الحمار ليس كذلك/ مروان مخّول

. |مروان مخّول| تحيّاتي أيّها الحمار؛ ألا زلتَ تعمل عتّ […]

الحمار ليس كذلك/ مروان مخّول

"حمار"، بريشة بول هيرست

.

|مروان مخّول|

مروان مخّول

تحيّاتي أيّها الحمار؛

ألا زلتَ تعمل عتّالًا منذ بزوغ الشّمسِ وحتّى غروبها لا مدّة أطول؟ لا سيّما أنك تفكّر في العودة إلى الإسطبلِ كي ترتاح من حرفتك يا حامل المسيح عبر مريم؟ تعودُ والعَوْدُ أحمدُ؛ معزَّزًا ومكرَّمًا يا عزيزي كأنّك هارون الرّشيد في سفح عهده أو ملك السّويد؟

ها أنا.. أعني عبدك الفقير، أعمل هندسيًّا لا مهندسًا معماريًا في شِرْكة للبناء تُتلف أعصابي على مهلٍ كأنّني شاكوشُ عمّارٍ أو خلّاطُ باطون؛ أحاضرُ في الكتابة الإبداعيّة متنقّلًا كالقردِ من بلدٍ إلى آخر ثم شاعرًا عاطلًا عن التأمّلِ في أيّ شيءٍ شاعريٍّ لضيق الوقت الّذي كالماء؛ سائلًا سائلًا ينزُّ من عمري وما من جليد. أعمل منذ بزوغِ الشمس يا صاحبي وحتّى بزوغها مرّة أخرى كأنّي يا صاحبي كأنّي…

.

تحيّاتي أيّها الحمار مرّة أخرى؛

أعلمُ أنّك في شبابك كنت تذهب وعليك جدّي “أبو وديع” إلى حقله الواقعِ في أقاصي البلد. حيث البُعد عن حضن جدّتي أميالًا وشوقًا لا يُقاس. ولكن كيف استطعت ذات يومٍ بعدَ أن أضاعك جدّي هناك (أعني في الحقلِ البعيد) أن تعود إلى البيت من دون تفكير كبير في الطريق الصّحيح؟ أو من دون حاجةٍ إلى شيءٍ افتراضيٍّ سمّته الحضارةُ: “جي بي إس”؟ هل أنت من بشرٍ أيّها العصريّ؟

أمّا أنا.. أعني أخاك الصّغير، فتُراني أمضي ساعة ناظرًا في كتاب وأنا خارجٌ عن ثيمة الفحوى من المكتوب، أقرأ فأقرأ ثمّ أقرأ ولا أفهم شيئًا لأنّي شارد أكون في أمور الحياة جميعها فأفهم كل شيءٍ سوى ما أطالعه. ومع هذا أنتبه إلى نفسي الشّاردة فأسخر من قدرتي على التّركيز وألوم والديَّ اللّذين ربّياني على أنَّ الحياة هي من ربّتني، ربّما لكي أهرُبَ من ذكرى هروبي عن الدّرسِ أو من ندمي على الصحوِ متأخّرًا على مدخل الثّلاثين.

ولكنّي -ومع هذا- أتابع ما ابتدأته من الكتاب، أقرأه على مهلٍ فاشلًا حتّى الصّفحة الأخيرة الّتي برغم ولوجي إليها إلّا أنني أفهمُ أنّي لا أفهمُ سوى جموح العناد فيّ؛ فأقرأ كتابًا تاليًا يؤكّد سابقَه والآتي على حدٍّ سواء.

.

تحيّاتي أيّها الحمار مرّة أخرى؛

من يومينِ تذكّرت “أبا الفريد” وسقوطه عن ظهرك، وتذكّرت موقفك وقتئذٍ؛ انتظرتَه طويلًا وأنت واقفٌ معه وقفةَ عزٍّ نادرةً إلى أن نهض ثانيةً فعاد على متنك يتابع مسيره من دون شُكرك.

أمّا أنا.. أعني المشغول بنفسه دومًا، ذكّرني موقفك هذا بلقائي كتّابًا عربًا أعرفهم في معرِض فرانكفورت الدّوليّ للكتاب. التقينا فوجدنا هستيريا الحميميّة الّتي كالمسرحيّة تعمُّ مجلسنا، نصرخُ بالتّحيّاتِ من شدّة الشّوقِ الدبلوماسيِّ؛ نحيّي بعضنا تارةً ونقبّلُ أخرى خدودَ بعضنا تقبيلًا خبيثًا يذكّرني بالمتنبّي حين قال:

“إذا رأيت نيوب الليث بارزةً.. فلا تظنّنَّ أن الليثَ يبتسمُ”.

لا يفوتني التذكّر كيف كان واحدنا يخاف مغادرة اللّقاء أولًا. ربّما خوفًا من شيءٍ ما لا أعرفه، بل أعرفه وأستحي من قوله. كان كل واحد منّا يريد أن يكون آخر من يترك المجلس. لعلّه كان يريد بذلك أن يحظى بالنّميمة كلّها مفردًا.

.

ومرّة أخرى وأخرى؛ تحيّاتي أيّها الحمار؛

هرمتَ وأرهقتك النّعوت الّتي أطلقناها عليك. أرجوك عرّفني، إذًا، بحمارٍ آخر سواك، يستطيع تحمّلَ كلَّ هذي التّهم. وليكن -لو سمحت- حمارًا بشريًّا جديرًا بالفعل لا مثلي لا يستطيع سوى الكلام على الكلام.

هل لديك صديق من ملّة الحمير إذًا؟ أقصد مثلنا؟ أعني يستطيع تخصيب اليورانيوم لأسباب غير سلميّة؟ أو يغتصب ابنته منذ سنِّ الخامسة وحتّى الأسبوع الأخير قبل رجمها بحجارة الأتقياء الّذين هم دليلنا وصورةُ التّقوى الّتي رسمناها في مخيّلةِ المدى على الفوتوشوب؟

هل من حمار له ربّ واحد؟ ميتافيزيقيٌّ مثلًا؟ له خمسون نبيًّا، أربعُمائةِ صحابيٍّ، وستة آلاف جنديّ، وثلاثون ألف مدرّعة، وعشر طائرات حربيّة طراز بي 52؟ على سبيل المثال؟

مات جدّي يا حماري، والحقلُ يحصدُ نفسَهُ من شدّةِ القحطِ العاطفيّ. وها أنت هنا، الآن، في حديقةِ الحيوان؛ ندفعُ فِلسَينِ لنراكَ فنستريحَ من عبءِ التكنولوجيا في رجفة المجهول.

فلتحيَ الحمير.

 

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. مرحبا انا بدي اعمل لايك للنص بس مش عارفة كيف على الفيسبوك مش ممكن

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>