جيلُ العودة / ربيع عيد

جيلُ العودة / ربيع عيد

تنتهي المسيرة بكافة فعالياتها، وتذهب للسيارة التي ركنتها في مستوطنة “جفعات آفني” المقامة على أراضي لوبية، لتجد العشرات من أهالي المستوطنة خارجين بالأعلام الإسرائيلية، ويلقون على الجموع المغادرة سيلًا من الشتائم والتهديد.

qaddeeta - al nakba

| ربيع عيد |

صفارات الإنذار الإسرائيلية المنطلقة في كل مكان حدادًا على أرواح جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي هذا الأسبوع، إن كانت تذكرنا بشيء فهي تذكرنا بأمرين: بذكرى نكبتنا وبالنكبة المستمرة. يكفي لنا أن ننظر لمسيرة العودة لنرى هذا المشهد المتلازم في تفاصيل حياتنا منذ 66 عامًا: لاجئون من كل حدب وصوب، وضحايا النكبة المستمرة من النقب حتى رمية وعكا وبرعم.

في الطريق لمسيرة العودة تبدأ أزمة السير في مفرق “مسكنة”، والذي تسميه إسرائيل مفرق “جولاني”، قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي تحمل اسم “جولاني” أيضًا، وذلك نسبة لقائد في العصابات الصهيونية والذي قتل على أيدي ثوار لوبية والشجرة وعرب الصبيح، حيث شهدت تلك المنطقة مقاومة شديدة ومعارك حقيقية عام 1948، خسرت فيها العصابات الصهيونية الكثير مقارنة مع معارك أخرى، وأسفرت في النهاية طبعًا عن ترحيل أهالي لوبية والقرى المجاورة.

الطريق من مفرق “مسكنة” إلى لوبية في السيارة لا تستغرق سوى دقيقة واحدة، لكن يوم الثلاثاء الماضي استغرقت ساعة فأكثر بسبب الازدحام الشديد الناتج عن قدوم عشرات الآلاف للمشاركة في مسيرة العودة السابعة عشر، وقدوم الآلاف من الإسرائيليين (قسم كبير منهم من المستوطنين) للمشاركة في حفل يوم استقلال الدولة العبرية، والذي نُظم نكاية على أراضي لوبية.

تمشي في الشارع ببطء شديد بسبب الازدحام، سيارات تحمل أعلامًا إسرائيلية وأخرى تحمل أعلامًا فلسطينية.بعد مئات الأمتار، وعلى المفرق القادم، تأخذ سيارات الأعلام الإسرائيلية منحى اليمين، أما سيارات الأعلام الفلسطينية فتأخذ منحى اليسار، قوات الأمن تملأ المكان، وإلى جانبك سيارة يشغل صاحبها أغنية “جسر العودة”، يأتيه شرطي إسرائيلي ويُنزل العلم الفلسطيني من على السيارة عند وصولها للإشارة الضوئية التي توصل نحو اليسار، هذه الإشارة التي تسمح بمرور ثلاث سيارات في كل مرة تضيء الأخضر، والتي كانت سببًا في الأزمة الحاصلة، والتي يجري فتحها بشكل أطول في الوضع الطبيعي عند حدوث أزمة سير، لكننا لسنا في وضع طبيعي بالذات في هذا اليوم من السنة.

تصل لوبية بعد ساعة ونصف من التأخير باسم القانون، كما قال لك الشرطي الذي صرخت عليه كي يفتحوا الإشارة الضوئية، تصل لوبية المُهجرة التي لا يستطيع أهلها في الوطن وخارجه العودة اليها أيضًا باسم قانون “العودة” وقوانين أخرى، لكن عند دخولك لوبية في هذا اليوم ترى “الغائبين” حاضرين معنا بداية من خلال معرض الصور المعلقة على أشجار لوبية، وبين نباتات الصبار التي ترافق الداخلين إلى ساحة المهرجان، لتجد بحرًا شعبيًّا من المرابطين على حق العودة، فتشعر أن كل فلسطين حاضرة في هذا اليوم: أسماء القرى المهجرة؛ صور لشهداء لوبية في مخيم اليرموك المحاصر؛ التراث الفلسطيني من مأكل وملبس وأغانٍ ورقص شعبي وأعمال فنية؛ معارف وأصدقاء وناشطون من النقب حتى الجليل؛ كتب وملصقات؛ أسرى محررون؛ عشّاق؛ قيادات؛ عائلات؛ أطفال؛ عمال؛ متدينون وغير متدينين؛ وأحزاب؛ وجمعيات؛ ومستقلون؛ ومتضامنون يهود وأجانب.. كل فلسطين بكل تنوعها ممثلة في مكان واحد وتحت علم واحد.

تنتهي المسيرة بكافة فعالياتها، وتذهب للسيارة التي ركنتها في مستوطنة “جفعات آفني” المقامة على أراضي لوبية، لتجد العشرات من أهالي المستوطنة خارجين بالأعلام الإسرائيلية، ويلقون على الجموع المغادرة سيلًا من الشتائم والتهديد، تنظر في أعينهم فتدرك الخوف الداخلي عند المُستَعمِر، فعملية ركن السيارة في “بلدتهم” ذكرهم بأن من هُجر من أرضه لتقام عليها بلدة لهم لم ينسَ ولا يريد أن ينسى حقيقة ما جرى، ولا يخاف مشروع دولتهم اليهودية، ويرفض روايتهم الصهيونية، ولا يتنازل عن أعدل قضية.. لا يتنازل عن حق العودة، ليكتمل مشهد النكبة والنكبة المستمرة بمشهد الجيل الجديد الذي يحمل حق العودة ليس شعارًا فقط، بل ممارسةً أيضًا، فمشهد الحضور الشبابي الطاغي في المسيرة الذي لا يبكي في هذا اليوم، بل يفتخر بهويته وانتمائه ويشعر بالكبرياء، يبعث الأمل والتفاؤل بجيل جديد اسمه جيل العودة.

(*عن ملحق “الجمعة” لصحيفة فصل المقال.)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>