حجر، أسطوانة، إزميل: تقاسيم في البحث عن الجميل/ إسماعيل ناشف

قراءة في بعض أعمال جواد إبراهيم النحتية

حجر، أسطوانة، إزميل: تقاسيم في البحث عن الجميل/ إسماعيل ناشف

الأعمى (1998) 32/23/32 cm


|إسماعيل ناشف|

 .

إسماعيل ناشف

1

لا تفتأ اليد تضرب خالقها، ولا تكلّ من منازعته عمّا هو ذاته. بهذا فهي تقفز عمّا هو حدّ في التكوين، لتعيد الخلق مرّتين، ولتحيا الموتَ مرّات، وليبقى القول خلودًا، لهذا فإمّا قولاً وإمّا نهاية في القفز وقفر في الوجود. والقول الحقّ باطل، كما لا يبطل الحقّ في مقاله المرتحل أبدًا عبر دفقات الريح القلقة، إلاّ في حركيّته، عبرة العبور في التعبير. وإذ نحن، الفنّان والكاتب والقرّاء، نبغي الجلوس الحواريّ في مقطع، من الصدفة، حول جمرات أُشعِلَت من التقاء أثر ضربة اليد، ومن كلمة كُتِبَت وعين فكّت التشكيلَين، فلنَعْبر التعبير عبورًا، لعلّ طائرنا يفصح بمنطق الطير التي لا تطير.

حُمْتُ لعدّة أشهر حول هذه الأعمال لا أدري كيف أبدأ في الدخول إلى فضائها، ولا أستطيع أن أدخل بها، وهذا ليس بتجربة جديدة بذاتها في التواصل مع ما هو فنّ. المختلف هنا أنّ هذه الأعمال كانت واضحة وماثلة بمقولتها إلى درجة مزعجة، أحيانًا، حيث إنّ لغز الشكل يظهر في حَلِّه المادّيّ: الحجر. بيدَ أنّ الحجر حجر، أصمّ لا يتكلّم ولا يفصح، بعكس الأسطورة الفلسطينيّة الدامعة بسببه ومن حوله؛ ومن الحجر ما قَتَل، فأين يبدأ الخلق؟

قلت إنّه لا بدّ من قضاء ليلة مع تمثال حجريّ لأتبيّن ثنايا ما بدا لي على أنّه روح أليفة ومألوفة، غابت عبر سنين من التدثّر بالبلاستيك المُقوَّى، والحديد المصقول، والقماش الاصطناعيّ ذي الألوان الناعسة؛ حزمت أمتعتي للبقاء في ليلة جرداء أمارس رغبتي في التلصّص على تمثال حجريّ، لعلّي أغريه بعضلتي فيكشف عريه أمامي، وأكشف له إحدى الفانتازيات الحميمة التي تقبع في قيعان جَعبتي. قلت لنفسي إنّ هذه صفقة جيّدة فيها ما قد يقنع أصلب الأحجار وأشدّها تمنّعًا. في ما سيتلو، يا عزيزي القارئ، ستلتقي بتفاصيل مغامرات تلك الليلة، ولكن من غير أن تصطدم بخاماتها الدراميّة، بل ستلقاها في حالة من التسامي النصّيّ، والإزاحات ذات الطابع الطربيّ، والتحليل المخبريّ، والربط المجازيّ. فإن هَمّت نفسك بحجر، فلا تؤجّل موعد ليلتك به، وتذكّر أنّ إغراء الإزميل أشدّ وقعًا على الحجر من حامله. لستُ بدايدالوس، لستَ بدايدالوس، بل نحن نساء العزيز داخل بقرته. أمّا الطائر فلم يخفِ نزقه وقال: ولا حتّى هوميروس، يا عزيزتي[1].

.

2   

الصرخة (2004) 25/50/32 cm

أمامنا ثلاثة أعمال نحتيّة من الحجر، لم تُسَمَّ، بل كلّها تحمل اسم “بدون عنوان”، وهي عبارة عن رؤوس لرجال، ذات أوجه تعبيريّة محدّدة. كلّ الأحجار قام الفنّان باختيارها من منطقة رام الله، حيث كان يخرج إلى الطبيعة المحيطة بهذه المدينة، ويقوم بتفقّد ما فيها من أحجار وتكتّلات صخريّة، ليختار منها ما يلائم الفكرة التي تعتمل في ذهنه، أو العكس أيضًا. عادةً، جرَتْ عمليّة البحث هذه في أوائل الربيع، بعد أن يتشرّب الحجر كمّيّة من مياه الأمطار، وهذا ممّا سهّل عمليّة النحت على الفنّان.

العمل الأوّل “الصرخة” (2004) منحوت من حجر رماديّ زاهٍ، فيه ظلّ باهت، بارتفاع50 سموعرض25 سموعمق 32 سم، وله شكل الرأس الذي يجلس على الجزء العلويّ من الرقبة، وهو مكتمل الأعضاء من ذقن وفم وأنف ووجنتين وعينين وجبهة وشعر، ما عدا الأذنين اللتين غابتا. هنالك نتوء شبه أسطوانيّ من الخلف، يبدو وكأنّه امتداد على شكل جديلة طويلة. هنالك ثلاثة أنواع من ضربات الإزميل: الأولى هي باتّجاه الحفر بعمق الكتلة الحجريّة، وهي تبدو واضحة في صناعة الفم والعينين؛ أمّا الثانية فهي نوع من الضربة الخارجيّة الدقيقة باتّجاه الأسفل، كالتي تصنع الحصى الدقيق وتضفي ملمسًا يشبه حجر البناء المُسَمْسَم، وهذه الضربة تغلّف معظم مسطّح الرأس عدا المقطع الخلفيّ شبه الأسطوانيّ الأملس؛ أمّا الضربة الثالثة فهي التي استخدمها الفنّان في صناعة هذا المقطع الخلفيّ للرأس، الذي يبدو كنتوء أملس بارز على شكل شبه أسطوانيّ من أعلى الرأس إلى أسفله تقريبًا، وهي ضربة لم يبقَ أثرها بعد أن جرى تمليس المقطع ككلّ.

إن نسب الأبعاد بين أعضاء الوجه الأماميّة ومواقعها تبدو كما في حالة الوجه الإنسانيّ الطبيعيّ، ما عدا الفم الذي يمتدّ على معظم النصف التحتيّ للوجه، وهو مفتوح على مصراعيه بمقطع عموديّ، من الأعلى إلى الأسفل، أو بالعكس، بحيث يختزل أهمّيّة فتحته الأفقيّة، أي يجعلها تابعة للبعد العموديّ من عمليّة فتح الفم. وبهذا فهو يطغى على الذقن المتناسق بحجمه الوسطيّ الأمْيَل إلى الصغر، دون أن يُدَبَّب، بل بدائريّة ناعمة، من جانب، ولكن هذا الطغيان لا يُفقد الذقن موقعه الارتكازيّ بعلاقته مع الفم، إذ يبقى حلقة الوصل مع الرقبة التي تكوّن قاعدة العمل ككلّ في حال أخذنا المقطع الأماميّ منه، من جانب آخر. الأنف يبدو مُهَشَّمًا، أو على الأقلّ لم ينحته الفنّان بشكل مكتمل، بل صنع الجزء السفليّ الأماميّ بشكل منقوص، وذلك بكسر دائريّته، بعكس الجزء العلويّ الأماميّ منه الذي يبدو مكتملاً بدائريّته، أي جرت عمليّة إعادةِ صياغةٍ ما لأرنبته. العين اليسرى مكتملة، بينما العين اليمنى تبدو كعين ولكن يقطعها حفر على شكل خطّ شبه عموديّ يميل قليلاً إلى اليسار ويمتدّ، إلى أسفل العين والمنطقة التي تحتها مباشرة، كانتفاخ. بينما العلاقات النسبيّة بين الأنف والعيون تبدو متناسقة بحسب معيار الوجه الطبيعيّ، تأتي الجبهة بشكل عضليّ بارز، لتربط بين الأنف والعيون وأعلى الرأس من شَعر جرى تمييزه عن الجبهة بخطّ محفور يعلن الالتقاء من خلال كسر حادّ للامتداد. أمّا الشعر فيرتفع بشكل حادّ، لكن متباين، بثلاثة مقاطع. الغرّة مدبَّبة، وهي تبدأ بنقطة تحدّد الجزء الأماميّ من الشعر وهي ترتفع بزاوية شبه قائمة، وكذلك المقطع من اليسار الذي يرتفع بزاوية قائمة ليدخل إلى الوراء بزاوية 45 درجة. أمّا المقطع من اليمين، فهو يرتفع عن الجبين بزاوية 45 درجة تقريبًا داخلاً إلى الوراء بزاوية 45 درجة كذلك. الشَّعر ككلّ يبدو مضمومًا بشكل قويّ إلى الخلف، حيث لا تتساقط أجزاء منه على جوانب الرأس، ليجتمع عند بداية النتوء شبه الأسطوانيّ الأملس في وسط خلف الرأس. هذا النتوء يمتدّ على كلّ المقطع الخلفيّ ليكوِّن، مع الرقبة، القاعدةَ التي يقف عليها التمثال ككلّ.

الأعضاء ككتل تُحَدَّد معالمها من خلال خطوطها الخارجيّة، لا عَبْر التفاصيل الداخليّة للعضو، حيث يتميّز الخطّ الخارجيّ الذي يحدّد ما هو الشكل بخاصّيّتين أساسيّتين: الأولى أنّ الخطّ واضح وحادّ في ما تمْكن تسميته البؤرة الإدراكيّة البصريّة للعضو؛ والثانية أنّ ذات الخطّ يمتدّ من هذه البؤرة إلى أطراف العضو حيث تقلّ حدّته تدريجيًّا، إلى أن يصبح جزءًا من المسطّح العامّ للوجه، بحيث لن نستطيع التمييز بينه وبين المسطّح. هذا ينطبق على كلّ الخطوط الخارجيّة، ما عدا ذلك الذي يحدّد النتوء الأسطوانيّ الأملس، حيث إنّ هذا الخطّ يتّخذ حالة مستطيليّة مغلقة ومنفصلة عمّا هو مسطّح الوجه، كما لو كان خطًّا فاصلاً بين الأبيض والأسود، أي أنّه تحديد نوعين من خلال التقائهما. من هنا، فكلّ عضو يُدرَك ككتلة ذات حجم وشكل خارجيّ مُعرِّف بعلاقة هذه الكتلة بالمسطّح الكلّيّ للرأس، ومن خلال العلاقات بالكتل الأخرى المكوِّنة للرأس ككلّ، من جانب، ومن خلال غياب التفاصيل الداخليّة للعضو ذاته، من جانب آخر.

أمّا الرأس ككلّ، فهو ذو شكل أسطوانيّ طوليّ، بحيث يبدو كتحويرٍ على الشكل الطبيعيّ للرأس الإنسانيّ، تحويرٍ أعطى المقطع العموديّ للرأس، بعلاقته مع الأفقيّ، مركزيّةً بارزة من خلال زيادة الطول بعلاقته بالعرض. هذه الزيادة ليست بتقنيّة، وإنّما نتجت عن كَوْن عمليّة النحت ذاتها تقعّدت، مسبقًا، على مفهوم أسطوانيّ طوليّ للمنتوج النهائيّ (التمثال)؛ هذا بحيث من الممكن المجازفة بالقول إنّ هذه المركزيّة هي عبارة عن بوصلة فراغيّة لعمليّة النحت ذاتها. من اللافت للنظر، بهذا المستوى من التحليل، أنّ النتوء الأسطوانيّ الخلفيّ هو عبارة عن تجسيد داخل العمل لما هو بوصلة العمل ككلّ، بحيث إنّ هذا العمل يحتوي على منطق عمليّة إنشائه مجسَّدًا وملموسًا، ولا سيّما أنّ النتوء الأسطوانيّ في الخلف، أي يتّكئ عليه الرأس، وهو جزء من القاعدة التي يقف عليها التمثال ككلّ.

يعطي اعتماد الخطّ الخارجيّ للأعضاء، وما ينتج عنه من كتليّة بصريّة، مع بناء التمثال على الشكل الأسطوانيّ الطوليّ، انطباعًا محدّدًا من الشكل الرأسيّ، كأنّما داخل الرأس هو حبل مجدول بشدّة بالغة أضفت عليه صلابة وقوّة ودرجة عالية من الثبات، انعكست بخارجيّة لا تهتمّ بالتفاصيل وما قد تثيره من رهافة ونعومة وهشاشة. فهذا الرأس يوحي بجذع شجرة غليظ[2]، لا يأبه بعوامل الطبيعة من حوله، وإن كان هو ابنها. الاصطدام البصريّ لا يترك مجالاً للمتلقّي أن يزوغ عمّا هو كتلة أسطوانيّة ذات حدّ أدنى من الخطوط التفصيليّة الحادّة والمندمجة بالمسطّح الكلّيّ. على هذه القاعدة الكتليّة /البصريّة الدالّة بنى الفنّان مستوى ثانيًا من منظومة علاقات داخليّة تُؤَنْسِن هندسيّة التركيب الحجريّ هذا، أو تُهَنْدِس الخطاطة الذهنيّة لما هو وجه إنسانيّ ذو تعبير محدّد (صراخ). ولكن بالطبع، وككلّ صناعة اجتماعيّة، فالهندسة والأنسنة متشابكتان حدّ الالتحام، قد يتجسّدان في التقاء الحِرْفَة بشكل محدّد من الطاقة في حركتها بالتاريخ. تجسيد هذا الالتحام يُقاس بمدى قدرته على الارتقاء بالجامد إلى حدّ الحركة، أوّلاً، وبشكل الحركة، ثانيًا، وبالتحوير المحدّد على الشكل المُبتغى، ثالثًا. في كلّ مستوى من هذه، لا يستقيم التلقّي إلاّ بالحركة الانسيابيّة، حدّ الطرب النبيذيّ، بينها.

الصرخة (2004) 25/50/32 cm

تبدأ حركة هذا التمثال من لونه الرماديّ الفاهي، لتمتدّ إلى كتليّته البصريّة، فنوع ضربات الإزميل التي تنسج مسطّحه ونتوءاته المختلفة، فالخطوط الخارجيّة التي ترسم أعضاء الرأس والوجه. فالرماديّ هنا ذو حركة باتّجاه الأرض المحروقة، حيث يمكّن من فرش القاعدة المادّيّة المجازيّة للحركة التعبيريّة العامّة، أمّا أسطوانيّة الكتلة فهي تقول بالوقوف، وهذا في العموديّة، أمّا ضربات الإزميل فهي تفاصيل الأفقيّ الذي يكتب تفاصيل حركيّة اليوميّ والعابر على متن العموديّ الأزليّ، الخطوط والأعضاء هي تجسيد لالتقاء المحور العموديّ بالمحور الأفقيّ، أي هي التحام نوعي الحركة، المحور الثالث، بالشكل التعبيريّ المحدّد (الصرخة -المحور الرابع). في هذه اللحظة /الموقع الشكليّ، يبدأ سعي التحوير بين ما هو صرخة، أو خطاطتها الذهنيّة، وبين الصرخة المحدّدة التي انبثقت في التركيب المحدّد ومنه. إنّ هذه الحركيّة أدّت إلى خلق تحوير صرخة يجمع أنواعًا مختلفة من الصرخات /الحركات الممكنة، تلك التي تأتي من البطن، من جانب، وتلك التي تأتي من المناطق العلويّة للجسد (لا سيّما الصدر والرأس)، من جانب آخر. هذا الجمع المُتقن، الذي يصهر في شكل واحد عدّةَ أشكال ممكنة من الصراخ، هو مفصليّ في الإدراك البصريّ النقديّ لكثافة التلقّي البطنيّة-الحسّيّة-الذهنيّة، حيث إنّ التوتّر الكثيف في هذه الصرخة هو حمولتها المتعدّدة في شكل محدّد. فهذه الصرخة تفيد في التعبير عن كلّ أسباب الصراخ، أي هي العلامة الكبيرة الحاوية لكلّ الدلالات اليوميّة العابرة. وبالرغم من أنّ نحت الرأس هو نوع فنّيّ قائم بذاته، وله تاريخ محدّد، فإنّ غياب الجسد يمكن أن يحمل دلالات مختلفة. وفي هذا السياق الذي نحن بصدده، وبهذا المستوى من التحليل، ساهم هذا الغياب في اكتمال العلامة الكبيرة، حيث إنّ كلّ الأجساد تصلح لهذا الرأس، فهو قد يكون رأسَ محارب، ورأسَ عبد، ورأسَ قائد، أو رأسَ جنديّ، وهو رأس لعذاب، رأس لألم، رأس لرعبٍ، رأس للنهوض الثائر، وغير ذلك.

ولكن، لماذا يصرخ الإنسان؟ ومن ثَمّ، ما هي الاحتمالات الكيفيّة لشكل الصراخ، بعامّة، والحجريّ، بخاصّة؟

تقول التجربة الحسّيّة الساذجة إنّ الحجر هو من أشدّ حالات الصمت، بمعناه النيّئ، وفي آنية لا تقلّ سذاجة فهي تقول بأنّ الصراخ هو من أشدّ حالات الكلام كثافة، بمعناه المطبوخ.[3] في كلتا المقولتين هنالك محاولة لحفر جسر يربط المنظومة المادّيّة بتلك الاجتماعيّة، وهذه المحاولة، في المعتاد، تبوء بفشل تلو فشل، وبالرغم من ذلك فهي تعود، عودتها رهن بالتدفّق، المتشابك ضرورة، ما بين المنظومتين. في هذا العمل، ثمّة جمْع مباشر بين حالة مادّيّة، حجريّة الحجر، ونقيضتها الاجتماعيّة، تعبيريّة الإنسان. والمقصود أنّ التناقض الأساس في العمل، بهذا المستوى من التحليل، ينبني عبر انعكاسات مرآتيّة للتجربة الإنسانيّة المادّيّة الاجتماعيّة المتناقضة، والتي تُنْشِئ المقولة المادّيّة مقابل المقولة الاجتماعيّة. هذه المقابلة جرت معالَجتُها جماليًّا، أي بالالتحام الشكليّ للمادّيّ (الحجر) بالاجتماعيّ (الصراخ). إنّ الصراخ الحجريّ وَ/أو الحجر الصارخ لهو تشكيل /قراءة في التناقض الأساس: طبيعة /مجتمع، وهذا غير قابل للحلّ أبدًا، بل للجَسْر، العبور، المتكرّر تحويريًّا على أوّليّته لما هو إنسان. من هنا، ليس الحجر بصمت نيّئ، وليس الصراخ بكلام مطبوخ، حيث إنّه ليس من قبيل الصدفة اختيارُ الصراخ في هذا العمل، وذلك أنّ الصراخ أقرب ما في الإنسان لِما يُصَنَّف على أنّه الأوّليّ النيّئ، من حيث هو ردّة الفعل الأولى لكلّ محفّز داخليّ وخارجيّ، وبذلك فإنّ الصراخ الإنسانيّ يحمل حجريّة الحجر، من حيث هي منطق عمل الطبيعة.

 بقي أن نشير إلى اللون الرماديّ، حيث إنّ هذا النوع من اللون الحجريّ غير مروّض ضمن أطياف ألوان الحجر البيتيّ في فلسطين، ومن هنا فإنّ اختياره أَسّسَ للعمل ككلّ، أي بدأ الفنّان من حالة برّيّة، ممّا وجَّهَ سعيه الإبداعيّ للخوض في الطبيعة /المجتمع كما بيّنّا آنفًا.

.

3

العمل الثاني “الألوَق” (2004) هو عبارة عن رأس منحوت من حجر يتألّف لونه من الأبيض والزهريّ، حيث يغلب الثاني على الأوّل، وهذه التركيبة اللونيّة شائعة إلى حدّ ما في فلسطين، ارتفاعه 43 سم، أمّا عرضه فيبلغ 25 سم، بينما العمق32 سم. هذا الرأس لا يجلس على رقبته، بل القاعدة هي الجزء السفليّ من الرأس ذاته. الأعضاء التي تؤلّف الوجه هي الذقن والفم والأنف والعينان والوجنتان، وهنالك أيضًا جبهة غير محدّدة المعالم لا تُمَيَّز عن أعلى الرأس، موقع الشعر الذي لم يميَّز كشعر. لا توجد أذنان. أمّا ضربة الإزميل، فهي من نوع واحد في الأساس: الضربة الخارجيّة الدقيقة باتّجاه الأسفل، ولكنّها تبدو أنعم في الشفاه والعينين.

 إنّ نِسب الأبعاد بين الأعضاء ومواقعها، والتي تكوّن النسيج الوجهيّ، حافظت على المدى الإنسانيّ الممكن، مع إزاحات محدّدة بالأحجام انعكست بثلاثة مقاطع أفقيّة، بمنطق تركيب عموديّ، هي الفم، والأنف والوجنتان، والعينان. فبينما تموضعت العينان في مركز خطّها الأفقيّ، كما في الحالة الطبيعيّة، وجرى نحْت حجمها وَفقًا لما يبدو طبيعيًّا أيضًا، فإنّ المقطعين الآخرَين حافَظا على التسلسل العموديّ للأعضاء، أي الأنف والوجنتين ومن ثَمّ الفم، في حين جرت إزاحة وتكثيف أبعادهما الأخرى. فالأنف بالغ الكبر، حتّى إنّ بروزه ومركزيّته يوازِنان، بصريًّا، الانزياح والتكثيف الرئيسيّين في العمل (وهو الوجنة اليسرى). فهذه الوجنة ضُخِّمت حجمًا، كما جرى التحوير على الشكل الطبيعيّ لها بحيث تبدو كأنّها تضخّمٌ وَرَمِيٌّ، يبدأ من الخطّ الأفقيّ عند نهاية الحاجب ليمتدّ إلى الأسفل، حتّى يبلغ منطقة الذقن. إذا نظرنا إلى الوجنة اليسرى من مقطع جانبيّ، رأينا أنّها تتّخذ شكل تلّة، أي أنّها لا تمتدّ في بروزها إلى المنطقة الجانبيّة-الخلفيّة للرأس. أمّا الوجنة اليمنى، والتي تبدأ عند نهاية الأنف وأسفل منطقة العين، فقد جرى اختزالها حجمًا، بحيث تبدو كمقطع عموديّ ضامر، وكذلك جرى اختزالها شكلاً، حيث لا تبدو كوجنة وإنّما كمسطّح من غير نتوءات تُذكر. وهذه تمتدّ لتلفّ محيط الرأس الخلفيّ إلى أن تصل إلى بداية تلّة الوجنة اليسرى. ينضاف إلى هذا نتوءٌ في قمّة الرأس يبدو على أنّه نتف شعر. أمّا الفم فقد أزيح قليلاً إلى اليسار، وهو مركّب من شفتين، العليا تبدو أصغر من السفلى، حيث تدلّت هذه الأخيرة قليلاً إلى الأمام-السفليّ. هكذا فالفم يبدو على أنّه جزء من المقطع العموديّ الأيسر البارز والممتلئ، بينما يبدو المقطع العموديّ الأيمن ذا درجة من الضمور بالغة، إلى حد أنّه يكوّن زاوية عموديّة مع مقطع الفم الأفقيّ. بهذه الطريقة من تركيب أعضاء الوجه والرأس، يبدو الرأس ككلّ من الأمام على أنّه تحوير على أسطوانة، حوفِظَ على جانبها الأيمن، بينما جرى تدوير جانبها الأيسر.

الألوَق (2004) 25/32/43 cm

لا توجد في هذا العمل خطوط عدا واحدًا يحدّد ملامح العين اليمنى، وهو قصير وبارز كخطّ محفور، وآخر بنفس الصفات يحدّد العين اليسرى. إنّ الأعضاء المختلفة هي نتوءات امتداديّة لما هو مسطّح /كتلة الحجر /الرأس، بحيث يميّز المُتلقّي العضو من شكله وموقعه العلائقيّ داخل المسطّح /الحجم ككلّ. من هنا، ثمّة نوع من المِنِمالزِم في هذا العمل من حيث تفاصيل الأعضاء وعلاقات بعضها ببعض، هذا بحيث إنّ البؤرة البصريّة تتركّز في المقطع الأيسر، الذي يبدأ من الخطّ العموديّ في طرف الأنف الأيمن، ليشمل العين اليسرى والأنف والفم والوجنة اليسرى البارزة. بالرغم من كون الوجنة اليسرى دائريّة على نحو بارز، وهو ممّا يبدو على أنّه يوحي بأفقيّة ما، فإنّ هذه الدائريّة هي -في أساسها- عموديّة فعلاً، أي من حيث الإحداثيّات المكوّنة، بحيث إنّها أقرب إلى الشكل البيضويّ الواقف منها إلى الدائرة، ومجازًا، من حيث إنّ كلّ العمل مبنيّ على منطق أسطوانيّ طوليّ.

إنّ المنطق الأسطوانيّ، وتغليب الامتداد النتوئيّ على الخطوط، يسبغان على العمل نوعًا محدّدًا من الكتليّة البصريّة، تشبه العمل الأوّل أعلاه، حيث إنّ الكتلة، بقلّة تفاصيلها وفظاظة أعضائها، عملت على إبراز البؤرة البصريّة التي سعى إليها الفنّان، بحيث إنّ ما نراه نحن -بوصفنا متلقّين- هو المقطع الأيسر البيضويّ، مركز التحوير في هذا العمل، بينما تتراجع سائر الأجزاء التشكيليّة إلى الخلف. وعلى هذه يبني الفنّان المستوى الثاني من العلاقات الدالّة في هذا العمل، وهو لحظة /موقع التعبير الإنسانيّ المحدّد لذوي الوجنة المنتفخة[4]. وهنا يأتي سؤال الحركة في العمل بمستوياته الثلاثة[5]، ومن ثَمّ الانسيابيّة بين المستويات الحركيّة المختلفة.

تبدأ حركة هذا العمل من الخارج إلى الداخل، ومن ثَمّ في العلاقات الداخليّة بين الأعضاء، وكلّ عضو بما هو شكل، لتعاود الحركة باتّجاه الكلّ متدرّجة من العضو إلى العلاقات بين الأعضاء، إلى المقطعين، زاوية الأسطوانة القائمة مقابل المقطع البيضويّ، فالكلّ الخارجيّ، وهكذا دواليك. كأنّه بهذه الحركة يتتبّع المتلقّي خطاطة النحات، الذي يبدو أنّه عمل من الخارج إلى الداخل، ليعاود الخروج إلى المحيط ليشذّبه نهائيًّا. إنّ الحركة التعبيريّة الخارجيّة، شبه الحالمة شبه “الغبيّة”، تتأتّى من المقطع البيضويّ الذي يبدأ بالعينين وينتهي باحتوائه للفم، حيث إنّ تحديده بمركزيّة الأنف كفاصل حدّدت الحلم والغباء كحقول للمعاني، فالأنف الفجّ هو من النوع غير المؤذي بصريًّا، بل هو من أصحاب البلادة بالأساس، وهذا يتبيّن من شكل ربطه ككتلة بالفم، من الأسفل، ومن العينين، من الأعلى. وهذا الجانب يدعم بيضويّة الجانب الآخر للمقطع الأيسر، من حيث الكتلة ذاتها، ومن حيث التوازن البصريّ الحاصل للمتلقّي. العين اليمنى جاحظة، وهي أكبر من العين اليسرى والتي تبدو متواضعة أكثر بنظرتها. إنّ وقوف عمليّة النحت على الحدقتين فقط، ومن غير الدخول في تشكيل التفاصيل الأخرى للعين، أدّى إلى نوع من النعاس الحالم، أي ليست فيهما وقاحة الطبيعيّ الجاحظ. أمّا الأنف فهو يبدأ من نهاية الجبين، ليمتدّ إلى أعلى منطقة الشاربين العريضة نوعًا ما. وهذا الأنف هو عبارة عن شكل تكعيبيّ إلى حدّ ما، حيث لا توجد تفاصيل سوى أنّ الكتلة تزداد عرضًا كلّما نزلنا من أعلاه إلى أسفله، وذلك حتّى يبدأ مقطع الأرنبة الذي دُبِّبَ ولكن بشكل غير واضح المعالم. هذه التشكيلة من الأنف تتحرّك باتّجاه حقول الثخانة البليدة، كما ذكرت أعلاه. أمّا الفم، فهو يتشكّل من الشفتين ومقطع بسيط من أوّل الفراغ الداخليّ الذي تُكَوِّنانه من خلال ابتعادهما البسيط عن حالة الالتصاق. ممّا لا شكّ فيه أنّ الحركة البصريّة للفم هي مركزيّة للعمل ككلّ، وذلك بعدّة مستويات، بداية وبالرغم من أنّ الذقن يقع في البداية السفلى للعمل؛ وهو يبدو -إلى حدّ ما- واضحَ المعالم ولكن بشكل فظّ، فإنّ الفم هو العضو الوجهيّ الأوّل ذو الصياغة الشكليّة التعبيريّة الواضحة، وهو بهذا يُبئّر حُزَم البصر، من جانب، ويكوّن المقطع الأفقيّ الأوّل الذي تنشأ عليه المقاطع الأفقيّة الأخرى بمنطق عموديّ. وهنا، في التقاء الوضوح التعبيريّ لشكل الفم بموقعه كمحدّد للمسطّح البصريّ، من خلال إبرازه بتغبيش الذقن، فهو يصبح بذلك بداية الحركة من الأسفل. هذه البداية هي باتّجاه الأعلى، إذ تعاود لتحتوي العلاقات الداخليّة ومن ثَمّ الغلاف الحجريّ الأسطوانيّ لما هو وجه ذو وجنة منتفخة.

قد تنتفخ الوجنات، اجتماعيًّا، في حالتين تبدوان للوهلة الأولى على طرفي نقيض من التجربة الاجتماعيّة. الأولى هي الحالة التي يُكثر فيها صاحب الوجنة من الأكل الجيّد والدفء والراحة لفترات مديدة، حيث تتراكم طبقات من الدهن النوعيّ في أنحاء الجسد المختلفة، وتأخذ الوجنة حصّتها وقسطها من هذا وتلك. أمّا الحالة الثانية، فهي تلك التي تُضرب فيها الوجنات بشكل مبرّح ومتواصل، وذلك ابتغاءَ المعاقبة وفرض النظام أو الانتظام. هكذا تصبح الوجنة مَعْلَمًا دلاليًّا لحفر النظام الاجتماعيّ في الكتلة الجسديّة، عامّة، وفي ما هو الحيّز العامّ الذي لا يُغطّى من هذه الكتلة، أي الوجه، بخاصة. هذا العمل يحكي قصّة الحالة الثانية، تلك التجربة التي تؤدّي إلى التشويه الجسديّ الذي بدوره يحمل مقوِّمات الإقصاء الاجتماعيّ. لكن التمعّن في العمل وتفاصيله يشي بشيء إضافي، شيء من قبيل رنّة المقموع، نغمة قاع الإقصاء الجسديّ-الاجتماعيّ في حركته بين الرغبة والنبذ، وكأنّ في حركته الناعسة الحالمة ذرّة من السخرية تثير ذلك السؤال المُرعب حول لا إمكانيّة العيش الاجتماعيّ بحدٍّ أدنى من الكرامة، فكلُّ ذي نـيع مضروبٌ، إمّا بالأكل والراحة أو باللطم والقرص؛ وبهذا فإنّ خلخلة العلامة الثنائيّة، جماليًّا، بين الامتلاء والجوع في هذا العمل، قوّضت ما بدا على أنّه تجربتان، لتقول إنّه تحوير على ذات المأزق الإنسانيّ في اجتماعيّته.

.

4

الأعمى (1998) 32/23/32 cm

العمل الثالث “الأعمى” (1998) الذي نحن بصدده هو عبارة عن رأس من حجر لونه بيج، فيه الكثير من النقط التي تميل إلى البنّيّ الوسطيّ، وهذه إمّا بقايا معدنيّة داخل الحجر أو فراغات داخليّة، وهذا طيف لون شائع في حجر فلسطين، ارتفاعه 32 سم، أمّا عرضه فهو 23 سم، بينما العمق32 سم. يجلس الرأس على رقبة ولكن بذات المقطع الأفقيّ، حيث هي من الأمام الذقن وأسفل الوجه ومن الخلف الرقبة، أمّا الوجه فيحتوي على فم وأنف وعينين وجبهة، أمّا الأذنان فقد غُيِّبتا، وهنالك شعر في أعلى الرأس. لا نستطيع تمييز ضربة الإزميل عامّة، إذ إنّ مسطّح الرأس ككلّ أملس غير لمّاع، إلاّ أنّ التجويفات، أولية للفم وللعينين، والنتوءات، والشفة السفلى والفم والشعر، توحي بعمل إزميل دقيق.

إنّ النِّسب بين أبعاد أعضاء الوجه والرأس في هذا العمل تُرَكِّب وجهًا إنسانيًّا، ولكن هذا الوجه هو خارج المدى الطبيعيّ الممكن لما هو وجه. يبدأ الوجه مباشرة بالفم، وهذا الفم، وإن جرت موضعته في الموقع الطبيعيّ له،ّ حجمه بالغ الصغر بعلاقاته النسبيّة مع مسطّح الوجه والرأس وسائر الأعضاء، شفته السفلى مدلاّة إلى الأمام السفليّ، أي بشكل قوس، أمّا الشفة العليا فتكاد لا تلاحَظ بصريًّا، وكأنّ الفنّان ثناها إلى داخل تجويف الفم. بين الشفة العليا وبداية الأنف هنالك مساحة عريضة. يبدأ نتوء الأنف بشكل حادّ مشكّلاً زاوية قائمة حتّى أرنبة الأنف ليلتحم بزاوية قائمة، أيضًا، تُدَوَّر لتشكّل الجزء السفليّ من الأنف كنصف دائرة مدبَّبة، وهذا الخطّ الافتراضيّ يتفرّع في اتّجاهين، الأوّل يمتدّ ليشكّل الطرفَين السُّفلِيَّيْن الخارجيَّين للأنف، حيث يشكّلان نصف دائرة إلى الأعلى، وهما الخطّان الوحيدان اللذان يتحوّلان من الافتراض إلى الحفر في هذا العمل. يصعد الأنف باتّجاه الأعلى مدبَّبًا، ليأخذ هذا التدبّب بالانحسار، إلى حدّ تشكيل شبه زاوية، مع الصعود إلى أعلى حتّى يجتاز منطقة ما بين العينين والجبين، إلى أن يصل إلى مقدّم الرأس ويلتحم به بشكل شبه قائم. هذا الشكل من صناعة الأنف وخطّه العلويّ المفترض يقسم مسطّح الوجه إلى مساحتين أساسيّتين، يمنى ويسرى، تبدآن من هذا الخطّ الافتراضيّ لتمتدّا إلى الخلف الخارجيّ بزاويتين متساويتين في الجانبين، بدرجة تُداني الـ 45. هكذا يتشكّل المقطع الوجهيّ الأماميّ بهرميّةٍ ما ممتدّةٍ على طول المقطع الذي يبدأ من أسفل الأنف إلى مقدّم الرأس. أمّا العينان فهما عبارة عن تجويفين غير متماثلين، إذ يبدو الأيمن أعمق وأقرب إلى شكل العين الطبيعيّة، بينما التجويف الأيسر ليس بعميق، وملامحه غير واضحة الشكل، والتجويفان لا يقعان على الخطّ الأفقيّ ذاته، إذ العين اليسرى تبدو في موقعها، بينما اليمنى حُفِر تجويفها أسفل الخطّ الأفقيّ الذي تحدّد باليسرى. أمّا الجبين فقد اتّخذ شكلاً هندسيًّا، حيث جرى تحديد مقطعيه بخطّ مدبَّب لكنّه أقرب إلى الزاوية القائمة، وهو بهذا أقرب إلى الهرميّة كما أشرنا آنفًا. في ما يتعلّق بالشَّعر، لم يوضَّح منه إلاّ الغرّة، التي صُفِّفت بإتقان وأناقة انسيابيّة، حيث تبدأ من وسط مقدّمة الرأس بجزء علويّ مدبَّب لتمتدّ إلى الجهة اليمنى منه منخفضة بشكل تدرّجيّ إلى أن تلتحم بكتلة الرأس في الجهة الجانبيّة اليمنى منه. أمّا الجزء الخلفيّ للرأس فهو عبارة عن منطقة هرميّة توازي الشكل الهرميّ الأماميّ لكن باتّجاه معاكس.

تتركّب كتليّة الرأس من ثنائيّتين بصريّتين، العلويّ والسفليّ، من جهة، والأيمن والأيسر، من جهة أخرى، إلاّ أنّ كلتيهما تعملان وفق المنطق الأسطوانيّ الطوليّ. فالجزء السفليّ يبدأ من قاعدة التمثال حتّى الخطّ الأفقيّ الذي يتشكّل من أسفل نقطة من التدوير الأيمن، وهذا الجزء منحوت وفقًا للشكل الأسطوانيّ دون أن يجري التحوير عليه، بينما الجزء العلويّ من التمثال، الذي يبدأ بالخط الأفقيّ ذاته، هو عبارة عن أسطوانة جرى تدوير جانبها الطوليّ  الأيمن، هذا التدوير الذي يبدأ من أعلى الرأس، حيث هو عبارة عن امتداد خطّ الغرّة باتّجاه الأسفل بشكل منحنٍ، إلى أن يصل إلى منطقة أسفل الجفن وبداية الوجنة. إنّ الفم والغرّة يكوّنان نقطتي/عضوي توازن بصريّ لثنائيّة العلويّ والسفليّ، حيث إنّهما لا يجلسان على الخطّ العموديّ ذاته، الفم في وسط الخطّ الأفقيّ التحتيّ للعمل، بينما الغرّة تموضعت على يمين وسط الخطّ الأفقيّ العلويّ، وبذلك لا نشعر بحرج بصريّ بسبب الانحناءة الدائريّة في يمين العمل، والتي تخرج عن خطّ الأسطوانة العموديّ المستقيم، ذلك الخطّ الذي يحدّد الأسطوانة في هذا الجانب منها. ومن هنا أيضًا، أي من منطق التوازن البصريّ، جرت مَوْضَعة العين اليمنى تحت الخطّ الأفقيّ الذي حدّدته العين اليسرى. أمّا ثنائيّة الأيمن والأيسر، فالخطّ الفاصل بين مقطعيها هو الخطّ المدبَّب الذي ندركه بصريًّا من نصف الأنف فما فوق. الجانب الأيسر هو عبارة عن أسطوانة، لم يجرِ تغيير شكلها المنطقيّ، بينما الجزء الأيمن حافظ على منطقه الأسطوانيّ عدا الانحناء التدويريّ لنصف خطّه العلويّ الخارجيّ. بهذا يبدو الرأس ككلّ منتصبًا، مع ميل جزئه الأيمن إلى اليمين باتّجاه الأسفل بدرجة أقرب إلى الـ 45. من هذه التفصيلات تبدو كتليّة الرأس، بالإضافة إلى الملمس الناعم للمسطّح ككلّ، بحالة من الأناقة الانسيابيّة، حيث لا يمكننا إضافة أو إزاحة أيّ عضو أو علاقة من التمثال أو في داخله.

إن الحركة البصريّة الأساس لهذا العمل تتأتّى من ثلاثة محاور انشبكت في عمليّة النحت، هي أعضاء الوجه ومنظومة العلاقات فيما بينها، والتغليف الأملس الناعم لمسطّح العمل، وكتليّة الرأس. فبينما تنبني المنظومة العلائقيّة للعلاقات الداخليّة بين الأعضاء على التوازن البصريّ، يرتقي ملمس العمل بهذا التوازن من خلال بعث حركة رافدة لهذا التوازن من خلال نسيج وشائجيّ ملتحم لا يحتمل الخطّ النافر والفظّ؛ والمقصود أنّه في هذا النسيج ليس ثمّة مكان /زمان لضربة الإزميل الخام، أمّا كتليّة الرأس فتقوم من خلال أسطوانيّتها بتقعيد دائريّ لهذه الحركة بحيث تضفي عليها هدوءًا فراغيًّا ما، من جانب، والميل إلى الجهة اليمنى، من خلال الانحناءة الدائريّة، بالرغم من تكثيفه من خلال إبرازه حجمًا وكسره الواضح للخطّ العموديّ المحدّد للمنطق الأسطوانيّ، إلاّ أنّ الفنّان تمكّن -من خلال مَوْضَعة الغرّة والعين اليسرى، بالشكل الذي وضّحناه أعلاه- من أن يخفّف حدّة التكثيف ويضفي عليها الأناقة المبتغاة من خلال دائريّة الإزاحة التحويريّة على المنطق الأسطوانيّ للعمل ككلّ.

إن التناقض المضمونيّ الشكليّ، بين كون الأعمى النقيضَ التامّ لما هو وجه صحّيّ ومن ثَمّ أنيق، والعمل النحتيّ الذي شُكِّل بأناقة شبه كاملة، يحيل إلى إيقاعيّة هذا العمل المتولِّدة عبر العلاقة المتوتّرة بين التوازن البصريّ، مادّيًّا، وغياب البصر، عضويًّا. من ثَمّ، يبني على هذا المستوى، ويجاوره أيضًا، الحقل الاجتماعيّ الذي يحمل هو كذلك تناقضًا موازيًا، ذلك التناقض بين اكتمال الشكل في حال خلل الوظيفة، حيث إنّ المجتمع لا يقبل الخلل الوظيفيّ ويُقْصي حامله إلى أطراف تخومه، أي يفصله وظيفةً وشكلاً عمّا هو تحديد للسوِيّ المكتمل، وفي هذا العمل نرى أنّ الفنّان لحَمَ الخلل بنوع من الشكل الذي لا نستطيع إلاّ قبوله اجتماعيًّا، وهنا يتشكّل التناقض غير القابل للحلّ بمعايير المجتمع كما نعرفها. في المستوى الجماليّ، نرى أنّ هذه التناقضات عولجت شكلاً، أي أنّ التناقضات أعلاه تجمّعت في حركة الشكل التفصيليّة بين أعضاء الوجه، كما العامّة للرأس ككلّ، حيث التناقض المادّيّ العضويّ حُسِم عبر توازنات بصريّة بالغة الدقّة، أمّا الخلل الوظيفيّ فقد حُسِم عبر أناقة الأعضاء والمنظومة العلائقيّة العامّة المنبثقة عن الأملس الأنيق. في هذا الشكل من الإنشاء، إنّ الانحناء نصف الدائريّ للمقطع العلويّ الأيسر، والذي يتجاوز الحدّ العموديّ للأسطوانة، هو بمستواه الأوّل عبارة عن تمرين مادّيّ يحتّم توازنات بصريّة دقيقة؛ أمّا في المستوى الثاني، فهو يعوِّض الخلل البصريّ بالسمع، ومن ثَمّ فهو، دلاليًّا، في حال غياب البصيرة يستبدلها بالإصغاء الباحث عنها. فهذا الأعمى الأنيق يصغي متوجّسًا في بحثه عن مرشد بصريّ، من خلال إدراكه السمعيّ، ولكن في عمليّة إصغائه هذه يبدو وكأنّه يبحث في الإصغاء ذاته، أي إنّ العمى الأنيق، والذي -كما أسلفنا- يحلّ التناقض الاجتماعيّ اليوميّ، مكّن صاحبه من أن يطرح سؤال الإصغاء الذي يتجاوز العابرَ إلى ما هو إيقاع في الحركة العامّة للوجود، وهذه -على ما يبدو لي- هي عتبة البصيرة.

.

5

قد يبدو للبعض أنّه ليس ثمّة حاجة للخوض في مركزيّة الوجه في العمليّة الاجتماعيّة، بعامّة، وفي فعل الخلق والإبداع، بخاصّة، ولكن يبقى الوجه هو ذلك المسرح التي تنفَّذ عليه الفصول المركزيّة للدراما الاجتماعيّة، وبذلك فالوجه هو حلبة من الصراعات التي تُعَبِّر عن تلاطم أمواج البحر الجسديّ والنفسيّ والاجتماعيّ (وتساهم في صياغته)، ناهيك عن التعبيريّ، كمفاصل محدّدة من العمليّة الاجتماعيّة التاريخيّة والتي تعمل بالأساس من خلال الاتّصال، بقنواته المتعدّدة. إنّ الإشكال الأساسيّ في هذا النوع من الطرح هو إمكانيّة إقصاء الجسد إلى الكواليس الخلفيّة لهذا المسرح الوجهيّ، فالجسد لا يقلّ مسرحيّةً في تعبيره عن هذه العمليّات، وإن كانت هذه المسرحيّة تعمل وفق منظومة اجتماعيّة دلاليّة مختلفة[6].

بروح من السخرية، يدّعي فردينان برادمي، الشخصيّة الرئيسيّة في رواية لويس فردينان سيلين “رحلة إلى أقصى الليل”، أنّ السرّ وراء جمال نساء الطبقة العليا يكمن في كون هؤلاء الأغنياء تزاوجوا عبر العصور في ما بينهم، بحيث حصروا ملكيّتهم -جَمال المرأة- هذه في فئة اجتماعيّة محدّدة. معماريّة الوجه ليست طبيعة. إنّ التشكّل الهندسيّ للوجه لهو في صلب العمليّة الاجتماعيّة التاريخيّة، بحيث إذا بدت مقولة برادمي/سيلين من نسج المخيال الروائيّ، فهي -ولا ريب- إحدى الآليّات الأساسيّة لهذه الهندسة، أي أنّ بنينة سوق الزواج كفضاء تداوليّ يجري فيه تبادل القيم المادّيّة-الرمزيّة من خلال منظومة علاقات تتناظر مع هرميّة المجتمع العامّة، بهذا فنوعيّة محدّدة من النساء ستتزاوج مع نوعيّة محدّدة من الرجال؛ أمّا بخصوص الجمال، فهذه قضيّة من النوع الذي لا يمكن أن نحصره في ممارسة أو منظومة علاقات واحدة، فهي تتعدّى التحديد إلى تداخل وتنافذ عبر تناظريّ. من هنا فإنّ جمال وجوه نساء الأغنياء، إضافة إلى أجسادهنّ، قد يحيل، دلاليًّا، إلى جوع الفقراء المُتأتّي عبر تزامنيّة الشبع الافتراضيّ للأغنياء من قدرتهم على نكاح النساء الفقيرات. في هذا يُحمّل الوجه ما شاء وما رفض من الأثقال والأحمال التناقضيّة، وذلك على هيئة حلول مؤقّتة ومتوالدة ليُقوّل ما أبى إلاّ أن يطفو سطحًا في عمقه الاجتماعيّ وغوره في الزمن.

في عرض وجوه جواد إبراهيم الثلاثة، تبيّن لنا أنّها تجتمع في شكل أسطوانيّ طوليّ (أو بالأحرى تنطلق منه)، بحيث إنّ عموديّته هي منطق التشكيل الأساسيّ، فمجازًا يصبح المحور العموديّ هو المتن، بينما ينكتب المحور الأفقيّ كهامشه التفصيليّ. كما تبيّن أنّ هذه العموديّة هي آليّة حمل لتناقضات إنسانيّة عبر زمانيّة تتمحور حول التناقض الأساس: الطبيعة/المجتمع. ففي حال الوجه الصارخ، ثمّة عودة بصريّة إلى الطبيعة كرفض للنظام الاجتماعيّ، وتشويه الطبيعة من خلال الجوع الاجتماعيّ في حال الوجه ذي النيع. أمّا الأعمى الأنيق، فهو يقوّض العلاقة الاجتماعيّة الأساس التي تقيم حقل الإقصاء/الاحتواء الاجتماعيّ كحقل عضويّ جسديّ. في هذا يُطرح السؤال حول شكل الالتقاء بين منطق التشكيل المادّيّ، الأسطوانيّ الطوليّ، ومنطق التشكيل الاجتماعيّ، التناقض الأساس بين الطبيعة والمجتمع.

الأعمى (1998) 32/23/32 cm

للوهلة الأولى، يبدو أنّ اختيار الفنّان للمنطق الأسطوانيّ الطوليّ في عمليّة التشكيل، ومن ثَمّ تقعيد الوجوه على المجاز العموديّ لتنحفر قصّتها في التناقض الاجتماعيّ عمقًا فجمالاً، يبدو هذا الاختيار تقليديًّا إلى حدّ بعيد، حيث إنّ العموديّ/العمق والأفقيّ/السطح هي ثنائيّات الحداثة، بامتياز، التي فكّكها وعالجها، تقنيًّا ومعرفيًّا وجماليًّا، العديدُ من الفنّانين في شتّى مجالات الفنّ التشكيليّ، تفكيكًا ومعالجةً قالا، ولا زالا، بانتهاء العهد الحداثيّ، على ما حمل من أشكال جماليّة تردّ بالأساس إلى مفهومَي العمق والثبات، وانبثاق عهد جديد، يحمل الشكل السطحيّ العابر كشكل جماليّ مُؤسِّس للمشروع الما بعد حداثيّ. إنّ النقد الأساس للعمق والثبات الحداثيَّين، من حيث كونهما يحتّمان استخدام موادّ محدّدة وأشكالهما التعبيريّة ومنطق التشكيل المنبني عليهما، ومن ثَمّ الجماليّة المتولّدة عَبْرها، كان يحدّد كلّ هذه كمنظومة سائدة تمارس الحفر من خلال الإقصاء/الاحتواء للممكن الجماليّ في التشكيل الاقتصاديّ الاجتماعيّ الراهن. في هذا لم يعد الإنتاج الفنّيّ خارجيًّا، بل حمل النظام ذوقًا وذائقة حسّيّة عبر الاتّصال غير المنطوق وغير الممكن تلفُّظه. إنّ الحساسيّة الجديدة، إن جاز التعبير الخراطيّ،[7] لما بعد الحداثة، التي قالت بهذا النقد، لم تدرك أنّها هي بذاتها شقٌّ من تحوّلات في الاقتصاد الاجتماعيّ، بالأساس في تقنيّات الاتّصال بذاتها، ومن ثَمّ لِذاتها، بتسلّطها على مسرح الفعل الاجتماعيّ. يقف عدم الإدراك هذا سدًّا منيعًا في وجه الشكل الجماليّ الممكن، بحيث انحصر هذا في مقولات عكسيّة تشبه -إلى حدّ بعيد- سلوك الرفض الذي يميّز المراهق في علاقاته مع السلطة، ذلك الذي يقف كلّما طُلب إليه الجلوس، فالسطح هو رفض للعمق، ولكنّه لم يرتقِ بَعْدُ إلى حالة من القطع النقديّ الجماليّ معه. إنّه يُراهق كنتيجة لشرطه الاقتصاديّ الاجتماعيّ. من هنا، ليس من قبيل المصادفة أنْ تَمَأْسَسَ هذا المشروع الجديد بسرعة لافتة للنظر، خلال أقلّ من عَقدين، وأصبح نظامًا له منظوماته الدلاليّة والجماليّة التي تقف كحرّاس الجنّة والنار على أبواب لغته وبلاغته وذوقه وسوقه، كاويةً مَن لا يستقيم معها.

إذا حاولنا أن نتجاوز الانطباع الأوّليّ، الناتج عن انغماسنا في الذائقة الفنّيّة السائدة الما بعد حداثيّة، رأينا أنّ مقولة جواد إبراهيم الجماليّة، في أعماله هذه على الأقلّ، هي عبارة عن نسيج يجمع تحويرات على شكلَيِ الجمال الأساسيّين من العهدين، العمق والسطح، باحثًا في أفق ثالث يردّ إلى تساؤل حول البصيرة الإنسانيّة في شكلها الاجتماعيّ وجذرها، أو شرطها، في الطبيعة. فمن الجانب الحداثويّ ونظام العمق الذي يقف بأساسه، لدينا الحجر الخام والإزميل والعمل الإنسانيّ، كمادّة وكأداة وشكل من الطاقة، التي تنشبك في عمليّة هندسيّة منبنية على خطاطة أسطوانيّة طوليّة، وهي مجاز تشكيل عموديّ يحفر في العمق، وهذه تُؤسِّس لنوع من التوازن المادّيّ البصريّ الذي يعتمد مقاييس نسب العلاقات الداخليّة للوجه الإنسانيّ الطبيعيّ كنقطة مرجعيّة. هذه العلاقة التي تعتمد التوازن من خلال المرجعيّة الطبيعيّة للتشكّل تفرز وجهًا ذكوريًّا ذا تعابير اجتماعيّة بحتة، أي الصراخ والنيع المنتفخ والأعمى، وأخيرًا طريقة العرض وعلاقة التمثال بالبيئة عامّة. أمّا من الجانب الآخر الما بعد حداثيّ، فلدينا: غياب الخطّ كعامل تشكيليّ وقيام الضربة الإزميليّة الواحدة كوحدة تشكيل؛ التحوير على المجاز الهرميّ بأسطوانيّة الأسطوانة؛ إبراز تجسيد مادّيّ شكليّ للمنطق الأسطوانيّ الطوليّ (في الصراخ من الخلف، في النيع والأعمى بالعمل ككلّ)؛ إلغاء الجزء القاعديّ من “البَسْط” بحيث يصلح الرأس لكلّ الأجساد؛ التحوير المحدّد على تشكيل أعضاء الوجه دون تفاصيلها الداخليّة؛ وأخيرًا مركزيّة الوجه/السطح في الحدث النحتيّ مقابل ثانويّة الكتلة الرأسيّة ككلّ. هذه الأبعاد المختلفة للأعمال التحمت بشكل متّسق ومنساب ولم تخلق حالات هجينة، بعكس المتوقّع، بل حافظت على درجة عالية من التوتّر الجماليّ الكامن غير الفظّ، ذلك الذي لا يميّز بين شكل ومضمون، بل يخترق حدود المجاليّة إلى كلّيّة العمل المتّسق، وهذا عادة ما يميز أعمال أسلوب أو فترة أو فنّان محدّد في مرحلة اكتمالها. بذلك لا بدّ لنا أن نستخلص منطق الالتحام التشكيليّ الذي احتوى هذه الأبعاد وصاغها في تفاصيلها، كما في كلّيّتها، كوحدة تعبير جماليّة، تبدأ من المادّة لتفتح حد شوف البصيرة، بما هي عتبة الخلق إلى منصّة الخالق.

من هنا، من الممكن أن نرى بهذه الأعمال تحويرًا في نمط التشكيل الفنّيّ الذي يعتمد العودة إلى النظام الجماليّ القديم، وتوظيفه كمقولة جماليّة في نقد ما هو جديد، وهذا النمط بحدّ ذاته، إذا نظرنا إلى تمفْصُلاته في تاريخ الفنّ، يميّز المراحل الانتقاليّة حيث يُستخدَم رافعةَ بحث تجاوزيّة للشرط الاقتصاديّ الاجتماعيّ في حقله الجماليّ شبه المستقلّ باقتصاده السياسيّ للذوق كقيمة استعماليّة، أحيانًا، وتبادليّة، في أحيان أخرى. هذا فيما هو ميّزات عامّة، بحيث يبقى التحدّي الإبداعيّ في التجسيد الطربيّ لها، في النغمة التي ترجُّ، متذبذبةً، عينَ المتلقّي ليسيل لعابه دون أن يعي ذلك السيلان المتعدّد الغدد والقنوات والمَخارج. إنّ توليد الصرخة الحجريّة المُطلقة، ورنّة المقموع الساخرة، والأعمى الأنيق، هي تحويرات على أسلوب محدّد في اكتماله كأداة بحث جماليّة، تتطلّب -لفهم اكتمالها- مراجعةً تاريخيّة لأعمال سابقة للفنّان، وهذا موضوع لمقال آخر، وسنكتفي هنا بالإشارة إلى إنّنا نسعى لاستخلاصها كشكل حركيّ ذي نغمة ورونق، في إيروسيّته كما في عنفه، والأهمّ: في اتّحادهما جَمالاً. فهذا الأسلوب يعتمد التعبير العموديّ كمسطّح للحدث الجماليّ، أو -إن شئت- يقول في العمق الاجتماعيّ سطحًا في الطبيعة، يُحرِّك المتلقّي بينهما، تارة بغِلَِظ الكثافة الوجهيّة، وأخرى بنعومة الكثافة الكامنة، كمن يمشي على حبل دقيق شُدَّ على مسرح إحداثيّات حياة القاع، فهو يرقص بالحجر، خفّة القمع التي لا تحتمل، حدّ النشوة.

.

6

هوامش متنيّة.

بالطبع، فالفلسطينيّ لا يصرخ، لكن التجربة هي بأساسها صراخ من النوع الطويل المتواصل عموديًّا، والمتقطّع أفقيًّا.

عفوًا على غفو اجتاحنا، وباءً، نسينا به خدودًا مدلاّة بعمق أخاديد منحدرات أريحا.

وعذرًا، فأنا من شدّة البصيرة أعمى، وسخ، سليط، فظّ، ألحس بقايا إيروسية تجمّعت في مواقع نشوة الأمس.

لا لوم، لا لوم، فأنا دايدالوس المتلصّص على العري الملكيّ في عرينه، أو ما شابه من بيوت الدعارة.

.

7

تذييل/إيبيلوج.

رام الله مدينة قبيحة، وأجمل ما فيها من قبح أسودها، كما القدس بقبّتها، أو هكذا بدت لي بعد المعاينة الليليّة، فأخذت رؤوس جواد، في الليلة التالية، بترت من الأسود قممها، وأجلستُ الثلاثة مُحْكِمًا ربطها، وهربت لا ألوي على شيء، فأنا أخاف العسكر. مرّ وقت طويل قبل أن ينتبه أحد إلى ما جرى، إلى أن سجَّل مخبر مجهول في تقريره: “يا سيّدي الضابط، هنالك أسود جديدة في المنارة”.

الألوَق (2004) 25/32/43 cm

الأعمى (1998) 32/23/32 cm


[1]  دايدالوس هو النحّات الأسطوريّ الأوّل- بحسب التراث الإغريقي، كما سجله هوميروس في الإلياذة-. ولقد نحت بقرة خشبيّة لكي تقوم باسِفاي، زوجة الملك ماينوس، بمضاجعة ثور داخلها. انظر:

Frazier, N., 2001. The Penguin Concise Dictionary of Art History.London: Penguin.

[2]  هذا التشبيه يعتمد على الدارج في الريف الفلسطينيّ عندما يُشبَّه شخص ما بأنّه “قَرْطَة”. والقرطة هي جزء غليظ وصلب ودائريّ من جذع شجرة، وفي المعتاد يكون أميل إلى القصر منه إلى الطول.

[3]  النيئ/المطبوخ هي ثنائية ليفي-شتراوس حول التحويرات الممكنة على العلاقة ما بين الطبيعة والثقافة، للتوسع أنظر:

Levi-Strauss, C., 1992[1964]. The Raw and the Cooked: An introduction to a science of mythology. London: Penguin.

[4]  إنّ المصطلح المستخدم في اللهجة الفلسطينيّة الريفيّة للوجنة هو “النِيْع”. واللقب “أبو نيع” شائع في القرى والبلدات الفلسطينيّة المختلفة، وهو يُطلق –في المعتاد- على كلّ من له وجنة منتفخة و/أو من حصلت له حادثة بخصوص وجنته، وجرت عمليّة تصنيعها كجزء من ذاكرة المجتمع المحلّيّ.

[5]  انظر أعلاه ص 5.

[6]  هنالك العديد من الدراسات حول هذا الموضوع. على سبيل المثال لا الحصر، انظر:

Bakhtin, M. M., 1984. Rabelais and his World.Bloomington:IndianaUniversity Press.

Butler, J., 1993. Bodies that Matter: On the discursive limits of “sex”.London: Routledge.

Douglas, M., 1978. Purity and Danger.London: Routledge & Kegan Paul.

[7]  نسبة إلى مقولة إدوار الخراط النقدية، أنظر كتابه:

الخرّاط إدوار (). الحساسية الجديدة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. قراءة جمالية رائعة ، جعلتني أرى المنحوتات الفنية بطريقة أخرى، وهو تمرين ناجح في خلق ملامح وأسس للتحليل الفني الذوقي للهواة وغير الهواة، مكنتني هذه القراءة في خلق أرضية انطلاق لقراءتي لأي منحوتة، تساعدني في خلق أكبر عامل مشترك مع صاحب المنحوتة، لتعيد خلق الاستعارات والغايات كلما نظرت للمنحوتة، ليخرج الحجر من جموده وصنمه إلى حيويته في الإيحاء، هذه هي المفارقة والجمع بين التناقضات، كيف للكتلة المصمتة أن تعبر بطريقة حسية مرهفة، تبقى للوهلة الأولى في حالة ذهول أمام هذا التناقض، لتنطلق بعدها للبحث عن الجميل، هي قراءة ساهمت في خلق أدوات للبحث عن الجمال حتى في تلك التي تكون أبعد ما يكون عن الجمال، هي نفي للاحتكار الرمزي والاقتصادي للجمال والدعوة إلى “مشيعته”.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>