من الأستاذة فاطمة إلى الدكتورة داليا/ مريم فرح

“تُعتبر الحالة الجديدة التي خلقتها السينما المصرية نتاجَ المجتمع المصري الذي يميل نحو الانكسار المجتمعي والفكري قبل ثورة 25 يناير؛ فمسألة تأخر سن الزواج واعتبارها “مأزقًا” ليس إلا صورة عن “أزمة” سياسية واجتماعية واجهتها مصر

من الأستاذة فاطمة إلى الدكتورة داليا/ مريم فرح

 

httpv://www.youtube.com/watch?v=COesFcvkXaE

 

|مريم فرح|

مريم فرح

الفيلمان “678″ و”بنتين من مصر” (مصر، 2010) هما صورة واقعية لمصر ما قبل الثورة. يطرح الفيلمان نقاشًا حادًّا حول قضايا المرأة في مصر والانتهاكات الروتينية التي تتعرض لها. لم يكن استيعاب الجمهور لهذه السينما الواقعية المثيرة للجدل سهلا؛ً فبعد صراعٍ كبيرٍ مع رقابة السينمائية في مصر ما قبل الثورة عُرض الفيلمان واتهما بأنهما “يسيئان لسمعة مصر”، وكادا أن يُمنعا من العرض في مصر كما حدث مع بعض أفلام يوسف شاهين. يحتوي الفيلمان على  بُعد نسوي عميق لم يكن شائعًا في الأفلام التجارية في تلك الفترة، حيث تعكس مضامين الفيلمين صورة لصلب المجتمع المصري في السنوات الأخيرة وما تعانيه المرأة بشكل خاص في المجتمع الذكوري والبطرياركي الكلاسيكي.

تحرّش عابر للطبقات

يعالج فيلم 678 للمخرج الشاب محمد دياب قضية التحرش الجنسي الشائع جدًا في المجتمع المصري من خلال ثلاث فتيات من ثلاث طبقات اجتماعية مختلفة، يتعرّضن لتحرش جنسي في أماكن مختلفة في القاهرة. فايزة (بشرى) امرأة متزوجة وأم لطفلين- محجبة ومن طبقة فقيرة تعمل موظفة حكومية. تتعرض فايزة لتحرشات جنسية بشكلٍ يومي خلال سفرها إلى العمل في الباص، وتخشى تقديم بلاغ للشرطة خوفًا منها على “سمعتها”. تلتقي فايزة بصبا (نيلي كريم) مصممة مجوهرات وزوجة طبيبٍ في بداية طريقه. تتعرض صبا للتحرش هي أيضًا على يد مجموعة من الرجال أثناء تشجيعها لإحدى مباريات كرة القدم في القاهرة، ويصعب على زوجها تقبلها بعد التحرش بها، فيعزل نفسه عنها، لتقرر صبا الانفصال عنه، وتبدأ بتنظيم دورات لدعم النساء اللواتي تعرضن لتحرش. بالمقابل، تتعرض نيلي (ناهد السباعي) للتحرش في الشارع بجانب منزلها وتتخذ، لأول مرة في تاريخ مصر، إجراءات قانونية ضد المتحرش بها لتواجه معارضة حادة وقاسية من عائلتها والمجتمع من حولها.

أفيش فيلم "بنتين من مصر"

تلتقي النساء الثلاث ويبدأن نضالاً للدفاع عن أجسادهنّ، فيبتكرن طرقَ دفاع عنيفة ضد المتحرشين ممّا يسبب ملاحقة الشرطة لهن. يشار إلى أنَّ الفيلم مستوحى من قصص حقيقية. لقي 678 هجومًا كبيرًا أثناء عرضه في صالات السينما واتُّهم بأنه يدعو إلى العنف، حيث استخدمت النساء في الفيلم السكين لمواجهة المتحرش جنسيًا. حصد الفيلم جائزة أحسن فيلم لعام 2010 في مهرجان دبي السينمائي.

طريقُ الزواج المسدود

أما فيلم “بنتين من مصر” لمخرج شاب آخر هو محمد أمين (“فيلم ثقافي”)، فيطرح مسألة “تأخر سن الزواج” بطريقة جديدة مغايرة للطريقة التقليدية والنمطية، يعرضها أمين ليس بوصفها قضية أو حالة انكسار نسائية فحسب، وإنما بوصفها قضية ناتجة عن أزمة واجهها الفكر القومي، كذلك.
حنان وداليا امرأتان في مقتبل الثلاثينات. حنان (زينة) هي موظفة مكتبة نشيطة جدًا تعيل نفسها وعائلتها. تتمنى حنان أن تلتقي بشريك حياتها، إلا أنّ علاقتها تفشل، فتجد نفسها، آخر الأمر، ضمن مجموعة علاجية عند مختصة نفسية.
داليا (صبا مبارك) طبيبة وتحضر رسالة الماجستير. هي أيضًا المعيلة الوحيدة في العائلة، ترغب في الزواج وتواجه ظروفًا صعبة تؤدّي بعلاقاتها إلى طريقٍ مسدود، فتهرب من فشلها إلى رسم لوحات ترمز إلى رغباتها وأحلامها.

انكسار “سي السيد”

نرى في الفيلمين انكسارًا لشخصية الرجل الشرقي المصري التي بدأت مع شخصية “سي السيد” في ثلاثية نجيب محفوظ، وتُرجمت سينمائيًّا في فيلم “بين القصرين” للمخرج حسن الإمام. “بنتين من مصر” و”678″ يصوران لنا صورة رجل “مهزوم” سياسيًا واجتماعيًا، وليس عبثًا أن يقوم المؤلف والمخرج محمد أمين بإعطاء الاسم “جمال” للشخصيات الرجالية الخمس في الفيلم: جميعهم أبناء الفترة الناصرية، ولدوا في الستينيات مع ذروة الفكر القومي الناصري حيث تمثل فترة ما قبل الثورة 25 يناير فترة انكسار هذه الشخصية الرجولية التي طورتها السينما على مدار عشرات السنين.

إنَّ استعراض مشاكل وقضايا المرأة في السينما ليس حديثًا في مصر، فقد شهدت خمسينيات القرن الماضي نتاجًا سينمائيا كبيرًا عالج قضايا نسائية منها “الأستاذة فاطمة” (1952) إخراج علي الزرقاني، الذي طرح لأول مرة قضية خروج المرأة إلى سوق العمل واندماجها في الحيز العام؛ كذلك “دعاء الكروان” (1959)، أحد أهم كلاسيكيات السينما الذي ألقى الضوء على قضية القتل على خلفية “شرف” العائلة، وهو مأخوذ عن رواية الأديب طه حسين وإخراج هنري بركات، أحد أهم مخرجي زمن “الفن الجميل” في مصر. وفي نفس السنة أُنتج فيلم “أنا حرة” عن رواية الأديب إحسان عبد القدوس وإخراج صلاح أبو سيف الذي عرض لأول مرة فكرة الحرية “المطلقة” للنساء من خلال قصة أمينة التي تخرج لتبحث عن حريتها وتتمرد على عائلتها.

تجدرُ الإشارة إلى أن نجاح هذه الأفلام سببه الحركات النسوية التي كانت في أوجها في الخمسينيات ومطلع الستينيات، بقيادة درية شفيق وغيرها من النسويات اللواتي عاصرنها. انعكس العمل النسوي في سنوات ما قبل النكسة على السينما، فرفع -ولو بقليل- الوعي الجندري عند أبرز مخرجي العصر مثل يوسف شاهين، حسن الإمام وبركات وغيرهم. تجدرُ الإشارة، كذلك، إلى أن صورة المرأة النمطية الضعيفة الواقعة تحت ظل الرجل بدأت تتزحزح. غير أنّ نجاح هذه الأفلام لم يكن دافعًا لاستمرارها، فقد عادت صورة النساء في أفلام ما بعد النكسة لتكون ضعيفة ومقموعة.

صورة المرأة: بين ثورتَيْن

في عودة للحاضر نرى أنّ “678″ و”بنتين من مصر” هما محاولتان لإنعاش ما تبقى من تلك الفترة التي أناقشها أعلاه، حيث يقف الفيلمان على شريطٍ طويل عن مصر ما قبل ثورة 25 يناير، من خلال الشخصيات النسائية. لكن، مع هذا، وإذا تمعّنا في أفلام الخمسينيات المذكورة أعلاه، نجد ليبرالية وتحررًا فكريًا وجندريًا أكبر ليس في القضايا المطروحة فحسب، وإنما في صورة النساء الثائرات، كذلك، واللواتي كسرنَ العديد من القوالب الاجتماعية، السياسية والاقتصادية.

أفيش فيلم "دعاء الكروان"

تُعتبر الحالة الجديدة التي خلقتها السينما المصرية نتاجَ المجتمع المصري الذي يميل نحو الانكسار المجتمعي والفكري. الانكسار الذي تعانيه المرأة في الفيلمين هو انكسار عاناه المجتمع المصري بأجمعه قبل ثورة 25 يناير؛ فمسألة تأخر سن الزواج واعتبارها “مأزقًا” ليس إلا صورة عن “أزمة” سياسية واجتماعية واجهتها مصر. من خلال فيلم “بنتين من  مصر” نرصد مشكلة البطالة والكبت الجنسي والفقر والحالة السياسية في مصر ما قبل الثورة. أما “678″ فهو رمز للكبت النفسي والجنسي الذي يعانيه المجتمع، حيث تصور لنا قضية التحرش الجنسي وانتهاك جسد المرأة قضيةً اجتماعيةً وسياسيةً أيضًا، تخاذلُ السلطات في معالجة قضية التحرش وعدم وجود حماية قانونية قوية للنساء اللواتي يتعرضن للتحرش الجنسي. كلّ ذلك يمنح للقضية بعدًا سياسيًا كبيرًا.

في الانتظار

ينبغي علينا الآن أن ننتظر: هل ستظهر إسقاطات ثورة 25 يناير في صالات السينما لتحدث تغييرًا في صورة المرأة وتؤدي إلى ولادة وعيٍ جندريٍّ جديد، كما حدث في ثورة الطلاب سنة 1968 في باريس؟!  لا تُظهر أفلام 2011 أملاً كبيرًا… تبدو رزمة الأفلام التجارية السريعة التي ملأت الصالات والتي لاقت نجاحًا جماهريًا كبيرًا، مخيبة للآمال للوهلة الأولى، ولكن لننتظر، فلعلّ السنوات القادمة تحمل لنا معها نتاجًا سينمائيا جديدًا، خصوصًا أننا قد شاهدنا في ميدان التحرير حضورًا لوجوه سينمائيّة معروفة ولامعة… فلننتظر، فلعلّ ثورة 25 يناير السينمائية آتية.

httpv://www.youtube.com/watch?v=LQ91cKejuuM

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. رائعة يا مريم في تحليلك..والى الامام …

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>