مقدّمة: مسار تحديد ما هو فلسطينيّ/ إسماعيل ناشف

عشية صدور كتاب د. إسماعيل ناشف الجديد، “معمارية الفقدان- سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة”، ننشر هنا مقدمة الكتاب الصادر عن دار “الفارابي”، على أن ننشر لاحقا مادة منفصلة عن الكتاب نفسه.

مقدّمة: مسار تحديد ما هو فلسطينيّ/ إسماعيل ناشف

محمد الحواجري، "قرارات * 1 * 2 * 3"، أكريليك على قماش، 90*90سم، 2007، من معرض "روح وروائح"

-

|إسماعيل ناشف|

 1

إسماعيل ناشف

إنّ كلّ محاولة في تحديد ملامح ومميّزات الثقافة الفلسطينيّة المعاصرة تصطدم بإشكاليّة أساسيّة من الممكن اعتبارها الميزة الفارقة لهذا المجتمع. والإشكاليّة هي أنّ هذا المجتمع لا تجمعه وحدة جغرافيّة سياسيّة واحدة ذات قاعدة اقتصاديّة اجتماعيّة منتجة، بل تجمعه ثقافة عامّةٌ ما. فمنذ نكبة 1948، تميَّزَ المجتمع الفلسطينيّ بكونه مُجزَّأً، لا تجمع هذه الأجزاءَ بنْيةٌ اجتماعيّة اقتصاديّة واحدة مركزيّة. الأجزاء المختلفة، كلّ بحسب سياق موقعه في الصراع الاستعماريّ، ارتبطت ببنى اجتماعيّة اقتصاديّة مختلفة. تميّزت أغلب هذه الأجزاء بكونها تعيش على هوامش البنى الاجتماعيّة الاقتصاديّة السائدة في أمكان تواجدها. فنرى، على سبيل المثال، أن الفلسطينيّين المقيمين في المناطق التي احتُلّت في عام 1948 يعيشون على هامش البنْية الاجتماعيّة الاقتصاديّة الإسرائيليّة، أمّا قطاع غزّة فلقد عاش على أطراف البنْية الاجتماعيّة الاقتصاديّة المصريّة لغاية 1967، ومن ثَمّ الإسرائيليّة لغاية 1993. وهذا بالطبع ينطبق على وضع مخيّمات اللجوء في المجتمعات العربيّة المختلفة، حيث يعيش هذا الجزء من المجتمع الفلسطينيّ على هوامش البنى الاقتصاديّة الاجتماعيّة لهذه المجتمعات وفي أطرافها. قد يبدو للوهلة الأولى أنّ تجربة منظّمة التحرير الفلسطينيّة، والسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة لاحقًا، استثناء؛ فهُما تشكّلان بنْية اقتصاديّة اجتماعيّة مركزيّة لجزء كبير من المجتمع الفلسطينيّ. إلاّ أنّ فحصًا أوّليًّا لهذين الكيانين الفلسطينيّين يفضي إلى أنّهما لم يخرجا عن القاعدة الضابطة لهذا المجتمع. فالمنظّمة انبنت من خلال التمويل العربيّ بالأساس، أمّا السلطة الوطنيّة فانبنت، ولا زالت، من التمويل الأجنبيّ. ومن الممكن القول إنّه -بغضّ النظر عن الجهة المموِّلة- في التمويل شَرطيّة هامشيّة هي ميزته الأساس تضبط العلاقة بين طرفيه بحيث يبقى الطرف المتلقّي، إلى حدّ بعيد، تابعًا للطرف الذي يُموِّل. في مقابل هذه الهامشيّة الاقتصاديّة الاجتماعيّة المبعثرة بحسب تفاصيل الصراع الاستعماريّ، يبقى المجال الثقافيّ الرابطَ الأساسيَّ للأجزاء المختلفة لهذا المجتمع. فبالرغم من التنوّع والتحوير، وأحيانًا الاختلاف، يبدو أنّ هنالك إطارًا ثقافيًّا عامًّا يجمع الفلسطينيّين/ات عبر ضبط آليّات إنتاج وتوليد وتداول المعاني التي تشكّل محورًا مرجعيًّا لهم كجماعة تاريخيّة. والسؤال كيف تنعكس هذه الميزة الأساس على البحث في هذا المجتمع وثقافته، وذلك إن كان سؤال البحث المركزيّ هو: كيف تعمل هذه الثقافة الفلسطينيّة؟ بعبارة أخرى، ما هو/هي المبدأ/المبادئ الضابط/ة لعمليّات إنتاج وتوليد المعاني في المجتمع الفلسطينيّ؟ فالهدف الأساسيّ لهذا البحث هو استخلاص هذه المبادئ الضابطة للثقافة الفلسطينيّة، وتبيان طرق عملها من خلال فحص حالات عينيّة تتحقّق فيها اجتماعيًّا وتاريخيًّا.[1]

تقوم الحداثة المعرفيّة التقليديّة على الافتراض المنهجيّ النظريّ الأساسيّ الذي فحواه أنّ الدولة تحتضن القوميّة التي هي بدورها تشمل المجتمع الذي يحتوي الثقافة. في أعراف هذا البردايغم، لا يمكن لمنظومة ثقافيّةٍ ما أن تنتج وتتولّد دون أو خارج الإطار السياسيّ الاجتماعيّ لدولة القوميّة، وَ/أو بنْية اقتصاديّة اجتماعيّة تضبط الدولة والثقافة معًا.[2] ممّا لا شكّ فيه أنّ الحداثة المعرفيّة المتأخّرة قامت بتفكيك هذا البردايغم، وحاولت خلق نماذج ذات ليونة ورشاقة عالية تستطيع أن تستوعب فكّ الارتباط بين نموذج الحداثة التقليديّة العموديّ، بنية اقتصاديّة اجتماعيّة /دولة /قوميّة /مجتمع /ثقافة. ولكن هذه الرشاقة النقديّة بقيت محاصَرة في تجربة المدينة الما بعد حداثيّة المعولمة، حيث إنّ الحركة الثقافيّة الأساس خارج المجتمع القوميّ الحداثيّ أخذت شكلاً موازيًا لحركة الرأسمال العالميّة التي تتجاوز حدود دولة القوميّة. بهذا، في الحقيقة، لم نتجاوز النموذج الحداثيّ التقليديّ، بل وسّعناه في الاتّجاه الجديد للبنْية الاقتصاديّة الاجتماعيّة وما يتبعها من إعادة ترتيب للعلاقة بين الدولة القوميّة المجتمع والثقافة.[3] والسؤال، في بحثنا هذا، هو حول الإشكاليّة الفلسطينيّة الأساس التي تقوم على فصل أساسيّ بسبب الصراع الاستعماريّ بين بنْية اقتصاديّة اجتماعيّة، من جهة، وحضور ثقافيّ منتِج ومولِّد للجماعة الفلسطينيّة بما هي تحوير على شكل المجتمع الحديث، من جهة أخرى. والمهمّ لنا هنا أنّه في التحوّل من المحلّـيّ إلى العالميّ هنالك فكّ للارتباط الذي يُخضِع المنهج والنظريّة للوعاء القوميّ دونما أيّ قدرة على اتّخاذ موقف بُعد نقديّ. إنّ فكّ الارتباط هنا يعني أنّ العلاقة هي تاريخيّة وليست ضرورة نابعة من بنْية الظاهرة القوميّة وَ/أو المنهج والنظريّة بما هما اللبِنة الأساس في الإنتاج المعرفيّ الحديث، والعلاقات المركّبة بينهما. لنخْلص من هذا إلى أنّ “الإشكاليّة” الفلسطينيّة هي في حقيقتها تحوير على التناقضات الأساس في بنْية النموذج الرأسماليّ في شكله التقليديّ: بنْية اقتصاديّة اجتماعيّة /دولة /قوميّة /مجتمع /ثقافة، والتي تصبح في الحالة الفلسطينيّة ثقافةً تسعى لتأسيس مجتمع قوميّة ذي دولة ذات بنْية اقتصاديّة اجتماعيّة. إنّ المصطلح التحليليّ “تحوير” هو مدخل لتحييد علاقات القوى التي أدّت إليه، ولكن إذا ثبّتنا التحوير نعود للمقولة الأساسيّة أنّ النظام الاستعماريّ في فلسطين، بما هو امتداد للنظام الرأسماليّ العالميّ، بُنِيَ على تقويض البنْية التحتيّة للمجتمع الفلسطينيّ آنذاك، في 1948 وما قبلها.[4]

إذاً إنّ ما يبدو على أنّه استقلاليّة الثقافيّ الفلسطينيّ من حيث علاقاته ببنْية اقتصاديّة اجتماعيّة تحتوي دولة قوميّة في داخلها مجتمع، إنّما هو بنْية مشروطة بشكل النظام الاستعماريّ في فلسطين.[5] إنّ النموذج المتعارف عليه في الأدبيّات والذي يقول بتبعيّة الثقافيّ للسياسيّ في المجتمع الفلسطينيّ تحديدًا هو في حقيقته فرض لنموذج الحداثة المعرفيّة التقليديّة على الحالة الفلسطينيّة.[6] فمنذ عمليّة التفكيك الفعليّة للبنى الاقتصاديّة الاجتماعيّة للمجتمع الفلسطينيّ في 1948، نرى أنّ النظام السياسيّ الاجتماعيّ الثقافيّ الفلسطينيّ من حيث كيانيّته وعلاقاته بالمجتمعات والدول التي تجاوره، بالإضافة إلى شرطه الاستعماريّ، مرّ بثلاثة مراحل أساسيّة من الممكن تحقيبها كالتالي: المرحلة الأولى ما بين 1948 وَ 1967 وتميّزت للجزء الأكبر من المجتمع باختزال الحياة إلى حالة لجوء في المخيّمات في الدول العربيّة المجاورة، وبالتبعيّة المباشرة وشبه الحكم العسكريّ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة والحكم العسكريّ المباشر في المناطق التي احتُلّت عام 1948. الثقافة في هذه المرحلة تبدو في حالة عامّة من التخبّط والبحث إلى جانب الممارسات الثقافيّة التي ميّزت مرحلة ما قبل 1948 واستمرّت لما بعدها. في مواقع تواجد الأجزاء المختلفة للمجتمع الفلسطينيّ، نرى أنّ منظومات المعاني وآليّات الإنتاج والتوليد المنبثقة عنها لم تعد قادرة على العمل في الواقع الجديد؛ فهي أصبحت جزءًا من النظام القديم الذي جرى هدمه. فبعد صدمة المأساة كان هنالك بحث فعليّ عن أُطُر المعاني الممكنة لما هو نظام جديد، وتميّز البحث بتراوُحِه ما بين الاندماج في الأطر القائمة من قوميّة عربيّة وإسلاميّة، وحتّى أمميّة مثل ما لدى جزء من الفلسطينيّين في المناطق المحتلّة عام 1948، وما بين محاولة البدء في تشكيل أُطُر فلسطينيّة لإنتاج وتوليد المعاني ينبع من تجربة النكبة وما تلاها من تفكيك البنْية الاقتصاديّة الاجتماعيّة وما تحمله من أشكال الفعل الجماعيّ الفلسطينيّ. ولقد استمرّ هذا البحث بأشكال متعدّدة حتّى أواسط العَقد السادس من القرن العشرين.[7] فمنذ أواسط العَقد الثاني بعد النكبة، بدأت المرحلة الثانية ببروز صعود التيّار الوطنيّ الفلسطينيّ، أي ذلك الذي يعمل على موضعة الجماعة الفلسطينيّة واستقلاليّتها في أساس الإطار الضابط لآليّات إنتاج وتوليد المعاني في المجتمع الفلسطينيّ على أجزائه المختلفة. إنّ أبرز ما يمثّل هذه المرحلة هو عمليّات مَأْسَسَة العمل الجماعيّ الفلسطينيّ في إطار مركزيّ أساسيّ واحد هو منظّمة التحرير الفلسطينيّة. ومن الممكن القول إنّ المنظّمة عملت كشبه دولة، بحيث إنّ منطق العمل البيروقراطيّ الدولانيّ، كما تطوّر في الدول العربيّة المستقلّة حديثًا، هو الذي وقف في أساس كيانيّة المنظّمة. بهذا، إنّ الحقل الثقافيّ لم يكن إلاّ تابعًا من الدرجة الثالثة، بعد العسكر، للحقل الأوّل السياسيّ. هذا، بالطبع، لا يعني أنّه لم تكن نماذج أخرى للعمل الثقافيّ، مثلاً التيّار الإسلاميّ الاجتماعيّ الخيريّ والذي كان آنذاك يرى توليد المعاني في إطار إسلاميّ أمرًا أهمّ من الفعل السياسيّ المباشر، كما اليسار والمثقّفين غير المنظّمين بإطار المنظّمة مباشرة والذين شكّلوا قطبًا حواريًّا ونافيًا في آن للعمل الثقافيّ من خلال أُطُر منظّمة التحرير الفلسطينيّة. لعلّ من أهمّ إنجازات هذه المرحلة، في سياق بحثنا، هو إعادة تشكيل إطار العمل المنتج الثقافيّ وتقعيد الآليّات المنتجة والموَلِّدة للمعاني الفلسطينيّة الجامعة، حيث تم التعبير عنها بالثوابت الوطنيّة الفلسطينيّة والتي شكّلت مرجعيّة التحم عبرها جلُّ هذا المجتمع لثلاثة عقود تلت. لقد شهدت هذه المرحلة محطّات مفصليّة في التاريخ السياسيّ الفلسطينيّ المأساويّ، إلى حدّ بعيد، إلاّ أنّ التاريخ الثقافيّ الذي بدأ تابعًا وثانويًّا للفعل السياسيّ انفصل تدريجيًّا عن هذه التبعيّة ومساراتها المتوقَّعة وبدأ يتشكّل بشبه استقلاليّة عن المجال السياسيّ وإن لم ينفصل عنه تمامًا.[8] استمرّت هذه المرحلة حتّى بداية تسعينيّات القرن العشرين، حيث بدأت المرحلة الثالثة والتي شهدت شبه انهيار للمنظّمة من الناحية الاقتصاديّة والإدارية وبداية توطيد أوسلو،[9] في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وما نتج عنها من جهاز بيروقراطيّ بدأ يحلّ مكان أجهزة منظّمة التحرير المختلفة. هذا الجهاز هو دولانيّ بيروقراطيّ، وهو أكثر تطوّرًا من هذه الناحية ممّا كان عليه جهاز المنظّمة، ولكنّه أكثر تبعيّة، أو قُل إنّ شرط وجوده بما هو شبه دولة هو أن يبقى كذلك في حالة من التبعيّة الاقتصاديّة العسكريّة التامّة للنظام الاستعماريّ القائم في فلسطين.[10] إنّ هذه التشكيلة من تطوير النظام البيروقراطيّ الفلسطينيّ أدّت إلى استخدام آليّات رقابة عميقة وشاملة أكثر يأتي منطقها مباشرة من عمق وشموليّة علاقة التبعيّة مع النظام الاستعماريّ، وهذا ممّا يؤدّي بالضرورة إلى أشكال استلاب ورفض ونفي للنظام وتفاصيله اليوميّة والعامّة. فمن جانب، إنّ المجال الثقافيّ النظاميّ، أي بما هو جزء من النظام السياسيّ الاجتماعيّ متموضع بدرجة ثانية أو ثالثة فيه، لم يمرّ بتحوّلات جذريّة بحدّ ذاته بعلاقاته مع المجال السياسيّ السائد عدا التوسيع والامتداد المتغلغل لمنطق الرقابة.[11] من جانب آخر، إنّ أشكالاً عديدة من الفعل الثقافيّ بدأت تتشكّل بعلاقات مختلفة عن شكل الفعل الثقافيّ النظاميّ بعلاقاته مع السياسيّ كالحقل النظاميّ الأوّل.[12] الاختلاف هو باستقلاليّتها من حيث أرضيّتها المادّيّة، كما من حيث أولويّاتها المضامينيّة، وإلى حدّ أقلّ من حيث معاييرها الشكلانيّة والجماليّة.[13] فقد يبدو من هذا أنّ التحوّلات في الحاضنة الاقتصاديّة الاجتماعيّة المباشرة انعكست مباشرة في تموضع الحقل الثقافيّ تجاه ذلك السياسيّ، كما أدّت إلى تغييرات مباشرة من حيث المضامين. أمّا المَحاور التي تتبع العلاقات التناظريّة بين المجالات المختلفة، ومن أبرزها توازي الاقتصاديّ والسياسيّ مع الشكلانيّ والجماليّ، فإنّ تعقّب التحوّلات فيها لهوَ أكثرُ إشكاليّةً ممّا يبدو للوهلة الأولى، أو أقلهليس بمباشرة المضامين والتموضع مقابل السياسيّ. وستشكّل قضيّة تتبّع منطق عمل العلاقات التناظريّة بين المجالات المختلفة التي تركّب المجتمع الفلسطينيّ منذ بداية تسعينيّات القرن العشرين، أحدَ أهمّ المحاور الضابطة للبحث الذي يقف بأساس الدراسات المختلفة في هذا الكتاب.[14] فالادّعاء الأساس هو أنّ المرحلة الثالثة من تاريخ الثقافة الفلسطينيّة منذ 1948 تتميّز باكتمال عمليّة الانفصال البنيويّ بين الحقل الثقافيّ وسائر الحقول الاجتماعيّة التاريخيّة، وتحديدًا السياسيّ منها. ولأنّ هذا الانفصال من البؤر الأساسيّة في هذا البحث، سأتوقّف عنده بغية توضيح ملامحه.

بدايةً، من المهمّ التنويه إلى أنّ الحقل الثقافيّ الفلسطينيّ لا يزال يتركّب من عدّة منظومات من إنتاج المعاني وتوليدها. هذه المنظومات منشبكة فيما بينها وتضبطها علاقات هرميّة وتناقضات واندماج وحوار، وأحيانًا، تناحر واقتتال مباشر.[15] تلك المنظومة المنبنية على الانفصال بين المجالات المختلفة هي ذات أسبقيّة على سائر المنظومات الفاعلة في الحقل الثقافيّ. هذه الأسبقيّة ناتجة مباشرة عن كون هذه المنظومة هي الحامل الثقافيّ للتحوّلات الأخيرة في حركة رأس المال العالم-محلّـيّة، أي إنّ الانفصال بين الثقافيّ والسياسيّ هو شرط وجود كليهما كفاعلين في الطور الأخير من التشكيلة الاقتصاديّة الاجتماعيّة الرأسماليّة.[16] وتتجلّى عمليًّا الأسبقيّة بجملة من المضامين ذات صلة باليوميّ والتقنيّ المُعاش مباشرة، تحديدًا الثقافة الرقميّة التي تقف في أساس الصورة /الصوت الطاغية،[17] من جانب، وبإخضاع سائر المنظومات العاملة في إنتاج المعاني وتوليدها لمنطق الانفصال، أي تحدّد قيمة هذه المنظومات بدرجة قدرتها على الانفصال عن السياسيّ، وهنا بالطبع المثال الأبرز هو “الشعار” الذي لا يمكن له أن ينفصل عن السياسيّ فيصبح ثقافة “مبتذلة”، من جانب آخر. من الممكن القول اليوم إنّ هذه الطريقة من عمل المجال الثقافيّ أصبحت ناضجة من حيث مقوّماتها وعلاقاتها وهي تعمل بنجاعة لافتة للنظر نسبة إلى سرعة انتشارها في أوساط فلسطينيّة تبدو بحسب معايير النظام الفلسطينيّ القديم وكأنّها لا تمتّ بعضها بصلة لبعض من حيث أماكن تواجدها، وَ/أو من حيث الطيف الفكريّ الإيديولوجيّ المنتمية إليه. فعلى سبيل المثال، نرى أنّ ثقافة المنظّمات غير الحكوميّة، القائمة على الفصل، في رام الله وحيفا وغزّة هي ذاتها بالمستوى البنيويّ الضابط لعملها، وهذا ينطبق على التيّار الإسلاميّ كما على ذلك الوطنيّ الفلسطينيّ.[18] تشكِّل عمليّة البحث في الانتقال إلى هذه المرحلة الثالثة، كما عمليّة نضوج واستتباب منطق العمل الثقافيّ الانفصاليّ، أهمّ المحاور الضابطة لإطار البحث والدراسات التي تركّب هذا الكتاب.

قد يكون هذا الشكل من التأريخ للثقافة الفلسطينيّة، بعلاقاتها المتشعّبة مع مستويات الواقع الاقتصاديّ الاجتماعيّ الناتج عن الشرط الاستعماريّ في فلسطين، مدخلاً تحليليًّا مهمًّا لفهم واقع سياق هذه الثقافة. لكن هذا المدخل يبقى بحاجة إلى فحص نقديّ لتبيان حدود قدرته على فهم وتفسير الواقع الثقافيّ الفلسطينيّ. إنّ تحقيب التاريخ الثقافيّ بحسب الأحداث السياسيّة يختزل، وبالذات في السياقات الاستعماريّة، الحجم والعمق للتجربة التاريخيّة الاجتماعيّة من حيث أبعادها الوجوديّة الباحثة والساعية إلى لحظة انعتاق، عامّة، ومن الورطة الاستعماريّة، خاصّة.[19] المسعى الثقافيّ يحمل سائر تناقضات المجالات الاجتماعيّة الأخرى مترجمًا إيّاها إلى لغته هو، بهذا فالثقافة هي سطح بحيرة تطفو عليه التناقضات الأساسيّة البانية للمجتمع، ولكنّها تطفو بمنطق الوسيط المائيّ أي بمنطق عمل الثقافة. لتسعى، من ثَمّ، لعرضها وللتعبير عنها عبْر عمليّات تشكيل مختلفة ومتنوّعة بحسب الشرط التاريخيّ للثقافة العينيّة. بهذا، إنّ العمل الثقافيّ يتميّز بكونه تعبيريًّا، بحيث تتشكّل البنى الثقافيّة المختلفة عبْر التعبير عنها، أو بعبارة أخرى: عمليّة التشكيل الثقافيّة تعمل وَفق مبدأ تعبيريّ. هذا المبدأ يعمل على نحوٍ مستقلّ تناظريًّا عن مجرى التاريخ الاقتصاديّ وذلك السياسيّ اللذين شكّلا الحاضنة الأولى له. سننتقل في ما يلي للوقوف على أهمّ مفاصل العمل الثقافيّ بما هو تعبير مُشكِّل، عامّة، لنطرح من ثَمّ بناءًً على ذلك مقاربة أوّليّة لطرق عمل التعبير المُشكِّل في الحقل الثقافيّ الفلسطينيّ في مرحلته الثالثة تحديدًا.

.

2

غلاف الكتاب "معمارية الفقدان- سؤال الثقافة الفلسطينية المعاصرة"

إنّ ما يحدّد منطق عمل المعنى هو طبيعة مادّيّته الأولى، أي تلك المادّة الذهنيّة من حيث هي لا-مادّيّة بالمستوى الفيزيقيّ المباشر.[20] فالذهن بما هو تشكيل اجتماعيّ تاريخيّ يعمل كوعاء /كحلبة /كبوتقة تصهر وتعيد إنتاج وتوليد ما يصلها من الواقع الحسّيّ، ولكن بصهرها هذا لا يفتأ الذهن العينيّ ذاته يتشكّل من جديد.[21] هذا التشكيل الذهنيّ بدوره يشير إلى ما هو خارجه، وبإشارته هذه يبني ذهنيّته التي تقف بأساس منطق عمل المعنى بما هو آليّة ذهنيّة محدّدة. فكما أشرنا أعلاه، منطق عمل المعنى هو تعبير يُشَكِّل، أي إنّ فعل الإشارة إلى الشيء خارج فعل الإشارة ذاته هو ما يُشَكِّل المعنى. ليس ثمّة اختلافات بين مادّة المعنى في ثقافات مختلفة، بل نرى أنّ هذا ينطبق على مختلف المجموعات الاجتماعيّة بكونها كذلك. ففعل التعبير هو أحد المميّزات الفارقة لِما هو اجتماعيّة المجموعة الاجتماعيّة الإنسانيّة مقارنة مع مجموعات أخرى موجودة في الطبيعة. من هنا، نحن لا نجد اختلافًا في منطق عمل المعنى كتعبير مشكِّل إنْ قارنّا بين ثقافة وأخرى، بل نجد آليّات وطرقًا مختلفة في التعبير قد تنتج مميّزات ثقافيّة خاصّة لمجتمعٍ ما أو حقبةٍ ما. من هذا التأطير الاجتماعيّ التاريخيّ العام لما هو منطق عمل المعنى أريد أن أنتقل للحديث عما هو حقول المعاني من حيث عمليات الإنتاج والتوليد والتشكيل للتعبير في سياقات محددة، هذا مما يعطينا لغة مفاهيمية للبحث في الثقافة الفلسطينيّة موضوع بحثنا هنا.

الذهن، إذًا، ليس بمنطقة خارج التاريخيّ، أو قبله، بل هو تزامنيًا جزء من العملية الاجتماعيّة التاريخيّة. من هنا، تنبثق عمليّة إنتاج المعاني في مجتمعٍ ما من البنْية الاقتصاديّة الاجتماعيّة العامّة للمجتمع. تتموضع هذه العمليّة، من ثَمّ، ضمن المفاعيل المختلفة التي تعمل في إنتاج وتوليد البنْية القائمة كما إمكانيّات تحويلها وصياغة مساراتها المحتملة. لذلك، من الضروريّ إعادة فحص فهمنا بأنّ المجتمعات كتشكيلات اقتصاديّة اجتماعيّة منتجة مادّيًّا وتعيد الإنتاج والتوليد بالمستويات الإيديولوجيّة، بالمفهوم الألثوسيريّ؛ إذ علينا إعادة تحديد هاتين العمليّتين من الإنتاج وإعادته ضمن عمليّة إنتاجيّة واحدة شاملة ذات لحظات تشكيليّة مختلفة. فلكي تكتمل حالة إنتاج عينيّة ما، تتزامن لحظة المادّة المتشكّلة مع لحظة المعنى في بوتقة واحدة قابلة للتداول الاجتماعيّ العينيّ. فأنت لا تصنع الحذاء لتخرج من ثَمّ باحثًا عن معناه. صناعة الحذاء تتضمّن صناعة معناه، ضرورة، لكي يصبح حذاءً.[22] الفصل الإشكاليّ، أي المفروض لاعتبارات لا تمتّ بِصِلة لعمليّة الإنتاج ذاتها، بين الحذاء وما هو افتراضًا معناه بالمستوى الذهنيّ، هو طريقة محدّدة من التعبير لاءمت الفترةَ الكلاسيكيّة للرأسماليّة. الآن، ومن منظور المرحلة الرأسماليّة المتأخّرة، نستطيع أن نرى الفصل بأثر رجعيّ، لنقول بعدم جوازه، ولنُمَحْوِر من ثَمّ تحليلنا حول التعبير كفضاء يحوي الشيء ومعناه دونما فصل يقف على مقولة أنطولوجيا ما، بل كتراكم للعمل وتشيُّئِهِ شكلاً متداولاً في الآن والهنا المنبثقين من تاريخهما. فالتعبير هو فعل إشارة إلى واقع /شيء ما خارجه، وبكون الإشارة حركة فهي فضاء يحمل بحركته شتّى المضامين المحتمَلة. وهذا الفضاء له حجم وشكل يتحقّقان عبْر حركته، والتحقّق يؤدّي إلى انبثاقهما من جديد تراكميًّا، بمعنى أنّ التحقُّق هنا هو نوع من أنواع العمل الاجتماعيّ المُنتِج الذي يتراكم شكلاً قابلاً للتداول الاجتماعيّ. والتركيم الشكلانيّ هو إضافة نوعيّة لمنطق التعبير العينيّ، قد تبدأ بالمستوى الأداتيّ وَ/أو المضامينيّ ولكن، عادةً، يُلاحظ التركيم في الحركة العامّة للتعبير. وفي حال تعرُّفنا على منطق التعبير العينيّ تحت البحث، يصبح استخلاص التركيم الشكلانيّ الإضافة المعرفيّة الأساس للبحث. وكما سنرى في الأبحاث العينيّة لاحقًا، من الممكن استخلاص التركيم الشكلانيّ عبْر ثلاث خطوات تحليليّة أساسيّة: تتبُّع زمنيّ مقارِن لأشكال التعبير؛ مقارنة بنيويّة بين شكلين؛ دمج البعد التعاقبيّ والتزامنيّ في حركة الممارسة التي تحقّق التعبير في سياق عينيّ. سأتوقّف قليلاً عند هذه الخطوات، قبل التعرّض للتعبير في الثقافة الفلسطينيّة، لكونها تشكّل الإطار النظريّ لمعظم الأبحاث في هذا الكتاب.[23]

بدايةً، من المهمّ الإشارة إلى أنّ الإطار النظريّ هنا لا يتطرّق إلى مفهوم الفاعل التاريخيّ؛ وذلك أنّ موضوعة البحث لا تتطرّق إلى الفاعلين ذواتهم بل إلى عالم منتجاتهم، وعلى وجه التحديد أدوات التعبير ومنتجاته بما هي الآليّات الأساس في عمليّة إنتاج المعاني وتداولها. وموقع النظر هذا لا يلغي المواقع الأخرى، موقع الفاعل مثلاً، ولكنّه يضيف نوعيًّا معرفة استكشافيّة لا نستطيع الوصول إليها عبر المواقع التقليديّة. أمّا بالنسبة للخطوة التحليليّة الأولى المنبثقة عن هذا الموقع -وهي التسلسل التعاقبيّ للأشكال التعبيريّة-، فهي تبدأ بتحديد إحداثيّات زمنيّة كخطّ البداية الذي ينطلق منه البحث ويشكِّل المرجعيّة التي تقاس العلاقات الشكليّة بحسبها، حيث يكون التركيم الشكلانيّ هو الفرق النوعيّ بين شكلين تعبيريَّيْن متتاليين. لنأخذ، على سبيل المثال، تاريخ ظهور الأغنية السياسيّة الملتزمة في فلسطين، لنقول إنّ التاريخ المحدَّد لظهور هذا الشكل التعبيريّ هو خطّ البداية، بمعنى أنّ الزمن يحتوي الشكل، وكلّ تقدّم في الزمن ينعكس في الشكل؛ فبعد مرور مدّة زمنيّة محدّدة تتغيّر الأغنية السياسيّة كشكل تعبيريّ ما. والسؤال هو: كيف ينعكس مرور الزمن في تحوّل الشكل التعبيريّ بما هو تراكم شكلانيّ؟ أمّا بالنسبة للخطوة التحليليّة الثانية المنبثقة عن موقع النظر هذا -وهي التراصّ التزامنيّ للأشكال التعبيريّة-، فهي تبدأ من خلال تحديد علائقيّة الشكل التعبيريّ من خلال اختلافه عن الأشكال التعبيريّة الموجودة في ذات النوع الوظائفيّ وفي ذات اللحظة الزمنيّة، من جانب، وتحديد البدائل الممكنة لهذا الشكل والتي جرى إقصاؤها باختيار هذا الشكل المحدَّد، من جانب آخر. إن فتح الاختلاف العلائقيّ على إمكانية جديدة وكسر حاجز التغييب قد يحققان التركيم الشكلانيّ الذي يميز هذا المستوى من التحليل. فمثلاً، الأغنية السياسيّة الملتزمة هي كذلك لأنها ليست أغنية رومانسية، وهي حاضرة لأنه تم تغييب ما يمكن أن يكون أغنية سياسيّة غير ملتزمة. إن الأغنية السياسيّة الملتزمة برومانسيتها/واقعيتها تفتح علائقية الاختلاف وتحاول أن تراكم بالمستوى الشكلانيّ، على سبيل المثال مثلاً أغنية “أنا أتوب عن حبك أنا” للشيخ إمام. أما بالنسبة للتغييب فنرى أن للأغنية السياسيّة غير الملتزمة وقع غريب على الأذن، فحيث أننا لا نستطيع حتى تَخَيُلها إذا وقفنا في الجانب الفلسطينيّ للأغنية السياسيّة الملتزمة. إلا أن كل الدول العربيّة، كأنظمة حكم، قامت بإنتاج أغنية سياسيّة غير ملتزمة تمجد النظام القطري دون أن تلتزم مشروعاً تحررياً ما. أما بالنسبة للخطوة التحليلية الثالثة المنبثقة عن موقع النظر هذا وهي التيار الحركيّ المتدفق الناتج عن ممارسة عينية للشكل التعبيري، فهي تبدأ من رسم أسلوب الحركة والتي في أسلوبيتها هذه تُعبِّر عما هو معنى. إن التركيم الشكلانيّ هنا هو بأن الحركة العينية للشكل التعبيري تحت الفحص تحتوي كل الحركات السابقة لها، وباحتوائها هذا لها تنتقل نوعيًا عبر خلق أسلوبًا جديدًا. فمثلاً، من الممكن القول أن الأغنية السياسيّة الملتزمة تحتوي مجمل أشكال الأغاني التي سبقتها، ولهذا هي أغنية، وتحتوي أساليب متعددة للرفض التي مارستها هذه الأغاني، وبلحظة انصهار هذه في بوتقة الممارسة المشروطة بصعود الثقافة القوميّة العربيّة في لحظة اشتداد الصراع مع المُستعمِر، تنبثق الأغنية السياسيّة الملتزمة. الأسلوب الجديد في الحركة هو ما يجب استخلاصه في البحث الذي يسعى لفهم الشكل التعبيري بما هو وحدة منتجة ومولدة للمعنى القابل لتداول اجتماعيًّا.[24]

بالرغم من أهمية كل مستوى من مستويات هذه الخطوات الثلاث بذاتها، التعاقبية التزامنية والحركة ذات الأسلوب المحدد، إلا أن العلاقة المُركبة بينهن هي التي تخلق في نهاية المطاف الشكل التعبيري بكليته كما موضعته داخل العملية الانتاجية العامّة للمجتمع. والمستوى الثالث هو بداية التقدم باتجاه طرح تفسير يشرح عمل الشكل التعبيري بما هو وحدة اجتماعيّة ذات منطق عمل مستقل بها، بهذا فالأسلوب هو خط التماس مع أشكال أخرى من التعبير في ذات المجال المضاميني الوظائفي. إن الحقل الثقافيّ هو عبارة عن تشكيلة محددة من الأساليب التي تميز بطريقة عملها ثقافة عن أخرى. قد يحدث أحيانًا أن تتميز ثقافة ما بطغيان أسلوب على الأساليب الأخرى حيث يعيد تشكيلها وَفق منطقه الخاصّ. والتشكيلة الأسلوبيّة لثقافةٍ ما تتجلّى وتتحقّق بأشياء ومنتجات ذات أسلوب تعبيريّ يولّد معنى قابلاً للتداول الاجتماعيّ، ومن المهمّ لفْت النظر هنا إلى أنّ التشكيلة الأسلوبيّة والأشياء المولّدة ليستا نوعين من الوجود وَ/أو الفعل الاجتماعيّ، بل هما لحظتان في منطق عمل واحد، هو منطق العمل التعبيريّ أي فعل الإشارة إلى واقعٍ ما خارج الفعل الذي يشير.[25] والسؤال هو حول حقل الثقافة الفلسطينيّة من حيث تمايز التشكيلة الأسلوبيّة القائمة فيه، كما أشياؤها، وعمّا إذا كانت هنالك تشكيلة أسلوبيّة واحدة طاغية أو شيء فلسطينيّ واحد، أم إنّ هنالك تعدّدًا في الأساليب والأشياء ذات العلاقات الواهية في ما بينها؟

إنّ المداخلة الأساس لهذا الكتاب أنّ هنالك تشكيلة أسلوبيّة طاغية في المجتمع الفلسطينيّ، وهنالك الشيء الفلسطينيّ النموذجيّ. في ما يلي من دراسات في مجالات ثقافيّة مختلفة، سنحاول أن نستخلص تحليليًّا المحورَ التعاقبيّ وذلك التزامنيّ، ومن ثَمّ السعي لإعادة رسم الأسلوب للحركة المنتجة للمعنى والمولِّدة له. إنّ فحص هذه المحاور في المجالات الثقافيّة المتعدّدة سيمكّننا من الوقوف على أغلب النواحي الثقافيّة الفلسطينيّة التي تعني بالإنتاج والتوليد عبْر آليّات من العمل التعبيريّ. في القسم التالي من هذه المقدّمة، سأطرح رسمًا أوّليًّا مفترَضًا للتشكيلة الأسلوبيّة الفلسطينيّة، كما الشيء الفلسطينيّ، والتي ستشكّل للقارئ/ة نوعًا من خطّ البداية لينطلق من ثَمّ في مناحي الكتاب المختلفة التي تتناول حالات ثقافيّة عينيّة وأخرى عامّة.

.

3

السؤال الأساس الذي تحوم حوله الدراسات في هذا الكتاب، من حيث هي تحويرات مختلفة على ذات المسعى البحثيّ، هو: ما هي التشكيلة الأسلوبيّة الفلسطينيّة التي بعملها تخلق الشيء الفلسطينيّ المُحدّد؟ وكيف يمكننا استخلاص طريقة عملها؟ وهنا من الممكن تبديل الشيء بمفهوم آخر هو الذات، أي ما هي الذات الفلسطينيّة؟ وكيف تعمل على إنتاج ذاتها؟ بَيْدَ أنّ استخدام مفهوم الذات لا يفي بالغرض الذي يصبو إليه هذا المشروع. فبدايةً، هذا المشروع يسعى إلى فهم طرق عمل المجتمع الفلسطينيّ ككلّ، أي بما هو جماعة تضبطها آليّات عمل واحدة، أي إنّ طريقة عمل التشكيلة الأسلوبيّة تعكس بشكلٍ ما طريقةً أساسيّة ينبني من خلالها المجتمع الفلسطينيّ. ثانيًا، تثير قضيّةُ الذات مسألةَ الفاعل ودَوْره في تشكيل العمليّات الاجتماعيّة التاريخيّة، لتحصر مِن ثَمّة الفاعليّة في الفاعل الفرديّ، بالمفهوم الليبراليّ. إنّ الخروج من البردايغم السائد والنظر إلى العالم من منظور الأشياء وطرق إنتاجها، لا مِن منظور مَن قاموا بصنعها، ليس بجديد تمامًا، وإنْ كان في هامش الفكر الحديث معظم الوقت.[26] فكيف يحكي تمثالٌ قصّةَ مأساة فلسطين، عوضًا عن كيف تتجلّى فلسطين في التمثال، سؤال قد يأخذنا إلى مناطق لم نصل إليها بسبب من طريقة تطرُّقنا إلى المأساة عبر الفاعل الفرديّ السياسيّ فقط. ثالثًا، هنالك نقطة انطلاق فكرية أساسيّة في هذا المشروع مُفادُها أنّ الظاهرة تحمل سؤالَها، أو -إن شئت- لغتَها. بهذا فهي تحتّم على من يريد الانشباك معها منهجًا محدَّدًا ينبع من هذا السؤال، أو اللغة. من هنا، وكما وضّحنا في القسم السابق، إنّ التشكيلة الأسلوبيّة لثقافةٍ ما هي حاملة لغويّة للأشكال التعبيريّة، وهي تتجلّى /تتحقّق في أشياء ذات أسلوب يعبِّر وبتعبيره هذا يخلق ما هو قابل للتداول الاجتماعيّ. سنبحث هنا في إنتاج المعاني عبر عمليّات التشكيل الحاصلة في مجالات اجتماعيّة فلسطينيّة مختلفة، تحديدًا المركّبات الحسّيّة-الإمبريقيّة المنتجة والمصنّفة كإنتاج ثقافيّ وإبداعيّ. لا يعني هذا أنّ العاملين والعاملات في الإنتاج ليسوا بمهمّين، أو أنّهم أقلّ أهمّـيّة من مركّباتهم ومنتجاتهم، وإنّما يعني أنّ هنالك أبعادًا وطبقات من المعاني التي لا يمكن استخلاصها إلاّ عبْر فحص وبحث المركّبات الثقافيّة والفنّيّة المختلفة، وهذه هي لغة الظاهرة التي نبحث فيها. والسؤال الذي يقف في أساس الكتاب كمسعى بحثيّ شامل هو كيف تعمل التشكيلة الأسلوبيّة الفلسطينيّة؟ بعبارة أخرى: ما هو الشيء الفلسطينيّ؟

إنّ النظر إلى العالم من خلال الأشياء المحيطة بالناس، لا من خلال الأفراد، يأتي من تفسير مادّيّ محدّد أبتغي أن أستثمره هنا لتوضيح البعد الفكريّ العام لهذا المشروع.[27] ممّا لا شكّ فيه أنّ المشروع الفكريّ الغربيّ المعاصر حسم الصراع بين الوعي والمادّة لصالح الوعي، والسؤال هنا ما هي كمّيّة ونوعيّة الخسائر الفكريّة الناتجة عن هذا الحسم للفكر، عامّة، ولمن ينادي بأفضليّة الوعي، تحديدًا.[28] هذا السؤال هو نتيجة العمليّة البحثيّة التي تقف في أساس هذه الدراسات المختلفة. إنّ السعي البحثيّ لاستخلاص آليّات عمل التشكيلة الأسلوبيّة، كشكل من أشكال الوعي قد يكون أهمَّها، أفضى بنا إلى سؤال المعنى بما هو نوع له مميّزات، قد تكون أكثرها تغييبًا هي مادّته. ممَّ يتركّب المعنى؟ ما هي مادّيّته؟ كيف تعمل؟ فالقضيّة في ضوء هذه الدراسات أصبحت حول إعادة تعريف كيفيّة عمل منطق المادّة، أو مادّيّة العالم الاجتماعيّ التاريخيّ الفاعلة في تشكيله، بما في ذلك تشكيل منطق وعيه كجزء من مادّيّته. يعلو هنا التساؤل حول مميّزات السياق الثقافيّ الفلسطينيّ في الفترة التي تحت البحث، كما الأعمال الإبداعيّة المختلفة المبحوثة، التي حملت قابليّة فتح سؤال مادّيّة المعنى، وَ/أو بادرت إلى فتح هذا السؤال بإلحاح يحتاج إلى تفسير وتوضيح.

 الشيء الفلسطينيّ هو جزء من الحدث الخاصّ المميّز للسياق الاستعماريّ، ولكنّه لا يكتفي بذلك، بل يستحضر المنظومة الفكريّة التي تقف خلفه، وأحيانًا أمامه أيضًا.[29] العلاقات المتشابكة بين المشروع الرأسماليّ /الاستعماريّ وما رافقه من مشاريع فكريّة حداثيّة لا تُبقي مجالاً للشكّ حول لزوم إعادة الربط بين جزئيْ كليّة هذه الحركة العامّة. ويبدو أنّ السياق الفلسطينيّ يحمل القدرة على هذا الربط بسبب من تَموْضُعِه في هذه الحركة العامّة، وليس بسبب من ماهيّة ما تقف في أساسه. لن نتطرّق إلى هذه الحمولة هنا مباشرة، ولكنّنا سنستخدمها لنفهم العلاقات بين البنْية العامّة لإنتاج المعاني في المجتمع الفلسطينيّ، من جانب، والبنْية العامّة لإنتاج المعاني كجزء من القضايا الفكريّة العالقة بسبب من نفي مادّيّة الحياة الاجتماعيّة التاريخيّة في الحداثة، من جانب آخر.

.

4

يعتمد المشروع الفكريّ النقديّ في هذا الكتاب على نقطة انطلاق أساسيّة مُلخَّصُها أنّ لحقل المعاني في كل مجتمع بنْية عامّة ناظمة للبنى المجالاتيّة المختلفة، والتي -مجتمعةً- تشكّل هذا الحقلَ دون غيره. لقد اصطلحنا على هذه البنْية العامّة اسم التشكيلة الأسلوبيّة، وهي تتميّز بكونها تناقضيّة تتحوّل باستمرار عبر تقاطعات تشكيليّة لمَحاور مختلفة مرهونة بطبيعة حقل التناقضات الرئيسيّ لتلك اللحظة من التاريخ العامّ والخاصّ. في الوضع الراهن اليوم، يسود محورا الزمان والفضاء كموادّ في التشكيلات الممكنة للبنْية العامّة للمعنى، ولكن هذا السواد لا يتعدّى شَرطيّته الاقتصاديّة الاجتماعيّة، أي الرأسماليّة بطبعاتها المتأخّرة؛[30] الزمان والفضاء، بما هما مركبّان تعريفيّان في كلّ معنى، هما انبثاق من التشكيلة الاجتماعيّة الاقتصاديّة العامّة السائدة اليوم.[31] لا يختلف المجتمع الفلسطينيّ، على تنوّع فئاته وتَشتُّتها، من حيث إنّ هنالك بنْية عامّة لتشكيلته الأسلوبيّة، من جانب، وإنّ هذه البنْية مشروطة إلى حدّ بعيد بكون مركّباتها الأساسيّة انبثاقًا من التشكيلة الاجتماعيّة الاقتصاديّة السائدة.[32] إنّ التحوير الفلسطينيّ على بنْية الانبثاق هذه لهو مثيرٌ وخصبٌ، والسؤال الذي يُرَحِّلنا في هذا الكتاب هو حول هذا التحوير بالذات، خصوبته ونضارته ومدى تشكُّله في التحوير خَلقًا.

هنالك التقاء لافت للنظر بين قضيّة أسلوب إنتاج المعاني في الحداثة، عامّة، وحقل التشكيلة الأسلوبيّة الفلسطينيّة لإنتاج المعاني. الالتقاء ينبع من مميّزات مشتركة وأخرى متوازية تكثّف انشباكَ العامّ في الخاصّ وتَنافُذَه، وبالعكس أيضًا. فمن جانب، إنّ قضيّة أساليب إنتاج المعاني في الحداثة تتميّز -في الأساس- بأنّ الممارسة الاجتماعيّة، بما هي كذلك وبغضّ النظر عن المجال العينيّ الذي تقوم فيه، تحمل كجزء من مقوّماتها وحركتها القدرة على التفكير الارتداديّ بذاتها. إنّ إدراك الممارَسة لذاتها كجزء منها يحصل بمستوى الفعل الإدراكيّ الجمعيّ، وذلك بغْية إتمام التشكيل الاجتماعيّ للممارسة، أي دخولها شبكة الإنتاج التداول والاستهلاك ومن ثَمّ إعادة الإنتاج. من هنا فالممارسة التي لا تعي ذاتها تبقى حبيسةَ المجال غير المتلفّظ /المتداول اجتماعيًّا، أي إنّها لا تدخل منطق العمل التعبيريّ. إنّ الممارسة الاجتماعيّة الفلسطينيّة الأساس منذ النكبة، وبأقلّ حدّة قبلها بعدّة عقود، هي الانشغال بالذات الجمعيّة الفلسطينيّة. هذا الانشغال بالذات مرّ بعدّة تحوّلات وتشكيلات، إلاّ أنّ سِمَته الأساسيّة من حيث هو محور ارتداديّ لم تتغيّر مع تتالي الأحداث، بل قد يحصل، أحيانًا، أن تصبح هذه السمة أكثر مركزيّة من ذي قبل.[33] وهنا علينا فتح السؤال حول ما يلي: لماذا يتشكّل العمل في المعنى، بالضرورة، من جملة مركّباته، من آليّات ارتداديّة على العمل عينه؟ وكيف حدث أنّ هذه الصفة البنيويّة تحتلّ الصدارة في هذا الحقل من المجتمع الفلسطينيّ؟

إنّ منطق العمل للشكل التعبيريّ هو بفعل الإشارة إلى واقع ما خارج الفعل، وبهذا الفعل يُوَلَّد المعنى، إلاّ أنّ هذا المنطق يقبل فصلاً أساسيًّا مسبقًا بين شيء المعنى، أي الشيء الذي يعنيه المعنى، والمعنى كإشارة على هذا الشيء الموجود خارجه. الافتراض المسبق لكلّ دراسة للمعنى أنّه، بالضرورة، منفصل عن عالم الأشياء ونحويّة هذه الأشياء، أو -إن شئت- شيئيّتها. في عرف هذا التوجّه السائد في الفكر الغربيّ المعاصر، إنّ شكل المعنى الذي يلتصق بالشيء الذي يعنيه هو حالة أقرب إلى الطبيعة منه إلى المجتمع، ومن هنا فكلّما ابتعد شكل المعنى عن شكل الشيء تقدّمت الحضارة مرحلة أخرى على سلّم الارتقاء.[34]

من جانبها، تتميّز ممارسة التشكيليّة الأسلوبيّة الفلسطينيّة بمحاولات حثيثة لربط المعنى بالشيء الفلسطينيّ؛ أي إنّ الممارسة تحمل الإعلان أو إشهار المعنى الذي هو هو ذات الشيء الذي سُلِبَ من الفلسطينيّين بسبب من شرطهم الاستعماريّ. من هنا، فالسؤال هو: ما /من هو /هذا الشيء الفلسطينيّ الذي يسعى المعنى للعودة إليه مجددًا؟ منهجيًّا، لا نستطيع إبقاء السؤال في هذه الحالة من الأوّليّة، وإن كان يحلو للعاب الإيديولوجيا المباشرة أن تنهي حمولة السؤال في هذا الحدّ منها. إنّ السعي في تحديد الشيء الفلسطينيّ يعني أنّ هنالك طريقة عمل، أي تشكيلة أسلوبيّة، يتميّز بها الفعل الجمعيّ الفلسطينيّ عن غيره من المجتمعات الأخرى، هذا بحيث إنّ أيّ انشباك اجتماعيّ مع هذه التشكيلة يبدأ من خلال تحديدها بأنّها فلسطينيّة. قد يُرجِع البعض هذه التشكيلة الأسلوبيّة إلى تاريخٍ ما، أو إلى أصل، أو انتماء حضاريّ دينيّ، وما إلى ذلك. في سياق هذه المقدمة وما يتلوها من دراسات، لا نُحيل هذه التشكيلة إلى مرجعيّات خارجية -حقيقيّةً كانت أم متخيَّلة-. الهدف المتواضع هو استخلاص طريقة العمل الفلسطينيّة بلحظتها الراهنة، التي تتشكّل كامتداد، ينبغي علينا تحديد نوعه، كما سنرى لاحقًا، لحدث النكبة في 1948.

إنّ السياق الرأسماليّ /الاستعماريّ الذي نعيشه يربط بين طريقة العمل واللحظة الزمنيّة التي تمارَس فيها ومن خلالها الطريقة بشكل معيّن يعتمد بالأساس على توليد الرغبة منهما بهما. من هنا، نحن بصدد فحص الرغبة الحداثيّة بالابتعاد عن الشيء عبْر قطع صلة المعنى به، بينما سنكون بصدد فحص الرغبة الفلسطينيّة بالعودة المتكرّرة إلى الشيء المفقود -وهو طريقة العمل التي جمعت بين الأرض والجماعة بشكل محدّد لغاية 1948-. لكن الرغبة بالابتعاد لا تلغي الشيء وفاعليّته، كما أنّ الرغبة بالعودة لا تستحضر الشيء وفاعليّته، بالضرورة. والسؤال الذي يعلو هنا هو حول حركتَيِ الابتعاد والعودة كمحورين أساسيّين في بنْية التشكيلة الأسلوبيّة الحداثيّة كما تتشكّل في السياق الفلسطينيّ العينيّ.[35] للوهلة الأولى، يبدو لنا أنّ هاتين الحركتين التشكيليّتين متناقضتان، الابتعاد والعودة بما هما حمولة اقتراب، إلاّ أنّ التناقض قد يكوّن بوتقة ذات درجات متراتبة من الحرارة. كيف يصهر التقاطع الزمنيّ-المكانيّ الفلسطينيّ هذه الحركات المتعدّدة ليخرج بطريقة عمل، التشكيلة الأسلوبيّة، موَلِّدة ومنتِجة لحقل المعاني المتداولة؟

إنّ الابتعاد عن شيء ما عليه أن يحمله، وذلك لكي ينجح في ابتعاده، حيث إنّ نفيه يُشكّله بشموليّة لا تقلّ عن حضوره، بل قد تزيد أحيانًا. إنّ العودة إلى شيءٍ ما عليها أن تفقده، حيث إنّ وجوده يُشكّل فقدانه ويمنع العودة إليه. سؤالنا هنا هو حول ما يلي: كيف يَحمل الابتعادُ الأشياءَ التي يبغي بُعدها؟ وكيف تفقد العودة شيئها لتستطيع أن تعود إليه؟ ولتأطير المسألة من جديد، نحن نعمل وَفق منطق عمل الشكل التعبيريّ، فالابتعاد والعودة هما أسلوبان في حركة التشكيل التي تشير إلى الشيء في الواقع الإمبريقيّ، هذا بحيث إنّ المقولة أنّ الابتعاد يحمل الشيء الذي يبتعد عنه تعني تحديدًا المعنى “الشيء” وليس الشيء بما هو مادّة عينيّة حسّيّة-ذهنيّة، وكذلك بالنسبة للعودة التي تحمل المعنى “فقدان الشيء” الذي تسعى للعودة إليه. بتشبيه “فظّ”، من الممكن القول إنّ هذا النوع من الحمْل يشبه أن تحمل صورةَ شخصٍ ما مقارنة بأن تحمل الشخصَ عينَه.

التشكيلة الأسلوبيّة الفلسطينيّة لإنتاج المعاني، بما هي خليط من الابتعاد والعودة، تحمل “الشيء”، كما تحمل “فقدان الشيء”. هذه الحمولة في حركتها الموّلِدة قد تنبني من خلال التناقض والصراع ما بين معنى الحضور ومعنى الفقدان، ولكن هذه الإمكانيّة لا تستنفد كلّ الخلطات الممكنة لهذه المركّبات. فهي قد تتحاور في سياقٍ ما، وقد تمتزج في آخر، وحتّى من الممكن أن تنفصل وتشرخ البنْية العامّة في حالة ثالثة. تُرَدّ هذه الإمكانيّات المتعدّدة إلى حقيقة تتمثّل في أنّ كِلتا الحركتين مصنوعتان من ذات المادّة، المعنى، وعليه فهما قابلتان للعمل والاندماج بكونهما نوعًا واحدًا. والسؤال هو حول الممارسة، حيث يبدو أنّ كلاًّ من المعنيين، أي الحضور والفقدان، يدفع باتّجاه نقيض إلى اتّجاه الآخر. فهل هنالك اختلاف بين ممارسة “الشيء” مقارنة مع ممارسة “فقدان الشيء”؟ وهل هذا الاختلاف مشروط بمضمون وَ/أو موضوعة “الشيء” مقارنةً مع “فقدان الشيء”؟ أم إنّ موقع الاختلاف مرهون بعوامل أخرى خارجيّة غير مادّة المعنى وشكلها؟ من هنا، فالادّعاء الأساس الذي تنطلق منه مجْملُ الدراسات في هذا الكتاب هو أنّ التشكيلة الأسلوبيّة الفلسطينيّة هي حركة مولّدة تُضبَط علائقيًّا ما بين “الشيء” وَ “فقدان الشيء”، مع إمكانيّات تحويريّة، بحسب المجال والمادّة والفاعل والموقع والزمان ضمن عوامل أخرى، غير قابلة للحصر بالضرورة.

.

5

إستمرت كتابة الدراسات التي جُمِعَت لتشكل هذا الكتاب منذ 2004 ولغاية يومنا هذا. وهي تتطرق إلى المجالات التشكيلية الاجتماعيّة المختلفة من ثقافة، فن معماري، أدب، موسيقى، سينما، نحت، وفن تشكيليّ معاصر. يهدف هذا التنويع إلى محاولة فحص المقولة بأن هنالك بنية عامّة للتشكيلة الأسلوبية في كل مجتمع، عامّة؛ وأن المجتمع الفلسطينيّ، خاصّة، يمثل تحويرًا محددًا في هذا السياق ومن المجدي فحصه لخصوبة حمولته ذات الأبعاد الفكرية الإنسانية العامّة. فإن كانت المقولة بأن البنية العامّة الفلسطينيّة للتشكيلة الأسلوبية هي منظومة من العلاقات بين “الشيء” و”فقدان الشيء”، يصبح السؤال كيف تتجلى/تتحقق و/أو تتغير/تتحول هذه البنية في السياقات العينية لإنتاج المعنى من ثقافة، وفن معماري، وأدب، وموسيقى، وسينما، ونحت، وفن تشكيليّ معاصر. كيف تنشبك البنية العامّة مع المجال مادته وتاريخه وتقنياته التي تميزه عن باقي المجالات المنتجة للمعنى؟ هذا الانشباك هو الممارسة الاجتماعيّة التاريخيّة بامتياز، والسؤال هو حول آليات تحققها، أو عدمه، من حيث الحمولة التشكيلية التي هي ميزة الممارسة الأساس بما هي بوتقة توليد المعنى. بناءً على ذلك، من الممكن تصنيف الدراسات التي تُشكّل هذا الكتاب إلى نوعين: الأوّل يبدأ من قضايا عامّة ويَستخدم أمثلة عينيّة ليشير إلى التشكيلة الأسلوبيّة العامّة، والثاني يبدأ من عرض حالة خاصّة متوسّلاً العامَّ لإضاءة خاصّيّة الحالة المعروضة.

يتضمّن الكتاب مقدّمة وخمسة فصول وخاتمة، والفصول مقسّمة بحسب المجالات المضامينيّة الثقافيّة المختلفة. في كلّ فصلٍ دراسةٌ أو عدّة دراسات تتمحور حول مجال مضامينيّ محدّد. الفصل الأوّل يتمحور حول الثقافة الفلسطينيّة عامّة، ويشمل دراسة حول أنماط التحوّلات في الثقافة الفلسطينيّة منذ أوسلو. يتمحور الفصل الثاني حول قضيّة الفضاء المعماريّ الاستعماريّ، ويشمل دراستين: الأولى حول معماريّة القرية الفلسطينيّة، والثانية حول معمارية المدينة الإسرائيليّة. أمّا الفصل الثالث، فيتناول الأدبَ الفلسطينيّ، وفيه دراسة للتطوّرات الآنيّة في الأدب الفلسطينيّ عبر فحص أعمال الروائيّ راجي بطحيش. يتمحور الفصل الرابع في الموسيقى، ويشمل دراسة حول موقع الموسيقى كعمل صوتيّ منتج، عامّة، والمحاولات المختلفة لتأسيس هذا المجال في السياق الفلسطينيّ منذ 1967 حتّى يومنا هذا. ويقرأ أعمال أحمد الخطيب الموسيقيّة كمثال على هذه المحاولات في التأسيس. يُرَكِّز الفصل الخامس على الفنّ التشكيليّ كأحد المفاصل الأساسيّة للثقافة الفلسطينيّة المعاصرة، ويشمل ثلاث دراسات: الأولى حول السينما الفلسطينيّة؛ الثانية عن النحت متّخذةً أعمال جواد إبراهيم نموذجًا؛ أمّا الثالثة فتتناول أعمال فنّانين فلسطينيّين شبّان خلال الانتفاضة الثانية. يُجْمِل الكتابَ فصلٌ تلخيصيّ يحاول أن يرى ما جاء به ليستشرف الملامح العامّة للبنْية التشكيليّة الأسلوبية الفلسطينيّة، وليطرح من ثَمّ سؤال انبثاق الأسلوب من التشكيلة المادّيّة الاجتماعيّة التاريخيّة.

هذا المسار من قراءة الدراسات هو اقتراح لا غير. من الممكن، وقد يكون من المفضّل، قراءتُها بأشكال مختلفة، ومن وجهات نظر أخرى. إنّ البحث والسعي وراء الشيء الفلسطينيّ هو جزء منه لا خروجٌ عليه، ومن هنا فتعدُّد القراءات قد يفتح الشيء على استقبال العوالم الاجتماعيّة التاريخيّة التي تحايثه، وتلك التي تبتعد عنه، وما بينهما على حدّ سواء. ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الدراسات -كلاًّ على حدة، ومجتمعةً- ترى في هذا الشيء الفلسطينيّ نوعًا من الجماعيّة الديناميكيّة الفعّالة والتي -بالرغم من مآسيها وتحوّلاتها- لا تزال تتميّز عمّا هو طبقات أفقيّة، مثل المجتمعات العربيّة المجاورة، وعمّا هو طبقات عموديّة، مثل الحضارة العربيّة الإسلاميّة بما هي الحاضنة الأساس، في بنْيتها.


[1] ليس ثمّة بحث جامع للمجتمع وَ/أو الثقافة الفلسطينيّة كوحدة واحدة. هنالك العديد من الدراسات التي تتطرّق إلى أجزاء مختلفة من هذا المجتمع، وَ/أو إلى جوانب ثقافيّة محدّدة. لافتة للنظر في هذا السياق أبحاثُ فيصل درّاج التي تحاول أن تتناول أحيانًا جوانب وموضوعات مختلفة من الثقافة الفلسطينيّة بتوجّه شموليّ. سيجري التطرّق إلى هذه الأبحاث والدراسات بالتفصيل لاحقًا بحسب صلتها بموضوع كلّ دراسة. انظر -على سبيل المثال-:

درّاج، فيصل، 2001. ذاكرة المغلوبين: الهزيمة والصهيونيّة في الخطاب الثقافيّ الفلسطينيّ. بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ.

[2] للتوسّع في هذا النقد، انظر التالي:

Beck, U., 2000. The Cosmopolitan Perspective: Sociology of the second age of modernity, British Journal of Sociology, 51(1), 79-105.

Wimmer, A., and Glick Schiller, N., 2002. Methodological Nationalism and beyond: Nation-state building, migration and the social sciences. Global Networks, 2(4), 301-334.

[3] حول هذا الموضوع، انظر أبحاث أرجون أبادوراي. على سبيل المثال:

Appadurai, A., 2003. Disjuncture and Difference in the Global Cultural Economy. In J. Evans Braziel and A. Mannur (eds.) Theorizing Diaspora: A reader. Oxford: Blackwell Publishing.

[4] إنّ المنطق الضابط لحركة النظام الرأسماليّ هو تفكيك البنى السابقة وَ/أو المختلفة عنه وإحلال بنى رأسماليّة تابعة للمركز بدلاً منها. والاستعمار -على أنواعه المختلفة- يقوم بهذه العمليّة على نحوٍ عنيف وشرس. والنظام الاستعماريّ في فلسطين هو امتداد لهذا المنطق. للتوسّع في هذا الجانب من الاستعمار، انظر:

Young, C. R., 2001. Postcolonialism: An historical introduction. Oxford: Blackwell Publishing.

[5] من الإشكاليّات الأساسيّة التي تميّز الأدبيّات حول الثقافة والمجتمع الفلسطينيّين أنّها قَبِلَت إحداثيّات النظام الاستعماريّ في تعريفه للواقع الاجتماعيّ التاريخيّ للفلسطينيّين كما لفلسطين الإمبريقيّة والمتخيّلة. في هذا البحث، على جوانبه المتعدّدة، لا نقبل منظومة التصنيف هذه، بل نحاول تجاوزها من خلال طرح بدائل مختلفة تساعدنا على تحليل وفهم الواقع الاستعماريّ بشموليّته دون اتّخاذه كموقع للنظر على الذات الفلسطينيّة. للاطّلاع على هذه المداخلة على نحوٍ تفصيليّ ومتطوّر، انظر:

ناشف، إسماعيل، 2011. حول إمكانيّة دراسة النظُم الاستعماريّة: فلسطين نموذجًا. لدى: إسماعيل ناشف (محرّر) النفي في كتابة إسرائيل: أبحاث حول المجتمع والدولة والنظام في إسرائيل. رام الله: مدار -المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة.

[6] المداخلة الأهمّ في هذا السياق هي لفيصل درّاج:

درّاج، فيصل، 1996. بؤس الثقافة بالمؤسّسة الفلسطينيّة. بيروت: دار الآداب.

[7] انظر، على سبيل المثال، بحث هنيدة غانم عن المثقّفين الفلسطينيّين في المناطق التي احتُلّت عام 1948، وتحديدًا الجزء الذي يتطرّق إلى العَقدَيْن الأوّلَيْن بعد النكبة:

غانم، هنيدة، 2009. إعادة بناء الجماعة الوطنيّة: المثقّفون الفلسطينيّون في إسرائيل. القدس: ماجنس (بالعبريّة).

[8] من البارز للعيان أنّ أغلب الأدبيّات، وبغضّ النظر عن اللغة أو المؤلّف، ترى أنّ هذه الفترة هي الأساس في الوجود الاجتماعيّ التاريخيّ الفلسطينيّ. فنرى أنّ جُلّ الأدبيّات تتمحور حول هذه الفترة، وتلك التي تبحث في فترات أخرى تنظر إليها عبر منظور الفترة “الوطنيّة” -إن جاز هذا التعبير-. انظر، على سبيل المثال، بحث ماهر الشريف عن تاريخ الفكر السياسيّ الفلسطينيّ:

الشريف، ماهر، 1995. البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسيّ الفلسطينيّ. بيروت: دار المدى.

[9] هنالك العديد من الأبحاث حول هذه الفترة الانتقاليّة، إلاّ أنّ أغلبها لا يربط بشكل مباشر بين الوضع الذي آلت إليه منظّمة التحرير الفلسطينيّة والقرارات التي أدّت إلى القبول باتّفاقيّات أوسلو. انظر -مثلاً-:

هلال، جميل، 1998. النظام السياسيّ الفلسطينيّ بعد أوسلو: دراسة تحليليّة نقديّة. بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة.

[10] للتوسّع حول هذا الموضوع، انظر:

نخلة، خليل، 2011. فلسطين وطن للبيع. رام الله: مؤسّسة روزا لوكسمبورغ.

حنفي، ساري. طبر، لينا، 2006. بروز النخبة الفلسطينيّة المعولمة: المانحون، والمنظّمات الدوليّة، والمنظّمات غير الحكومية المحلّـيّة. رام الله: مؤسّسة الدراسات المقدسيّة ومواطن.

[11] على سبيل المثال وضْع اتّحاد الكتاب الفلسطينيّين اليوم، الذي يبدو في الأيّام العاديّة وكأنّه جزء من ماضٍ لم يعد ذا صلة. ولكن، كما حدث مؤخّرًا، هو موقع للسيطرة الشموليّة المتجدّدة من قِبل السلطة وأذرعها العسكريّة المختلفة.

[12] إنّ التحوّل الأساس في هذا المجال جاء عن طريق المنظّمات غير الحكوميّة التي بدأت تعيد تعريف الحقل الثقافيّ الفلسطينيّ على اختلاف مَشاربه وتنوّع موضوعاته. هنالك العديد من الأدبيّات التي تقدّم تفسيرًا نقديًّا لموقع هذه المنظّمات عامّة، ولكن بخصوص عملها في المجال الثقافيّ، تحديدًا، ليس هنالك أبحاث حول الموضوع، وذلك بالرغم من أنّ معظم الممارسات الثقافيّة الفلسطينيّة تجري بدعم من هذا المموّل أو ذاك، وذلك بغضّ النظر عن موقع ومضمون هذه الممارسات. في الدراسة الأولى من هذا الكتاب، سنتطرّق بتوسع إلى هذه المسألة وتَبِعاتها على الثقافة الفلسطينيّة ككلّ.

[13] الاستقلال المادّيّ يعني هنا أنّ المنظّمات غير الحكوميّة تأخذ تمويلها مباشرة من الجهة المموّلة لا عبْر السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. لقد كانت هنالك عدّة محاولات من قبل السلطة الوطنيّة بتغيير هذا الواقع وإجبار المتموّلين بالعمل من خلالها، إلاّ أنّها لم تنجح في ذلك. هنالك علاقة شبيهة بين المنظّمات غير الحكوميّة لدى الفلسطينيّين في المناطق المحتلّة عام 1948 ودولة إسرائيل التي لا تفتأ تحاول تقييد حركة التمويل والسيطرة عليه ولكن بوسائل تبدو أكثر نجاعة من السلطة الوطنيّة، وذلك لارتباط المنظومة الماليّة المُمَوِّلة بالنظام بشكل أكثر عضويّة. أمّا بالنسبة للمضامين، فهي تبدو كانتقال حادّ إلى الخطاب الليبراليّ الجديد المشوّه بما يتلاءم والسياق الاستعماريّ الفلسطينيّ.

[14] إنّ المَحاور الشكلانيّة والجماليّة تقوم على الغَرْف من حقول التناقضات الاجتماعيّة المختلفة، إلاّ أنّها تحملها إلى منطق مناطق اجتماعيّة أخرى. هذا ممّا يؤدّي إلى أنّنا نصبح بحاجة إلى ما يشبه الترجمة للعبور بين هذه المجالات والمجالات الأساسيّة الأخرى في ذات المجتمع. هذا يحلّ إشكاليّة استقلال الفنّ، أو قضيّة الفنّ للفنّ وما شابه، حيث ممّا لا شكّ فيه أنّ لها منطقها الخاصّ بها ولكن هذا المنطق ليس خارج العمليّة الاجتماعيّة التاريخيّة، بل هو جزء منبثق عنها ومؤسِّس لها في ذات الوقت.

[15] انظر، مثلاً:

سمارة، عادل، 2003. مثقَّفون في خدمة الآخر: بيان الـ 55 نموذجًا. رام الله: مركز المشرق /العامل للدراسات الثقافيّة والتنمويّة.

[16] للتوسّع في لحظة التحوّل هذه وانعكاستها على البنْية الثقافيّة، انظر:

Hardt, M., and Negri, A., 2001. Empire. Cambridge, M.A.: Harvard University Press.

[17] حول هذا الموضوع، انظر:

Baudrillard, J., 1995. Simulcara and Simulation. Ann Arbor: Michigan University Press.

[18] انظر البحث التالي الذي يفحص كيفيّة استخدام الفلسطينيّين للثقافة الرقميّة وتكنولوجيّتها ليعيدوا من ثَمّ تعريف مجتمعهم متجاوزين بذلك التصنيفات الاستعماريّة لما هو حدود:

Aouragh, M., 2011. Palestine Online: Transnationalism, the internet, and construction of identity. London: I. B. Tauris.

[19] لا ينبع الاختزال هنا من كون البنْية الاقتصاديّة الاجتماعيّة تفرز أولويّة السياسيّ على الثقافيّ كما في بعض أنماط الإنتاج الآسيويّة. بل إنّ الاختزال ينبع من كون التمايز بين الثقافيّ والسياسيّ قائمًا في البنية الاستعماريّة ذاتها، بينما هذا التحقيب يُغَلِّب السياسيّ بسبب من المنهج لا من الظاهرة التاريخيّة ذاتها. هنالك حالات اجتماعيّة تاريخيّة تتشكّل فيها الثقافة بحسب المجال السياسيّ، إلاّ أنّ الاستعمار كامتداد للرأسماليّة لا يقع ضمن هذا الصنف مسبقًا.

[20] يتطرق العديد من الباحثين في هذا المجال إلى هذه المسألة عبر افتراضها، أي افتراض الأساس الذهنيّ للمعنى دون أن يخوضوا في الأبعاد التحليليّة المترتّبة عن ذلك. انظر، مثلاً:

Sassure, F., 1966. Course in General Linguistics. N.Y.: McGraw-Hill Company.

Levi-Strauss, C., 1983. The Raw and the Cooked. Chicago: Chicago University Press

Chomsky, N., 1969. Aspects of the Theory of Syntax. Cambridge, M. A.: MIT Press.

[21] لعلّ من أهمّ التطويرات التي نتجت عن مشروع لويس ألثوسير الفكريّ ما يمكن صياغته على الحفر الاجتماعيّ التاريخيّ بالمستوى الذهنيّ. هذا التطوير جاء على يد ميشيل بيشو ولاحقًا أيضًا بيير بورديو. والإرث الفكريّ الآخر هو مداخلة فوكو حول الـ Bio-Power، والتي لا تعمل على تطوير المفهوم التشكيليّ بحدّ ذاته، وإنّما تفتح هذه الإمكانيّة في التاريخ. ممّا لا شكّ فيه أنّ النقد الكويريّ على يد جوديث بتلر وآخرين/ات طوّر هذه المفاهيم الحفر الذهنيّ والجسديّ باتّجاهات نوعيّة غير مسبوقة. وقد يكون الأهمّ فيها أنّه لا توجد مادّة ومن ثَمّ تاريخ يكتب ذاته في المادة الجسديّة، بل إنّ وجود الاثنين هو تزامنيّ، أي وجود الحفر التاريخيّ يحتّم تزامنيًّا وجود ذهن، لا قبله بل معه. انظر:

 Althusser, L., 1971. Ideology and Ideological State Apparatuses. In L. Athusser Lenin and Philsosphy and Other Essays. N.Y.: NLB.

Picheoux, M., 1983. Language, Semantics, and Ideology. N.Y: Palgrave Macmillan.

Bourdieu, P., 1977. Outline of a Theory of Practice. Cambridge: Cambridge University Press.

Butler, J., 1990. Gender Trouble: Feminism and the subversion of identity. London: Routledge.

[22] من اللافت للنظر في هذا السياق العلاقة بين عمليّة الإنتاج الفعليّة في السياق الرأسماليّ الكلاسيكيّ والذي يقوم بتقسيم العمل لإنتاج البضاعة بكلّيّتها، أي بما هي تشكيل مادّيّ ومعنى في ذات الوقت، وبين الفكرة الدوركهايميّة التي ترى التطوّر في الاختصاص المتزايد في عمليّة تقسيم العمل. إنّ الفجوة بين العمليّة الفعليّة للإنتاج والخطاب حول تطوُّر المجتمع ليست مصادفة، أو تناقضًا، بل هي من لبّ الصناعة الرأسماليّة التي تغلِّف الواقع بإيديولوجيا تقول بأنّه قمّة التطوّر البشريّ الممكن. هذه الستارة الإيديولوجيّة سقطت، جزئيًّا على الأقلّ، مع تطوّر أنواع النقد المختلفة في ما اصطُلِح على تسميته “الرأسماليّة المتأخّرة” -وهو ما سنقوم بفحصه في هذا الكتاب والدراسات المختلفة التي يحويها.

[23] من الواضح أنّ هذه الخطوات التحليليّة الثلاث هي، جزئيًّا، تحوير على التحليل البنيويّ وذلك الما بعد بنيويّ. وهي، برأينا، الأنسب للبحث في الثقافة بسبب طبيعة عملها، وليس لأنّ البنيويّة صواب أو خطأ أو ما شابه. الإضافة في هذا البحث ستتمحور، كما سيتبيّن لاحقًا، في كون الإطار النظريّ هنا يرى بهذه الخطوات كمحاولة لإعادة مَوْضَعة البنْية في سياقها المادّيّ التاريخيّ. وهنا إنّ مداخلات ريموند ويليامز ساعدت في صوْغ هذا الإطار -وإنْ على نحوٍ غير مباشر. انظر:

Williams, R., 2010. Culture and Materialism. London: Verso.

Williams, R.,1977. Marxism and Literature. Oxford: Oxford University Press.

[24] للمقارنة مع تطوير آخر للمنهج البنيويّ في السياق الفكريّ العربيّ، انظر:

العيد، يمنى، 1983. في معرفة النصّ. بيروت: دار الآداب.

أمّا للمقارنة مع مناهج أخرى في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، فانظر:

مؤلَّف جماعيّ، 1987. إشكاليّات المناهج في الفكر العربيّ والعلوم الإنسانيّة. الدار البيضاء: توبقال للنشر.

[25] للاطّلاع على بحث نموذجيّ يحاول أن يستخلص التشكيلة الأسلوبيّة لمجتمع ما، انظر بحث بيير بورديه حول الذوق في المجتمع الفرنسيّ:

Bourdieu, P., 1987. Distinction: The social critique of the judgment of taste. Cambridge, M. A.: Harvard University Press.

[26] للاطّلاع على هذا التوجّه الفكريّ، انظر:

Miller, D., (ed.) 2005. Materiality. Durham: Duke University Press.

Botting, F., and Wilson, S., (eds.) 1997. The Bataille Reader. Oxford: Blackwell Publishing.

Appadurai, A., (ed) 1986. The Social Life of Things: Commodities in cultural perspective. Cambridge: Cambridge University Press.

[27] تعتمد المداخلة النظريّة هنا على كلّ من ريموند ويليامز وجورج باتاي. انظر:

Williams, R., 2010. Culture and Materialism.

Botting, F., and Wilson, S., (eds.) 1997. The Bataille Reader.

[28] حول إشكاليّة تَمَوْضُع فلسطين في المشروع المعرفي الحداثيّ، انظر:

ناشف، إسماعيل، 2010. العتبة في فتح الإبستيم. رام الله: مواطن.

[29] أي الرأسماليّة من الخلف، والقوميّة من الأمام.

[30] حول هذا المفهوم، انظر:

Mandel, E., 1998. Late Capitalism. London: Verso.

[31] بخصوص مفهومَيِ الفضاء والزمان في الطور الرأسماليّ المتأخّر، انظر:

Harvey, D., 1991. The Condition of Postmodernity: An inquiry into the origins of cultural change. Oxford: Blackwell Publishing.

Jameson, F., 1990. Postmodernism, or, the Cultural Logic of Late Capitalism. Durham: Duke University Press.

[32] إنّ المجتمع الفلسطينيّ كجزء من المنظومة الاستعماريّة يحمل أبعادًا مختلفة من النظام الرأسماليّ في طبعته الراهنة، وهو بهذا منخرط في مجرى التحوّلات المستمرّة في بنْية وحركة الرأسمال العالميّة-المحلّـيّة.

[33] للتوسّع في هذا الجانب من المجتمع الفلسطينيّ وثقافته، انظر:

Nashif, E., 2008. Palestinian Political Prisoners: Identity and community. London: Routledge, pp. 164-201.

[34] إنّ فكرة التقدّم من خلال الانفصال عن الطبيعة لهي من أسس المشروع الحداثيّ وما سبقه من تحوّلات. انظر -على سبيل المثال-:

Goodenough, W. H., 2002. Anthropology in the 20th Century and Beyond. American Anthropologist, 104, 2, pp. 423-440.

[35] إنّ أسلوب الابتعاد /العودة شائع في الحداثة الكلاسيكيّة، على سبيل المثال رواية “قلب الظلام” لجوزيف كونراد، وجزء من أعمال فرديناند سيلين مثل “رحلة إلى أقاصي الليل”. هذا، بالطبع، بالإضافة إلى أدب الرحلات، والاستعمار بحدّ ذاته كفعل يحقّق الابتعاد بما هو عودة إلى الذات.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>