في إبستمولوجيا الالتزام”/ خالد عودة الله

ما هو الشرط الذي ينتج منه وفيه المثقف الملتزم معرفته؟ وما هي حدود الذاتي والموضوعي في المعرفة الملتزمة؟ وبماذا يلتزم المثقف الملتزم؟ فإذا كان ملتزما بقول الحقيقة، فمن يأتي بها وما هي طبيعتها؟ وكيف ينتج حقيقة من نوع مخصوص؟

في إبستمولوجيا الالتزام”/ خالد عودة الله

>

|خالد عودة الله|

تنطلق هذه المداخلة من رؤية الالتزام عند المثقف كتقنية مخصوصة في إنتاج المعرفة ومحاولة الإفلات من ملزوزية الالتزام بمذهبية ما، أو كتعبير عن ممارسة سياسات الهوية معرفيًا. وبناءً على هذه الرؤية تقترح هذه المداخلة حقلا أسميته “أبستمولوجيا الالتزام” ناظمًا للمعرفة الملتزمة. وقد شيّدت هذا الحقل الوليد على أطروحات أربع مستفيدًا ومستثمرًا لما بدأ يُعّرف ويُشخّص “بالفلسفة الما بعد قارية”،Post-Continental Philosophy ، وبالتحديد “التفكير الحَدثي” عند الفيلسوف آلان باديو. وأشرعن لهذا الاتكاء على فلسفة آلان باديو بكون مفهوم “الحَدث” عنده مفهومًا خصيبًا: من حيث قيمته “الأبستمولوجية” كموقع لتشكل الحقائق ومن حيث تَعَينه موقعا لولادة ذوات جديدة على ما سيأتي بيانه لاحقا.

وأما خطاطة المداخلة فهي التالي:

1. إستهلال أقدّم فيه بعضًا من الإشكاليات المعرفية-الأبستمولوجية للالتزام على شكل تساؤلات؛

2. مقدمتان لأطروحة “أبستمولوجيا الالتزام: الأولى أسميتها “اِعتلاج/أنتروبيا النقد” والثانية: اشتغال على المقولة/المفارقة “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”؛

3. أبستمولوجيا الالتزام “المكوّنة من أربع أطروحات؛

.

1. يحفّز مفهوم الالتزام عند المثقف مجموعة من الإشكاليات المعرفية–الأبستمولوجية يمكن التعبير عنها بالتساؤلات التالية: ما هو الشرط الذي ينتج منه وفيه المثقف الملتزم معرفته؟ وما هي حدود الذاتي والموضوعي في المعرفة الملتزمة؟ وبماذا يلتزم المثقف الملتزم؟ فإذا كان ملتزما بقول الحقيقة، فمن يأتي بها وما هي طبيعتها؟ وكيف ينتج حقيقة من نوع  مخصوص؟ فعلى هذه الأرض مُتسع للكثير من الحقائق. وإذا كان الالتزام هو صدح بالحقيقة في مواجهة السلطة، فما الذي يحرّر المثقف من فعل السّلطة؟ وما يعصمه عنها؟ وكيف الخروج من ثنائية (القوة/السلطة–المعرفة) المُطبقة التي تحيل المثقف ضحية: ذاتا مؤدبة؟ وإذا كانت القوة/السلطة موجودة في كل ما هو هناك: شبكات متداخلة ومتقاطعة، فكيف يتجوهر المثقف ذاتًا، ذاتًا متحررة من فعل القوة سلبا أو أيجابا بالمفهوم الفوكويّ؟

لم يعد الالتزام قادرًا حتى على عرقلة انسياب أنظمة السيطرة، بل إنّ النقد وأدواته أصبحت مستدخلة في أنظمة السيطرة والسلطة، بما يشابه اختراق الفيروس لخلايا الجسد فيتكاثر بتكاثرها

وإذا كان الالتزام يُحيل إلى لزوم همّ الجماعة، فما يفيضه المثقف الملتزم على معرفة الجماعة؟ وكيف تسكن معرفته هذا البيت الجماعي؟

وإذا كان “الما-بعديين” قد أزاحوا الالتزام عن صفة للكاتب إلى صفة للكتابة: ناقدة مفككة ومقوّضة لأنظمة الحقيقة، فما ضمانة أن لا تكون الكتابة شبحًا للقوّة/السلطة تنطقها بما تريد وتسكتها عندما تريد؟ وإذا كان المثقف الملتزم هو المثقف الناقد، فما هو موقع النقد وما هي حدوده؟ ولماذا يبدو النقد مروّضًا ومَثلومًا؟ وكيف للنقد أن ينتج معرفة مفارقة –لما يتم نقده (ولو بالحد الأدنى) وذلك بالنظر إلى طبيعته (أي النقد) العلائقية بموضوعه؟ وما العمل عندما تستدخل شبكات السلطة النقد وتحيله إلى أحد مكوناتها؟

.

2. وبناءً على هذه التساؤلات أقدّم المقدمتيْن التاليتيْن لأطروحة “أبستمولوجيا الالتزام”

2.1 يتموضع حقل “أبستمولوجيا الالتزام” عند تخوم/نهايات الالتزام كفاعلية نقدية/ تأويلية، وكتجريب معرفيّ مُستنبت على ما يفيض به الوجود كمتعدّد. فبالنسبة لنهايات الالتزام كنقد، فأشخّص هذه النهاية بما أسمّيه “اِعتلاج/أنتروبيا النقد”، ومصطلح الاعتلاج أو الأنتروبيا يشير إلى حالة انحسار الكفاءة فالقصور وصولا إلى الموت الذي تصل إليه الأنظمة (الفيزيائية-المعرفية) مع مرور الزمن، شرط أن تكون هذه الأنظمة مغلقة، أي تتفاعل وتتحرك مكوناتها بعلاقتها ببعضها البعض داخل النظام. يمكننا اعتبار المعرفة النقدية التأويلية نظامًا مغلقًا لكونها: حبيسة التمثيل-اللغة، ولكونها ذاتية المرجعيّة، فتتكاثر المقولات النقدية بما هي فعل علائقيّ بمتواليات هندسية؛ نقد ونقد النقد ونقد لنقد النقد إلى ما لا نهاية، دون أن تنجح هذه النقود بخدش العالم الذي تنقده (أي تحدث تماسًّا مع خارجها)، ويصبح النقد شيئا فشيئا من قبيل الألعاب البهلاونية بالكلمات، فتنشئ هذه النقود رقة/طبقة سميكة تحيط بالإنسان -الذي تطمح لتحريره- وتحيله إلى كائن في متاهة: بقدر ما ينشط في الخروج من المتاهة بقدر ما يُصاب بالدوار.

لم يعد الالتزام كحالة نقد دائمة أو جذرية  قادرًا حتى على عرقلة انسياب أنظمة السيطرة، بل إنّ النقد وأدواته أصبحت مستدخلة في أنظمة السيطرة والسلطة، بما يشابه اختراق الفيروس لخلايا الجسد فيتكاثر بتكاثرها. فلم تعد على سبيل المثال ثنائية القوة/السلطة-المعرفة ذات حمولة نقدية؛ فالسّلطة/القوة استدخلت مقولات نقد المعرفة كقوة في تقنيّاتها، وبات النقد إجراءً “ترحب” به السلطة لشحذ أدواتها ورفع كفاءتها: فمراكز الدّراسات في جيوش العالم ترحب بالنقد الإنسانيّ (المبني على مقولة حقوق الإنسان) لتحسين أداء جيوشها في الاستهداف و”التنشين”، وقراءة الاستشراق أصبحت مقرّرًا إلزاميًا لضباط المخابرات للحذر من سوء تمثيل المجتمعات المستهدفة، ومفهوم “الريزوم” عند دولوز اُستدخل في الأدبيات العسكرية لينتج ما بات يُعرف بالنظرية العَمَليّاتية “الما بعد حداثية”، التي اُستخدمت في مخيم جنين والفلوجة، ودوائر العلاقات العامة في الشركات الصناعية العملاقة تستند إلى النقد الما بعد بنيويّ للعلم والحقيقة للتشكيك في صحة النتائج التي توصّلت الأبحاث التي تشير إلى التأثير الضارّ للغازات العادمة على البيئة والصحة.

2.2 المقولة-المفارقة “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”:

أودّ الاشتغال على هذه المفارقة بعيدًا عن التركيب والتأويل، وذلك بتحويلها إلى مفارقة مُنتجة معرفيا كمقدمة ثانية لحقل “أبستمولوجيا الالتزام”، وذلك من خلال استنطاقها حول ما تقوله عن الوجود والحقيقة.

تنتشر هذه المقولة في العديد من الكتابات الملتزمة (غرامشي، سعيد…) وعادة ما تستحضر كتعبير عن حالة من العجز أمام بطش الرّاهن المُراد التحرّر منه، تقوم المفارقة على افتراض أنطولوجي ينسب فعليْ التفاؤل والتشاؤم إلى وجود واحد مطبق، ومن هذا الافتراض المضمن تنشأ المفارقة. فما الذي يجعل العقل “متشائمًا”؟  فلا توجد علاقة ماهوية ما بين فعل العقل والتشاؤم، فما يجعل العقل متشائمًا هو استخدام العقل بالاستناد إلى  بديهيات/ مُسلمات/ فرضيات المعقول الذي يسعى العاقل إلى التحرّر منه، فلا يستطيع الإفلات فيرتدّ حصيرًا متشائمًا. وأمّا ما يجعل الإرادة متفائلة فنحن لا نتفاءل بما يستحيل تحققه وحدوثه، فالتفاؤل هنا علامة على فعل للعقل خارج مرهونية الزمان والمكان، وإشارة إلى الكامن المتحفز للتحقق، وطفر إلى المتعدّد فيما بعد الواحد. ألخّص فأقول: التشاؤم علامة على قصور أبستمولوجي والتفاؤل حدْس للكامن المتحفز للظهور.

.

3. في “ابستمولوجيا” الالتزام

يقوم حقل أبستمولوجيا الالتزام كحقل تجريبيّ مُستنبت على تخوم ثنائية المعرفة-السّلطة   على أربع أطروحات أولية: الحقيقة هي حدث، وبناءً عليها يعرّف الالتزام التزامًا بالحدث، وآلية الالتزام معرفة تقريرية-أكسيومية تنتج معرفة أفهومية.

قبل أن أبدأ في عرض الأطروحات الأربع، أعرّف باختصار بمشروع آلان باديو الفلسفيّ. يقوم مشروع باديو الفلسفي على نقد متجاوز لكلٍّ من الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية التأويلية/ الخطابية/ التفكيكية، وذلك من خلال إعادة الاعتبار للفلسفة بما هي إعلان عن الحقيقة، في مقابل خطاب موت الحقيقة والذّات. يشيّد باديو بنيانه الفلسفيّ على مقولة  “المتعدّد مقابل الواحد”؛ فباديو يرى العالم كمتعدّد لمتعدّد إلى ما نهاية (أنطولوجيًّا لا تمثيليًّا) وذلك بناءً على استناده إلى نظرية المجموعات البديهية في الرياضيات، كمقاربة أنطلوجية للوجود المتعدّد كمحض تعدّد. ما أراه مفيدًا في فلسفة باديو في بناء حقل “أبستمولوجيا الالتزام” هو تجاورية الحقيقة والذاتية في فلسفته، دون أن يلغي أحدهما الآخر. فالحقيقة محتاجة للذات للإعلان عنها، والذات تولد في انبجاس الحقيقة. وإليكم الأطروحات الأربع التأسيسة “لأبستمولوجيا الالتزام”:

الحقيقة محتاجة للذات للإعلان عنها، والذات تولد في انبجاس الحقيقة

أولا: الحقيقة حدثا: يفرق باديو ما بين “الحقيقة” و”المعرفة”؛ فالمعرفة هي ما هو مكرّر وقارّ ومُعاد، والحقيقة هي ما هو جديد وطازج، مقتبسًا هايدغر في رؤيته للشّاعر “كشاهد على العالم في صُبحه” أو الوجود في بداءته، وبالتالي فالحقيقة ليست حكمًا بمطابقة العقل للمعقول، وإنما تظهر الحقيقة كصدع وكفتق، لا يمكن الحكم عليها من خلال ما استقرّ من معرفة كمحاكاة أو كتمثيل، وتحدّد علاقة الحقيقة بالفكر كعمليه لا كحكم ناجز.

تنبجس الحقيقة كبداءة في العالم من خلال ضميمة/تَكْمِلَة هي الحدث (الثورة السياسية، الثورة العلمية، العشق، العمل الفنيّ)، ويُظهر الحدث تباشيره الأولى على تخوم ما يسمّيه باديو “الموسوعة المعرفية” (وهي مجموع الأحكام المُنشِئة  للخصائص والعلاقات ما بين هذه الخصائص) في حالة من السّيولة والتمنّع للحكم عليه وتصنيفه بشكل جليّ حاسم بالاستناد إلى الموسوعة المعرفية المُمَأسَسة.

أمثلة:

- الثورات العربية المعاصرة، حدث يظهر تمنعا عندما يعقلن بالرجوع إلى الموسوعة المعرفية (المداخلات السيكولوجية، الطبقية، الديمقراطية البرلمانية…)

- حرب تموز 2006 (المعرفة العسكرية، الإستراتيجيا والتكتيك، حرب العصابات والحرب النظاميّة)

ثانيا: الالتزام إعلان بالوفاء للحدث وولادة للذات: الحدث في انبجاسه السّيّال البِدئِيّ يتموقع في ما يُسميه باديو “موقع الحدث”، فيظهر الحدث صامتًا لأنه يفتقر إلى اللغة التي يعلن فيها عن ذاته كونه يتجاوز ما نعرفه. هذا الصمت الحَدَثيّ يحثّ ولادة ذوات جديدة تأخذ قرارًا بالوفاء للحدث على شكل رهان، ولسان حالها “أنا لا أستطيع الإلمام بتبعات الحدث والحكم عليه ولكنني سأبقى مخلصًا له”.

ثالثا: الالتزام يتأسّس على معرفة إكسيومية/ بديهية مسلم بها: بناءً على كون الحقيقة التي يظهرها الحدث، خرقا في جسم المعرفة المُمَأسَسة وتقع خارج قواعدها وقوانينها. فالتعرّض لنفحات الحدث من طرف الذّوات التي تعلن إخلاصها له يتأسّس على اختيار محض، ويظهر على شكل “أكسيوم” بديهية مُسلّمة بكون ما حدث يشكل بداية لتشكل حقيقة ما، وتدشن هذه المسلمة عملية/صيرورة للوصول للحقيقة. فالحدث لا يهبنا الحقيقة ناجزة مبتذلة.

رابعا: المعرفة الملتزمة معرفة أفهومية: الأفهوم (في المعجم الدولوزيّ) هو المفهوم قبل أن يتموضع ويتشيّأ في نظام معرفيّ على شكل مقولة توكيدية إسنادية. الأفهوم حركة دائمة وليس جمودًا، والأفهوم يبدع ولا يخلق لكونه يقول الحدث وليس تمرينا لغويا، وهو بذلك فريد. فالحدث يظهر على شكل موقع مفتوح على احتمالات عدة، وتبدأ مغامرة الذوات الوليدة في تسمية العناصر المكوّنة للحدث، والتسمية تقوم على التجريب فالحقيقة لا زالت في لحظة ولادتها الأولى، ومقولاتها- لا يمكن حسم تكافئها مع الأسماء (المفاهيم) القارة في الموسوعة المعرفية، فهو غُفْلٌ منَ التَّوْقِيع.

يمكن لحقل “أبستمولوجيا الالتزام” المقترح أن يساهم في التحرر من الحالة التي وسمها ابن حزم الأندلسيّ بـ “تكافؤ الأدلّة”، حيث “الحقيقة” رأي أُحسِنَ تدعيمه بمُحاجَجة ما مرتهنة لسطوة النظرية والتمثيلRepresentation ، ويدفعنا إلى “الاصطدام” بأحداث العالم (الثورات، المقاومات) وجهًا لوجه وبروح المغامرة والمجازفة والتجريب المعرفيّ -بما يشبه “الجذب الصّوفيّ” الذي ينتج شطحًا ويمزّق حجبًا ويؤسّس طريقة- لا كمواقع (الأحداث) نختبر فيها أفكارنا وأدواتنا التحليلية القارة، وإنما الأحداث كمواقع لولادة الأفكار وانطلاقة عملية للوصول حقائق كونية جديدة (سياسية، فلسفية، اجتماعية) كمقدمة لتجاوز النقد إلى نقض منظومة المعرفة الاستعمارية.

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. 1- كيف نحدد أنّ هذا الحدث صباح؟
    أم أنّ كل حدث صباح وبالتالي يبرز حقيقة؟

    2- في هذه المرحلة الزمنية التي تذوب فيها الكليات إلى جماعات والجماعات الى فرديات وأفراد, تبدو الأحداث بوصفها مزق في المنظومة المعرفية كالفطر تنبت سريعاً وفي كل مكان لغياب المركزية, فيبدو لي من الذوبان أن نقتحم كل حدث -وهذا هو جوهر الفلسفة التجريبية كما اعتقد
    - لننبت أفكاراً!
    أنا أؤمن بوعي منطق المنظومة واقترانها الرياضي الأساسي, وزرع اللغم في أساس الاقتران الذي سيصنع الحدث ناقض المنظومة, أؤمن بالصبر أكثر وبالخلق أكثر!

    3- أنا منذ بدأت القراءة لك ولآخرين يتقاربون ويتباعدون في نفس المشروع الفلسفي, أعتقد بضرورة وضع أساس منطقي نظري لهذا المشروع الفلسفي, كمشروع هيجل في كتاب logic of science.
    حيث بدأ من الصفر!
    لأنني حين أقرأ كلمة\مصطلح “ذات” “مثلاً” لا أعرف كيف يتوجب عليّ فهمها وموضعتها في ذهني الذي يحاول موضعة النص وتحليله وفهمه.

    شكراً

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>