مرحلة المرآة لدى لاكان هو أبعد من أنْ يكون مجرد اختبار، بل هو حيثية مُؤسِسة في بُنية الذاتية. ينظر لاكان إلى مرحلة المرآة ليس بوصفها لحظة زمنية عابرة في حياة الطفل بل يعتبرها بُنية ثابة للذاتية، إنها أنموذج (Paradigm) النظام الخياليّ، إنها طورٌ تُأسرُ الذاتّ فيه وهي مأخوذة مفتتنة فيه بصورتها هي:

.

[مرحلة المرآة] هي ظاهرة أقوم أنا بتخصيص قيمة مضاعفة لها، إنها تمتلك قيمة تاريخية إذ أنها تشير إلى نقطة تحول حاسمة في التطور النفسيّ للطفل. وثانيا، إنها تمثل علاقة ليبيدية جوهرية مع تَمثُل صورة الجسد. (Lacan, 1951).

.

تصف مرحلة المرآة تكون الأنا من خلال عملية التماهي؛ فالأنا نتيجة هذا التماهي مع الصورة المرآوية لشخصي أنا. ويكمن مِفتاح هذه الظاهرة في حقيقة تأخر نضوج الطفل البشري؛ ففي جيل ستة أشهر لا وجود لتناسق حركيّ بعد، مقابل التطوّر الحاصل في النظام البصري نسبيا، ممّا يعني أن الطفل يستطيع التعرف على صورته في المرآة في حين أنه لم يتمم سيطرته على حركاته. يرى الطفل صورته الخاصة في تكاملها، وهذا التكامل المتحصل في الصورة المرآوية يُثير فيه احساساً يتناقض مع ما هو جسده عليه فِعلاً من عدم تناسق حركيّ، فيخبَرَ جسدَه على أنه جسد مُتشظٍّ. يشعرُ الوليدُ بهذا التناقض أول مرة على شكل خصام بينه وبين صورته المرآوية هو، إذ أنّ كمال هذه الصورة المرآوية يهدد الذاتّ بالتشظي، لهذا فإنه في مرحلة المرآة يتأسس توتر عدائي بين الذاتّ وبين صورتها. من أجل حل هذا التوتر العدائي تقوم الذاتّ بالتماهي مع صورتها المرآوية؛ التماهي الأوليّ مع النظير هو ما يُكوّن الأنا. يصف لاكان لحظة التماهي هذه والتي فيها تتبنى الذاتّ صورتها المرآوية كصورتها هي ذاتها، كلحظة بهجة عُليا، إذ أنها تصل به نحو شعور سيادة مُتخيلة؛ ” تنبُع فرحة (الطفل) من إنتصار مُتخيل يَبلُغ به درجة سيطرة حركية يأملها، لكنه لم يصلها بعد“. إن هذا التماهي يشرك الأنا المثالي والذي يُوظف كوعدٍ لتكامل مستقبلي يحفظ الأنا في حالة من الترقب.

لماذا ليس أمام المرأة في سلسلة أفلام "جيمس بوند" من مفر الا وأن تقع في حُب شخصية عميل المخابرات البريطانية، شخصية صممت وفق أفضل مواصفات النرجسية؟ كامل الاوصاف، متحكم بحركاته وأدائه، ثاقب النظر وحاد التفكير.

لماذا ليس أمام المرأة في سلسلة أفلام “جيمس بوند” من مفر الا وأن تقع في حُب شخصية عميل المخابرات البريطانية، شخصية صممت وفق أفضل مواصفات النرجسية؟ كامل الاوصاف، متحكم بحركاته وأدائه، ثاقب النظر وحاد التفكير.

تُظهِر مرحلة المرآة أن الأنا نتاج وعي مُشوّه، وبأنه الموقع الذي تغدو فيه الذاتّ مُغتربة عن ذاتها. تتصل مرحلة المرآة إتصالا وثيقا بالنرجسية كما يظهر الامر واضحًا في أسطورة نركيس نفسه (في الاسطورة اليونانية يقع نركيس في حب صورته المنعكسة).

Cinematic apparatus theory- نظرية الجهاز

للجهاز السينمائي وللتقنية السينمائية تأثيرهما الأيديولوجيّ على المُشاهِد وفق الناقد السينمائي باودري (Baudry (1970 الذي كان من بين أوائل من أشار إلى هذا الامر. وبشكل اكثر بساطة يمكن القول بأنّ التقنية السينمائية تزعم أنها تعرض أمام عيني المشاهد وأذنيه صورًا وأصواتا واقعية. لكنها تنكر في الآن ذاته كيف أنها تُشكِل هذا الواقع بجمع لقطات المشهد لقطة وراء لقطة. وهي بهذا تُقدّم فضاء مَشهديا وهميا. ويقوم هذا الخداعُ المُضاعفُ بإخفاء الكيفية التي يقوم بها العمل الفني بإنتاج المعاني وكأنها طبيعية، مخفيا بُنيته الايديولوجية وهي بُنية لواقع جرى الاشتغال عليه وفق مثال مُحدد، فهو واقعٌ مُأمْثل (Idealistic reality). ووفق باودري فإنّه تتم مَوضعة المُشاهِد في موقع الذاتّ العارفة مَعرفةً كليةً مع أنه غير واعٍ للمسار الذي يتم فيه موضعته هذا الموضع. وبهذا فإنّ الذاتّ المُشاهِدة والقادرة، ما هي إلا نتاجٌ لهذا المسار وبهذا فإنها أثرٌ ونتيجةٌ للنص السينمائي. وبالتزامن مع هذا وفي اتصال به يتم التأثير الايديولوجي كنتيجة لموقع المُشاهِد في الصالة (في صالةٍ مُعتمةٍ بعينين تُسلطان النظر باتجاه الشاشة، وفي نفس الوقت يجري عَرض الفيلم بآلة العرض التي تُسلِط الضوءَ من الخلف).

المشهد البانورامي المتبع في أفلام الغرب الأمريكي، الممثل "كلينت استورد" في مركز المشهد حيث يتم على الشاشه عرض الصورة ذات التأثير الذي لمشاهد الطبيعة في لوحات عصر النهضة.

المشهد البانورامي المتبع في أفلام الغرب الأمريكي، الممثل “كلينت استورد” في مركز المشهد حيث يتم على الشاشه عرض الصورة ذات التأثير الذي لمشاهد الطبيعة في لوحات عصر النهضة.

يتمّ على الشاشه عرض المَشاهِد ذات التأثير الذي لمَشاهِد الطبيعة في لوحات عصر النهضة (Renaissance perspective)، مَشاهِد لوجودٍ من الكمال والتناسق المثالي والمتعالي. تجد الذاتّ المُشاهِدة ذاتَّها مقيدةً بالسلاسل وأسيرةً لما يُعرض أمام عينيها على الشاشة، بالضبط كما يحدث للطفل أمام المرآة، ممّا يخلق تماهيا مُزدوجا للذاتّ المُشاهِدة مع شخصية البطل من جهة أولى، ومع ذات متعالية تَحلُ محلَها الكاميرا (التي قد سبقته في النظر إلى ما ينظر هو اليه الآن) من جهة أخرى. وبهذا فإنّ المُشاهد وفق مفهوم ألتوسير (الاستجواب Interpellation)* يتم استجوابه (أو استنطاقه) من قِبَل النص السينمائي، وبهذا يتم بناء الذاتّ وتكوينها وفق المعاني التي يتضمّنها النص. لاحقا وبعد 1975، يتم تناول وتحليل “نظرية الجهاز” بعد ان تمت إزاحة المُشاهِد من موقعة الآداتي كذاتّ (ذُكورية تحديدًا) تم إنتاجها بتأثير الجهاز إلى مواقع أكثرَ فعاليةٍ في مسار إنتاج المعنى، أي كفاعل (Agent)، في نطاق النص السينمائي. ويتم النظر عندها إلى المُشاهِد ذكراً أو أنثى بوصفه الشخص الذي يشاهد ويستخلص اللذّة (أو الخوفَ وهو شكلٌ آخرَ من أشكال اللذّة) مما يراه أو تراه. وهو أو هي من يقوم بتأويل النص والحُكم عليه. والجانب السلبي هو أنّ “نظرية الجهاز” تُموضِع المُشاهِد بتلصُصه التلذذي كمتواطئ في إدامة دورة اللذّة وهو أمرٌ جوهري لضمان الربح المادي لصناعة السينما (Metz, 1975). إذ أنّ الحيوية الاقتصادية لصناعة السينما تعتمد على رغبة المُشاهِد بالتلذّذ. وتغدو السينما بهذا عمليةَ تبادلٍ للبضائع تتأسّس على اللذّة وأرباح رأس المال- اللذّة مقابل المال. أمّا الجانب الايجابي لهذا التموضع للمُشاهِد فهو أن عليه بوصفه فاعل المُشاهَدة، مقاومةَ تثبيته في الموقع التلصُصي كمُنتجٍ للجهاز والانتقال إلى موقع الناقد والمُحاكِم للفيلم. [Hayward, 1996]

 * الاستجواب مفهوم وضعه لوي ألتوسير وهو المسار الذي تتشكّل فيه الذات الإنسانية الفردية في علاقتها مع النظام المهيمن، من خلال أجهزة الدولة الأيديولوجية (المدرسة، الاعلام، الدين، القانون، الاحزاب، النقابات…) فتقبل طواعية موقعها الطبقي وكأنه موقعها الطبيعي وخيارها الخاص ممّا يهدف في نهاية الامر لإعادة إنتاج النظام الطبقي وديمومته.

.

مدخل لاستخدامات التحليل النفسي في النقد السينمائي (1)/ هشام روحانا

> 

المصادر:

1) An Introductory Dictionary of Lacanian Psychoanalysis  [Dylan Evans].

2) معجم مصطلحات التحليل النفسي، لابلانش وبونتاليس.

3) faculty.washington.edu/cbehler/glossary/cinematicapparatus.html

4) Mulvey, Laura, 1990. ‘Afterthoughts on “Visual Pleasure and Narrative Cinema” inspired by Duel in the Sun’ in Psychoanalysis and Cinema. Edited by E. Ann Kaplan.

5)  Paula, Murphy,  Psychoanalysis and Film Theory, Kritikos, an international and interdisciplinary journal of postmodern cultural sound, text and image, Volume 2, February 2005, ISSN 1552-5112

6) معجم الماركسية النقدي، سوسان ولابيكا، دار الفارابي.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>