مقطع من “معارك الصحراء”/ خوسيه إميليو باتشيكو

مقطع من “معارك الصحراء”/ خوسيه إميليو باتشيكو

سمعت عمّي خوليان يقول ذات مرة: “ممنوع إدخال مشروب التاكيلا إلى بيتي، عندنا نقدّم لضيوفنا الويسكي فقط. علينا تطهير ذوق المكسيكيين”

خوسيه إميليو باتشيكو (2014 - 1939)

خوسيه إميليو باتشيكو (2014 – 1939)

.

|خوسيه إميليو باتشيكو|

|ترجمة: شادي روحانا|

“وُلدت في المكسيك عام 1939، ذاك العام الغريب، في شارع غواناخواتو 183، حارة روما. وُلدت يوم الجمعة، الثلاثين من حزيران. وبالتالي، فوفقًا لعلم الفلك أنا مزيج من برجي السرطان والحمل. علم الفلك هو المذهب السحريّ الذي يتميّز به عصرنا. طبعي، إذًا، يعتمد على الحسّ بالنوسطالجيا للفردوس المفقود، وهو مقيّد بالأسرة، بالشعور بالأمان، بالماضي وبالتراث. ولكنه، أي طبعي، لا يتمتّع بالصلابة، فلذلك أنا أعاني الحافز بالانعتاق والتجديد والمضيّ قدمًا.”

هكذا يعرّف نفسه الأديب المكسيكيّ خوسيه إيميلو باتشيكو، والذي توفي في منزله قبل ثلاثة أيام عن 75 عامًا. إعتنت رواية باتشيكو وشعره بتوثيق حياة مدينته، المكسيك العاصمة، والتغيرات التي حصلت عليها وعلى أهلها خلال القرن العشرين، مثل رواية “معارك الصحراء”. في ظلّ سيطرة هاجس الحداثة والتقدّم، يتلاشى العالم القديم بينما كومة الحطام تنمو عاليًا.

من مواليد 1939، وحاصل على جائزة سيرفانتس لعام 2009. على حدّ علمنا، هذا هو النص الأول له المترجم للعربية.

(ش. ر.)

 

The past is a foreign country. They do things differently there. 

(L.P. Hartley, The Go-Between)

1. العالم القديم

أتذكّر، لا أتذكّر: أيّ عام كان ذاك؟ كان هناك سوبرماركت، ولم يكن تلفاز؛ كان الراديو، وحده، مسكين، يبثّ لنا شتى المسلسلات: مغامرات كارلوس لاكروا وطرزان والرّاعي الوحيد وفيلق الأطفال المبكّرين والأساتذة الأطفال وأساطيرَ من شوارع المكسيك والخبز الحافي المكرش والدكتور IQ وعيادة القلوب الحائرة مع الدكتورة كورازون. كان باكو مالخيستو يعلّق على مصارعات الثّيران؛ وكاروس ألبرت على مجرى مباريات كرة القدم؛ وألماغو سيبتيين على البيسبول. كان انتشار أولى السيارات التي صُنعت بعد الحرب: باكارد، كاديلاك، بويك، كرايزلير، ميركوري، هادسون، بونتياك، دودج، بليموث، دي سوتو. كنا نذهب إلى السينما لمشاهدة أفلام أيرول فلين وتيرون باور؛ وفي ساعات النهار كانت تعرض جميع الحلقات لأحد المسلسلات، من أولها لآخرها. كان “غزو كوكب المونغو” هو المسلسل المفضل لديّ. أغاني الموضة كانت من نماذج أغنية Sin ti، أي “بدونك”، وLa rondalla، وLa burrita، أي “الحمارة الصغيرة”، وLa múcura، وAmorcito corazón، أي “قلبي حبيبي”. انتشرت، من جديد، أغنية البوليرو القديمة من بويرتو ريكو، وقد كنّا نسمعها في كلّ مكان: “مهما كان علو السماء/ مهما كان عمق البحر/ حبي العميق لك سيحطّم كلّ جدار”، إلخ.

كان ذاك العام عام البوليو، وهو شلل الأطفال، فكانت الدعامات الطبية تصطحب الأطفال إلى المدرسة؛ عام الحمّى القلاعيّة، فكانت الأبقار المريضة تعدم بالرّصاص بعشرات الآلاف في جميع أنحاء المكسيك؛ عام الفيضانات، فكانت الناس تتنقل بين شوارع وسط البلد تجذيفا في المراكب. يقولون إنّ قنوات المجاري سوف تفيض في العاصفة المقبلة وتُغرق كلّ العاصمة. أمّا أخي فيُجيب: ما همّ، في ظلّ نظام الرئيس ميغيل أليمان كلّنا نسبح في الخراء.

las-batallas-en-el-desierto

كان السيّد الرئيس في كلّ مكان: لوحات صخمة، بورتريهات تمجيدية مبالغ بها. الصور متفشيّة في كلّ مكان، ترمز إلى “التقدّم” و”الحداثة” اللذين تواكبهما المكسيك بقيادة الأب الإله ميغيل أليمان. الكاريكاتورات تمجّده، النصب تتذكّره. المديح يُشهر على الملأ، والسبّ يُطلق بين الحيطان يُصعب إشباعه. كنّا نكتب، عند معاقبتنا في المدرسة، كنّا نكتب “عليّ أن أكون مطيعًا، عليّ أن أكون مطيعًا، عليّ أن أكون مطيعًا لوالديّ ولأساتذتي”، ألف مرة. كنّا نتعلّم دروسًا في التاريخ الوطنيّ واللغة الوطنيّة (أي الأسبانية) وجغرافيا المكسيك العاصمة: أسماء الأنهر (لم يبقَ منها شيء) والجبال (كانت ما تزال تلوح في الأفق). هكذا كان العالم القديم. كان الكبار يتذمّرون من غلاء الأسعار والتحوّلات وحركة السّير والانحرافات الأخلاقية والضجيج وتفشّي الجريمة ووجود للبشر أكثر من اللّزوم والأجانب والفساد والثراء الفاحش لحفنة من البشر، بينما البؤس يحلّ تقريبًا على كلّ الناس.

الصحف كانت تقول: العالم يمرّ في وقت عصيب. يطلّ علينا من الأفق شبح الحرب الأخيرة ونهاية العالم. سحابة عيش الغراب النوويّة هي الرّمز القاتم لعالمنا اليوم. ولكن، مع ذلك، كان هناك أمل. إذ كانت كرّاساتنا المدرسيّة تعيد وتؤكد: إذا نظرنا على المكسيك في الخريطة نجدها على شكل الكورنوكوبيا، أي قرن الخيرات عند الرومان. فبحسب التنبؤات في عام 1980، الذي لم نخطّط إليه قطّ، سوف يكون بانتظارنا عالم يتمتّع فيه كافة المواطنين بالرفاهيّة الشاملة حتى التخمة، دون أن يدخلوا في تفاصيل كيفيّة الوصول إليه. ستكون المدن نظيفة وخالية من الظّلم والفقر والعنف والاكتظاظ والزبالة. كلّ عائلة ستحظى ببيت أولترا-مودِرْن وإيرودينامي (هكذا كانت مصطلحات العصر). لن ينقص شيء. ستُختَرَع آلات تفعل عنك كل شيء. شوارع تصطفّ فيها الشجر والنوافير، تمرّ من بينها سيارات غير قادرة على الاصطدام، لا تطلق الدّخان ولا الضّجيج. جنّة عدن على الأرض. المدينة الفاضلة بين أيدينا.

في الوقت نفسه، بدأت تظهر علينا علامات الحداثة. قمنا بإدخال كلمات جديدة إلى لغتنا، مصطلحات عديمة اللون كنّا قد سمعناها في الأفلام المكسيكية القديمة، ومن ثم أدرجناها في لغتنا بلا أيّ اكتراث حتى باتت مكسيكية بامتياز: تِنْك يو، أوكي، واس أمارا؟، شِراب!، سوري، وان مومنت بليز. بدأنا نأكل الهمبرغر والباي والدونات والخوت دوغ والميلك شيك والآيس كريم والمرجرين والبينت باتر. الكوكا كولا أعدمت عصير الكركديه والنعناع والليمون. فقط من كان فقيرًا استمرّ في احتساء مشروب التيباتشي، الذي ورثناه من سكّان البلاد الأصليّين. أمّا أهالينا، فبدؤوا يعتادون شرب ما سمّته بالخايبول، أي الـ highball، مع أنّ طعمه كان بالنسبة لهم كالدّواء. سمعت عمّي خوليان يقول ذات مرة: “ممنوع إدخال مشروب التاكيلا إلى بيتي، عندنا نقدّم لضيوفنا الويسكي فقط. علينا تطهير ذوق المكسيكيين”.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. شكرا شادي. ضروري ترجمة أي عمل لهذا المبدع. وأتمنى أن تكمل ترجمة أي كتاب له.بالتوفيق صديقي

  2. نص جميل جدا وترجمة ذكية وسلسة، نريد المزيد يا شادي

  3. josé emilio pacheco محراب الموت/ أخيراً انقضى هذا الشهر الرهيب مخلـّفاً لنا كثيراً من القتلى حتى الهواء تـنشّـق الموتَ والموت ذاته عربد مخموراً بالماء. عسير عليّ احتمال أذيـّة كل هذا الموت. ليس بوسعها المكسيك أن تغدو مقبرة جماعية قبراً جماعيّـاً هائلاً ترتمي فيه آمالنا منهكات. سلفاً نحن أغرقنا المستقبل في لجّة جحيمٍ ينـفتح كل يوم (ترجمة موفق إسماعيل)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>