طه محمدّ علي: لم ينجُ موته من شعره/ مصطفى قصقصي

. |مصطفى قصقصي| لم ينج موت طه محمّد علي من شعره. كان ال […]

طه محمدّ علي: لم ينجُ موته من شعره/ مصطفى قصقصي

طه محمد علي في قراءة شعرية

.

|مصطفى قصقصي|

مصطفى قصقصي

لم ينج موت طه محمّد علي من شعره. كان الموت كعادته، مقتصداً في حركته وفي عواطفه كقناص محترف، يناور كائنات الشعر الفقيرة الذاهبة حافيةً إلى عملها اليوميّ في نسج أسطورة صفورية من برقوق وطين ومن ورائحة الخبز  و”رمان الأمسيات”. كان يتمهّل محتسباً المسافة المثلى بين الصوت والصمت، بين اللفظة والفراغ، مصوّبا نظرته الجليديّة إلى الهواء المحتشد في رئتي الوقت المستأصلتين من جسد الأرض المصاب، ضاغطاً على زناد النسيان، من دون أن يتلعثم قلبه، ومن دون أن يفقد “قدرته على التحكّم في البكاء”.

إلاّ أن قصائد طه محمد علي حاصرته بجيوش هشاشتها وأحكمت عليه قبضتها الواهنة من فرط قبضها الشعريّ الفذ على جمر الحكاية ورمادها، واستدرجته إلى تفاصيل حزنها المبهرة، وأطلقت عليه دونما قسوة كلّ ما تملك في جيوبها من ذخيرة حياة أحالها الفقدان إلى انفجارات هادئة وغائرة من الحنين، ومن “الفرح الذي لا علاقة له بالفرح”، ومن الينابيع الإنسانية العميقة. لم ينجُ موت طه محمدّ علي من شعره، ومن سطوة ألمه الضاحك ومن ذاكرته المأهولة بالجمال الطبيعيّ المنكسر على مرمى حجرٍ من سماء دمعته، بل هزمته الذكريات، كما هزمت الغزاة من قبله، وهزمته الروح المنتصرة لحقها في عدالة شعرية لا يعنيها الإنتقام:

”سأبقى بقعة دم
بحجم الغيمة
على قميص هذا العالم” 

لا مجاز هنا سوى الموت. ولا غريب سوى ظلّه المتقهقر أمام قمر صفورية الأيقونيّ الشاهد على الجريمة. كلّ ما عدا ذلك واقع لا يعوزه سوى تذكرّ طفولته المهدورة لكيّ يغدو شعراً ، وألفة موحشة تنساب كسكّين صقيل ودافئ على وجنتي طفلة الحكاية المدللة التي بعثرت الريح ضفائر قلبها الأخضر وفرطت حبات رمّان دمها القرويّ، قبل أن تطردها من اسمها ذات صيف زلزاليّ لا يوصف.

لجأت صفورية إليه من ليل نكبتها الطويل، وأودعت كلماته صناديق ألمها وندمها وحكاياتها. ولم تكن تعرف أنّ من ائتمنته على وجعها سيحقق هذا التطابق المدهش بين ملامحه وسيرتها، وأنها ستحتاج إلى يديه المبصرتين كي ترى، ويرى العالم، ما حلّ بها.

هل يصنع جرحٌ  شاعره؟ وهل يعوّل الغياب على الشعر لكي يشفى من غيبوبته؟

قال طه محمد علي إنّ صفورية صنعته شاعراً، مقراً بالتحالف، إن لم نقل التواطؤ البقائيّ الجميل، بين الألم العظيم والشعر العظيم.

لكنّ الشاعر صنع إنسانيته، وحداثته الأصيلة حقاً، من المواد الخام لفجيعته الكبرى، ومن التأملّ الدقيق الحاني في نزيفه، ومن مساءلة أناه وآخره، ومن أرقه الوجوديّ الذي قدّ لغته من جذور  قلقة تنمو، منذ ان اقتلعت، في ظلام  الأرض وبين نباتاتها وحيواناتها وخياناتها المغفورة، وتعلو في مدىً حرّ من تثاقف شغوف بين شرق وغرب، وتعانق مضنٍ بين خاص وعام:

أغلب الظن
يا حزن
أنك لست حزني وحدي!!”

في لحظة من أشدّ لحظاته الشعرية حلكةً وإشراقاً، كتلك التي تسبق فجراً دامياً من العذوبة المأساوية التي لا نجاة منها سوى بالشعر، كتب الشاعر:

لكن علامة موتي ستبقى
أن أنظر إلى عينيك
دون أن أبكي” 

منذ سنوات، لا يمكن أن استعيد هذه الكلمات من دون أن أبكي بطريقة ما.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>