التعددية ديني/ بروفسور مروان دويري

التعددية ديني/ بروفسور مروان دويري

هل نتحاور مع الآخر على أساس أن هناك “صح واحد” مطلق هو “الصح خاصتي” أو ندرك أن الصواب هو أمر نسبي وأن الناس يمكن أن تدير حياتها وشؤونها وفق “أكثر من صح واحد” كل بحسب ما يناسبه؟

06Diversity1

| بروفسور مروان دويري |

1-      التنوع والاختلاف قانون طبيعة:

الطبيعة متعددة بنباتاتها وحيواناتها وتضاريسها، والمجتمعات متعددة بثقافاتها ودياناتها وقومياتها وأجناسها، والأفراد متعددون بأشكالهم وشخصياتهم ومواقفهم. السؤال كيف نتعامل مع هذا الاختلاف والتعدد؟

هل نعمل على جعل الجميع أمة واحدة، الأمر الذي يتنافى مع قوانين الطبيعة؟ أو نتصارع ليغلب القوي الضعيف، وهذا هو قانون الغاب وهذا ما فعلته البشرية معظم الوقت؟ أم نقبل الاختلاف كجزء من طبيعة الكون والمجتمعات والناس ونتعايش ضمن هذا الاختلاف ونعتبره إثراء وتنوعا وتكاملا كالفسيفساء الذي يكتمل بكل مكوناته؟

هل نبني علاقتنا على أساس “إما أنا وإما أنت” أو على أساس “الدنيا هي لي ولك، والوطن لي ولك”؟

هل نبني كياننا على إلغاء الآخر أو استغلال موارده أو نبني كياننا بمواردنا ونتعاون مع الآخر لنرتقي معا؟

هل نتحاور مع الآخر على أساس أن هناك “صح واحد” مطلق هو “الصح خاصتي” أو ندرك أن الصواب هو أمر نسبي وأن الناس يمكن أن تدير حياتها وشؤونها وفق “أكثر من صح واحد” كل بحسب ما يناسبه؟

2-      التعددية هي الجواب:

التعددية ليست قيمة فحسب بل عقد اجتماعي يعتمد على “قبول الآخر المختلف” وعلى قيمة “اطلب لغيرك ما تطلبه لنفسك” مما يتيح للناس المختلفين قوميا أو ثقافيا أو دينيا أو عقائديا أن يتعايشوا بسلام بدل أن يتحاربوا، دون أن يحاول أي طرف إلغاء الطرف الآخر.

يسري مفعول هذا العقد فقط على من يقبل به، وبالتالي يحتم على كل طرف قبول الآخر المختلف واحترامه واحترام حقه بأن يكون مختلفا، وعدم الإنقاص منه أو إقصاءه أو تكفيره أو تخوينه.

التعددية ليست مجرد تسامح وقبول كل شيء آخر مثل قبول اعتداء فئة على أخرى بحجة “قبول الآخر”، بل هي عقد اجتماعي يسري مفعولة فقط بين الأطراف التي قبلت هذا العقد وبالتالي قبلت عدم الاعتداء على أي طرف. من يرفض التعددية ويصر على فرض طريقه على الآخرين لا يستطيع أن يطالب من قبِل التعددية بأن يقبل استعلاءه بحجة “قبول الآخر”. قبل مطالبة التعدديّ بهذا القبول على رافض التعددية مطالبة نفسه بقبول الآخر التعددي.

3-      التعددية والأديان:

التعددية لا تتعارض حتما مع الأديان بل هي تؤكد الكثير من التعاليم الدينية التي تدعو للتسامح ولاحترام الآخر، وهي تعطي حيزا لجميع الأديان للبقاء والتعايش والتحاور. التعددية تتعارض مع التعصب الديني الذي يرفض الأديان الأخرى ويعاديها ويريد فرض نفسه على الآخرين. من حق كل مؤمن أن يعتبر دينه ونبيّه وكتابه الأفضل، شريطة أن يقبل أنّ من حق الآخر أن يعتبر دينه ونبيّه وكتابه الأفضل، فحب الذات لا يتعارض مع احترام الآخر وحقه في حب ذاته: من حق اليهود مثلا أن يعتقدوا أنهم “شعب الله المختار” إذا قبلوا أن من حق المسيحيون أن يعتقدوا “أن لهم ملكوت السماوات” وأن يعتقد المسلمون بأنهم “خير أمة أخرجت للناس”. كل سعيد بدينه ولا ينقص من دين غيره.

التعددية تتعارض حتما مع بعض العناصر التكفيرية في الدين ومع أي فكر يعتدي على حق الآخر بالبقاء وعلى حريته بإدارة شؤونه، وعليه فلا بد لكل فئة من مناقشة ومراجعة هذه المكونات في دينها التي تتعارض مع قيم التعددية وإعلاء قيمة “حريتي تنتهي عند حدود حرية الآخر” فوق أي قيمة أخرى.

4-      التعددية تواجه العدوان بقوة:

التعددية لا تقبل العنصرية ولا الاحتلال ولا العدوان بل تقاومه. التعددية تسري على من قبلها وتقاوم من يصر على سيطرة فئة على أخرى. إذا قبلَت فئات شعبنا الفلسطيني مثلا هذا العقد التعددي فهي تتعايش معا وتتكاتف معا في وجه الاحتلال. وإذا قبلت إسرائيل بالتعددية عندها نستطيع أن نتعايش ونتكاتف معا عربا ويهودا في دولة واحدة للجميع. وإذا قبل العالم التعددية عندها يعيش الشرق والغرب بسلام.

5-      التعددية تتيح النمو الفكري والثقافي:

التعددية ليست حالة جمود فكري بل حالة من الحوار المبني على الاحترام المتبادل، لا ينتهي حتما بالتوصل إلى حل أحادي متفق عليه، لأن مبدأ التنوع لا يتيح دائما التوصل إلى حل واحد، لكنه دائما يثري الفكر والمعرفة ويوسع أفق الفهم وينهض بالثقافة الإنسانية نحو الأمام. من شأن هذا الحوار أن يجعل الناس تعيد النظر بقناعاتها ومواقفها وهكذا بالتالي يحصل التغيير، ليس بفرض رأي على رأي بالقوة، بل بقناعة صاحب الشأن بأن يراجع قناعاته ومواقفه، وإن بقي على رأيه فما الضرر أن يسير كل طرف على طريقه، طالما أن قيمة “حريتي تنتهي عند حدود حرية غيري” هي القيمة العليا لهذا الحوار.

6-      التعددية تختلف عن الديمقراطية:

التعددية لا توازي الديمقراطية وليست رديفة لها. الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة سيطرة الأغلبية على الاقلية. الديمقراطية الليبرالية تدعي أنها تحفظ حقوق الأقليات إلا أن هذا الادعاء لا يصمد أمام هيمنة الأغلبية ومصالحها. تجربة المواطنين العرب في إسرائيل هي أفضل مثال على تمكين الأغلبية اليهودية من السيطرة على الأقلية العربية باسم الديمقراطية والقانون والتشريعات التي تضعها الأغلبية.

هناك نوع من الديمقراطية الذي يضمن حقوق الأقليات وهي “الديمقراطية التوافقية” كما هو الحال في سويسرا ويلجيكا وغيرها. تعطي هذا النوع من الديمقراطية كوابح “وحق ڤيتو” بيد الأقلية لضبط ومنع سيطرة الأغلبية. وثائق التصور المستقبلي للعرب في البلاد والتي صدرت سنة 2006 طالبت بانتهاج ديمقراطية توافقية في إسرائيل تعطي العرب نوعا من حق “الفيتو” لكبح سيطرة الأغلبية اليهودية.

7-      التعددية في التربية والأسرة:

التعددية هي قيمة عليا يجب أن نربي الأطفال عليها منذ الصغر كي يقبلوا ويحترموا الطفل الآخر المختلف، وهي القيمة التي يمكن أن تجعل الحياة الأسرية سليمة بأن يقبل الجميع الاختلاف والتنوع في اختياراتهم طالما هي لا تتعدى على حقوق وحريات الآخرين، وهي القيمة التي تجعل العلاقة الزوجية ناجحة لتبنى هذه العلاقة على أساس قبول الاختلاف بين الزوجين. نعم محاولة إيجاد مساحات متفق عليها ولكن قبول بقاء بعض المساحات (القضايا) مختلف عليها والتعايش مع هذا الاختلاف.

===========================

ما دامت الطبيعة متنوعة، والمجتمعات متنوعة، والناس متنوعين، فتكون أي دعوة لاصطفاف الناس والمجتمعات في دائرة دينية أو نهج حياة واحد هي دعوة تناقض قوانين الطبيعة وهي وصفة لاستمرار الصراعات الدامية.

التعددية، أي قبول الآخر المختلف واحترامه ومناقشته ومحاورته هي وصفة للتعايش بسلام ولإثراء الثقافة الإنسانية والنهوض بها نحو الأفضل.

لذلك، التعددية هي ديني.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>