المرأة وكيانها: فصول في حبّ الجسد بين الواقع والتغيير/ جمانة سالم

“جسدي هو بيتي.. هو قلعتي التي أواجه بها العالم وهو السند الذي أستمد منه قوتي وثقتي بنفسي.. جسدي هو هويتي التي أنسجم وإياها.. أنا جسدي..”

المرأة وكيانها: فصول في حبّ الجسد بين الواقع والتغيير/ جمانة سالم

.

|جمانة سالم|

جمانة سالم

“تملكين جسدا واحدا فقط. انظري إلى يديك، رجليك، بطنك، أغمضي عينيك واشعري بالهواء الذي يدخل ويخرج من جسمك، هذا الجسم الذي به ولدت، سيرافقك مدى الحياة. تمعّني في النساء الحقيقيات اللواتي حولك ولاحظي التنوع الكبير. نحن طويلات أو قصيرات، صاحبات عيون بنية، زرقاء، عسلية أو خضراء… لون البشرة مختلف من فاتح إلى غامق.. ألوان شعرنا لا حدّ لها. فكري في معنى أن نعيش معظم الوقت داخل جسم لسنا راضيات عنه أو سعيدات به. فكري في الهاجس والوقت والموارد التي نبذلها لهذا الموضوع، وفي خيبة الأمل التي نشعر بها نتيجة كل هذه المشاعر.”

هكذا يبدأ الجزء الأول من كتاب “المرأة وكيانها” الذي صدر في هذا الشهر، والكتاب هو ثمرة عمل جماعي مثابر من البحث والحوار، جمع المقابلات وتدوينها، صياغة النصوص ومراجعتها وتدقيقها. وقد جاء كتاب “المرأة وكيانها” نتاجا لمسار استغرق بضعة سنوات، قامت خلاله مجموعة كبيرة من النساء بعمل فريقي متميز، سعيا للمساهمة في عملية الارتقاء بمستوى الوعي الصحي للنساء في الداخل الفلسطيني.

“إنّ فكرة العيش بجسد لا نحبه تستنزف منا طاقات وموارد مادية ونفسية تؤدي بالتالي لإحباطات كبيرة وتشل قدرتنا على التطور الصحي والنفسي. انفردي بنفسك للحظة، أغمضي عينيك وحاولي أن تنظري من أعماقك إلى جسمك.. أية مشاعر تتحرك في داخلك؟ كيف تشعرين مع الجسم الذي ترينه في مخيلتك؟ هل تحبين عينيك؟ هل تعتقدين أن صدرك كبير جدا؟ هل وهل وهل؟”

تقول إحدى النساء اللواتي شاركن بتجربتهن: “إن جسمي هو بيتي قبل كل شيء المكان الأكثر أمانا وثقة لي، هذا هو المكان الذي بإمكاني أن آخذ منه ثقة أكبر، هذا هو الذي يحميني أمام العالم، لذلك أشعر براحة مع جسمي… دائما كان كذلك، وغير واضح لي كيف حدث هذا لكن دائما كان..”

تجربة الكتاب مستوحاة من الكتاب الأصلي الذي أُصدر في أمريكا لأول مرة في بداية السبعينيات بعنوان:

 Our Bodies Ourselves”" والذي أسهم في تعزيز وعي النساء لحقوقهن في تلك المرحلة التاريخية التي كانت تخوض بها النساء معارك نضالية من أجل التحرر وتحقيق العدالة الاجتماعية والحقوق المتساوية للمرأة. وقد بذلت المشاركات في إنتاج الكتاب جهودا جبارة من أجل إصداره بنسخته العربية التي اعتمدت على رؤية نسوية نقدية وجريئة عكستها شهادات النساء، تأملاتهن ورؤيتهن الخاصة لكل ما يتعلق بصحة أجسادهن وجنسانيتهن.

“أنا أعتقد أنني شعرت في الأساس بعدم وجودي في مكاني المناسب، لكوني كبيرة أكثر من اللازم وأيضا لأن منظري الخارجي غير لائق… ولا ألبس بصورة مناسبة… هنالك شيء جميل في الفتيات الصغيرات في المشية التي تمتلئ بالجمال، أنا كنت دائما أشعر أنني كبيرة أكثر من اللازم وغير موجودة في المكان المناسب… وأيضا الكلمة هذه “غير جميلة”، لأنّ نمو الجسم كان بشكل مبكر، لذا كنت أسير وظهري منحن..”

هناك عدة أمور تجعلنا مختلفات عن بعضنا البعض مثل شكلنا الخارجي، كياننا، صفاتنا، طموحاتنا، خلفيتنا ومكانتنا الاقتصادية، حضورنا، لكن هنالك أمر واحد مشترك بيننا جميعا كنساء: كوننا نشعر دائما بأنّ أجسامنا غير مقبولة وشكلنا غير كامل وليس كما نرغب. “أنا أشعر بصورة جيدة مع جسمي، هذا مهم، عندما تصغين إلى جسمك. بشكل عام أنا أصغي لجسمي من إظفري الصغير حتى حاجبي..”

شاركت بالعمل عشرات من النساء، من خلفيات مجتمعية وثقافية متعددة، ومن مختلف التخصصات في المجالات المهنية كالطب، علم النفس، التربية، العمل الصحي، الإرشاد الجنساني، علم الاجتماع والنوع الاجتماعي، إدارة الأعمال، الترجمة وغيرها من التخصصات.

رغدة النابلسي هي إحدى القائمات والمحررات اللواتي عملن بجهد لكي ننال هذا الكتاب، وهي اليوم تحضر لرسالة الدكتوراه في موضوع الخدمة الاجتماعية، كما تعمل في مجال التغيير المجتمعي والتمكين النسوي وناشطة سياسية. تقول: “عندما نتحدث عن صحة النساء والنهوض بصحتهن فإننا نتحدث عن حق أساسي من قضايا حقوق الإنسان، بما في ذلك زيادة وعي النساء والفتيات بحقوقهن، مسؤولياتهن وبمعرفتهن حول أجسامهن وصحتهن وجنسانيتهن”.

“بمشي بالشارع بحس حالي مشلّحة.. كل شاب يمر بسيارته لازم يدب كلمة. الشباب هون في البلد محرومين وبطلعوا كل طاقاتهم فينا، عن جد إشي بجنن العقل. الصراحة موضوع تسميع الحكي يستفزني كثير.. دايما بحكولي حاولي تجاهلي.. بس في مرات بقدرش أتجاهل لأنه هالشي متعب”.

هذا الكتاب العربي جاء من أجل إرساء واقعٍ مغايرٍ أكثر إنصافًا للمرأة الفلسطينية وصحتها ومكانتها. فعلى الرغم من التقدم النسبي للخدمات الصحية المقدمة للنساء في إسرائيل –مقارنة بباقي دول المنطقة– تشير المعطيات إلى تدني المستوى المعرفي لدى النساء عموما، مما يعيق عملية تواصلهن مع أجسادهن، ويحد من مداركهن تجاه السلوكيات السليمة المطلوبة لتعزيز صحتهن الجسدية والنفسية. ثم أنّ الافتقار لمصادر المعلومات يكرس عدم معرفة النساء لحقوقهن الإنجابية والجنسانية، مما يتناسب طرديا مع مستوى الرفاهية الصحية التي تتمتع بها النساء.

وبما أنّ الواقع الصحّيّ له ارتباط وثيق بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فانعكاساته أشدّ على المرأة الفلسطينية في إسرائيل، كونها الأفقر اقتصاديا والأقل حظا في فرص العمل والأكثر تهميشا في الساحة السياسية، كما تشير جميع المعطيات الرسمية (جهاز الإحصاء المركزي ووزارة الصحة الإسرائيلية). إنّ الهدف من هذه المبادرة هو إرساء واقعٍ مغايرٍ أكثر إنصافًا للمرأة وصحتها.

من هنا، كان لا بدّ من طرح توجّهات بديلة منبثقة عن رؤية نسوية تقدمية، تهدف لخلق حيز إنسانيّ جديد وعادل يرتقي بمستوى الرفاهية الصحية والعدالة الاجتماعية والقانونية المتعلقة بصحّة النساء، فجاءت جمعية “المرأة وكيانها” في عام 2005 كمبادرة لتحقيق هذا الهدف ومن أجل التغيير العادل.

“لا أطيق أطباء النساء فهم شيء فظيع في نظري… أسلوب التعامل الذكوري في الفحص- حتى الأدوات مصممة بشكل ذكوري. على الطبيبات أن ينتظمن وأن يعملن بطريقة نسوية أكثر”.

منذ تأسيسها، تسعى جمعية “المرأة وكيانها” من خلال عملها الدؤوب إلى المساهمة الفعالة في عملية تغيير النظرة الدونية والنمطية السائدة في المجتمع والمتعلقة بأجساد النساء وصحتها ورفاهيتها والتي أسهمت المؤسسات الطبية تحديدا، في تعميقها، بل إلى تذويتها من قبل النساء أنفسهن.

ويتيح الكتاب، بنسخته العربية، فضاءات التعرّف على الجوانب المتعددة لصحة المرأة، بما فيها الحقوق الجسدية والمسؤولية الفردية والجماعية تجاهها، كما يمنح القارئات والقراء فرصة للتأمل العميق في الخيارات المتاحة للفتيات والنساء لضمان الاستفادة القصوى من الخدمات الصحية القائمة. والكتاب العربي، الذي يضمّ بين صفحاته عشرة أجزاء، يتناول الجوانب الصحية المختلفة الخاصّة بالنساء وبمستويات متعددة كالصحة الجسدية، الصحة النفسية، تصوُّر الجسد، الجهاز التناسلي الانثوي، الدورة الشهرية والوعي للخصوبة، الأيدز، الأمراض المنقولة جنسيا، الجنس الآمن، سن الأمان، إبطال الحمل، تسييس صحة المرأة والحقوق الصحية. أما الفصل الأخير فيندرج تحت عنوان التنظيم من أجل التغيير وكل جزء يحوي توثيقًا لمقابلات وتجارب للنساء الفلسطينيات في البلاد من مختلف الاجيال والمناطق. كتبت الاجزاء بشكل يحافظ على صياغة واضحة وسلسة وسهلة القراءة من حيث اللغة وطرح المضمون.

“لا. ما حدا حكى لي، ولما اجتني قلت يا ويلي. كنت أخاف كثير وما كنتش أعرف شو يعني العادة وأول مرة اجتني صرت أبكي وحطيت شريطة وكيس نايلون. أجتني وأنا بصف السابع، بس لما عرفت امي انو اجتني ومع هيك ما حكيناش عن الموضوع.. حطتلي كيس قطن بخزانتي. مرة كمان كان شهر رمضان وكنت صايمة ومعرفتش انو ممنوع أصوم وأمي عرفت انو جاييتني وقالت لي متصوميش بس بدون ما تشرحلي أسباب عشان هيك كملت أصوم بوقتها”.

ضمن الفصول المختلفة من الكتاب نقع على مواضيع تتعلق بالحقوق الخاصة بجهاز الصحة العامة المقدمة من الدولة، وتسييس صحة المرأة، فحوص طبية وأبحاث وغيرها من الأمور التي تهم المرأة الفلسطينية لارتباطها بالصحة الجسدية والنفسية والبيئية وربطها بواقع المرأة والمجتمع الفلسطيني. وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب، كونه محاولة فعلية لتقليص الفجوة المعرفية ولتطوير نظرة ايجابية معاصرة للجسم الأنثوي ومكانة المرأة، فهو بمثابة أداة تمكين لقدرات النساء في التصدي للدور النمطي للجهاز الصحي العام ولسياسات المؤسسات المختلفة في قمع حقوق المرأة العربية.

“أنا، المثقفة والمتعلمة والمطلعة صاحبة العلاقات والاتصالات، الجازمة والمتمكنة، كان علي أن أستجمع كافة قواي ومواردي لكي أحصل على ما أريده، كل ما كنت بحاجة إليه من أجل علاج سرطان الثدي الذي أعانيه. علاج حديث يأخذ في الحسبان احتياجاتي كامرأة”.

تقوم جمعية “المرأة وكيانها” بدورٍها في عملية التغيير الفعلي من خلال ورشات العمل التفاعلية مع مجموعات الفتيات والنساء، وخصوصا “المهمّشات” مجتمعيا، لمنحهن فرصة إضافية للتحاور المباشر والتأمل العميق في قضايا حساسة ومعرفة حقوقهم ومطالبتها. عربية منصور، إحدى المحررات، وهي ناشطة اجتماعية وسياسية، تعمل اليوم في مجال التوعية المجتمعية، وفي معرض حديثها عن الكتاب ومشاركتها في إصداره تقول: “إنّ مشاركتي في تحرير هذا الكتاب جاءت ضمن شراكة نسوية مع رفيقات درب من أجل واقعي الشخصي كامرأة وواقع النساء العربيات، ومن منطلق إيماني بالارتباط ما بين الشخصي والسياسي. كتاب “المرأة وكيانها” هو تجربة تسلط الضوء على واقع المرأة العربية في مجال “المحظور والعيب”. أستمدُّ محاولة الكسر وإعادة البناء من جديد من المثل العامي” انكسر الشر”. هناك من بَنى هذا الشر وهناك من يحاولن بناء الخير بقراءة ورؤية جديدة تتيح لكل فرد امرأة ورجل مكانًا محسوسًا وملموسًا. نحن هنا في كسر الكسرات لخلق مسميات جديدة لاحتياجات إنسانية كانت، ولا تزال، محرّمة حسب النص المتعارف عليه. هذا الكتاب بالنسبة لي هو بمثابة دعوة لتطوير النصوص ولتحرير المعرفة الشخصية كجزء من بناء المعارف الجمعية.

“أنا امرأة في الثلاثين من عمري، خضعت حتى الآن ل 8عمليات خصوبة بالأنابيب لكي ألد طفلي الثاني… هل ستقولون لي أنني لا أستحق أن يكون لدي طفلان على الأقل… ألا تعتبر العائلة المكونة من طفل واحد استثنائية وشاذة؟ أنا لست امرأة متدينة، أنا امرأة علمانية. أنظر فقط إلى الطبقة الاجتماعية والاقتصادية التي أعيش فيها وأدرك العزلة الاجتماعية التي أعيشها. وأعتبر شاذة (عدم القدرة على الإنجاب بشكل طبيعي ودون الخضوع لعلاج تخصيب يعتبر إعاقة) في المجتمع الذي أعيش فيه، أنا شاذة في المجتمع الذي أعيش فيه…”

نبيلة مناع وهي رئيسة شريكة “لجمعية المرأة وكيانها”، من مجال التربية، تتحدث عمّا دفعها لتكون جزءًا فعالًا من أجل إنجاز هذا العمل فتقول: “لقد قمت بهذا العمل من منطلق مسؤوليتي تجاه ابنتي وأختي وصديقاتي وكل امرأة عربية تبحث عن مساحة تتخبط فيها حائرة وبحرية مفتشة حول ما يروي رغبتها لمعرفة ما يحدث لذاتها، جسدها وروحها.

جسدي هو بيتي.. هو قلعتي التي أواجه بها العالم وهو السند الذي أستمد منه قوتي وثقتي بنفسي.. جسدي هو هويتي التي أنسجم وإياها.. أنا جسدي..”

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>