عن المقاطعة والاشتباك: من ثقافة ملتزمة إلى ثقافة مستنيرة!/ مرزوق الحلبي

عن المقاطعة والاشتباك: من ثقافة ملتزمة إلى ثقافة مستنيرة!/ مرزوق الحلبي

سيُحلّ الإشكال متى ساوينا الفنان بسواه من الفاعلين في حياتنا العامة، لا سيما بالسياسيّ وبرجل الأعمال والطبيبة واستاذة الجامعة. سيُحلّ الإشكال متى اعترفنا لأنفسنا ولبعضنا بأنّ المقاطعة كالاشتباك من حيث كونهما أدوات تأثير أو تعبير، تخدمان أهدافا وقضايا متحوّلة

boycott

.

|مرزوق الحلبي|

مرزوق الحلبي

مرزوق الحلبي

الثقافة الفلسطينية هنا مُطالبة من حين لحين إلى الخوض في حديث المقاطعة ـأو إلغاء المشاركةـ والاشتباك في سجالها مع الثقافة العبرية على ما تعنيه من منصات ومناسبات وفضاءات. ومن اللافت أنّ النقاش بهذا الصدد ينحصر مرات كثيرة في حقل الفنّ والإبداع دون غيره. فما أكثر المرات التي تعرّض فيها فنان أو فنانة للنقد والتهجّم حدّ الإقصاء لمشاركته/مشاركتها في حدث ثقافي إسرائيلي داخل الخط الأخضر. ربّما لأننا نعوّل على حقل الفن كحامل الرسالة القِيَمية وكبيت الطليعة ذات الحساسية للظلم، نكلّف الناشطين في هذا الحقل مهمة البوصلة والتأشير على مدى قبولنا أو رفضنا للظلم والأذى والغبن. شعور جماعي يُطالب الفنان الفرد بتمثيله وتقمصه والعمل بموجبه باعتباره مُنتهى الفن أو مُنتهى الوطنية من الفنان أو المبدع. يُطالَب الفنان في هذه الحالة بتمثيل الجماعة، بتثمير رمزيته كفنان عربي فلسطيني وزجّها في السجال مع الآخر. ويتطوّر التوقع الجماعي من الفنان الفرد إلى إلغائه كصاحب إرادة ومشروع وفكر وحرية ورأي. ومن هنا الانقضاض الجماعيّ أحيانا على فنان أو فنانة لا يريدان الامتثال للتوقع الجماعيّ منهما، فيتطوّر موقف مقاطعة الحدث الإسرائيليّ إلى الدعوة لمقاطعة الفنان نفسه ودمغه بالمتواطئ مع القاهر!

تجدّد النقاش في الأيام الأخيرة حول المشاركة في حدث ثقافيّ تنظّمه المكتبة الوطنية الإسرائيلية في القدس أو الانسحاب منه. انسحب ثلاثة مشاركين من المبدعين (يوسف أبو وردة ورمسيس قسيس وعلاء حليحل) ويصّر الرابع (سلمان ناطور) على المشاركة كما هو مقرّر. للذين انسحبوا تسويغاتهم وللمشتبِك تسويغاته. وهي في مضمونها مشابهة لما ساقه المشاركون أو المنسحبون الرافضون للمشاركة في مرات سابقة. في هذه التسويغات ما يدعو إلى التفكير وفي تلك، أيضا. فلا الانسحاب عمل بطوليّ، وإن كان فيه احتجاج وتعبير عن موقف شخصي أخلاقي وسياسي، ولا المشاركة عملية نضالية أو مقاومة وإن كان فيها من مواجهة الآخر في ساحته. لا الانسحاب والمقاطعة تضحية ولا الاشتباك خيانة وطنية أو تواطؤ. هذا ينسحب احتجاجا على شرط أو ظرف وهذا يشارك لأنه يريد أن يقول شيئا عن هذا الشرط وهذا الظرف. هذا يعبّر عن الموقف بغيابه وهذا يعبّر عنه بحضوره. والموقفان ممكنان من حيث المبدأ. والسؤال: متى يتم اعتماد هذا ومتى ذاك؟ وهو سؤال عادة ما يدوي بصوت جماعي ويطغى على سؤال الفنان الفرد لنفسه. صوت جماعي هادر يسعى في كثير من الأحيان إلى إلغاء الصوت الذاتي للفنان والفنانة كأنهما بحاجة إلى وصاية من الجماعة ومن كيان جماعي متخيّل ليستدلا به إلى سواء السبيل. وتصل الأمور أحيانا إلى نوع من الإهانة للفنان ذاته بمحاولة شطب إرادته الذاتية وكرامته الإنسانية أو تصويره عاجزًا عن بلوغ الرأي السديد وحده، ولا بدّ من مساعدة صديق أو جمهور كامل!

لا الانسحاب عمل بطوليّ، ولا المشاركة عملية نضالية أو مقاومة… لا الانسحاب والمقاطعة تضحية ولا الاشتباك خيانة وطنية أو تواطؤ. هذا ينسحب احتجاجا على شرط أو ظرف وهذا يشارك لأنه يريد أن يقول شيئا عن هذا الشرط وهذا الظرف. هذا يعبّر عن الموقف بغيابه وهذا يعبّر عنه بحضوره

يجسّد ما سقناه في الفقرة السابقة نسقا قابضا في الثقافة الفلسطينية المحلية يقضي في كثير من الأحيان بإعلاء شأن الصوت الجماعيّ والرواية الجماعية حدّ إلغاء الأصوات الفردية. فكأن الفرد غير موجود إلا كذرة غبار في الكيان الجماعيّ. أو أن يُقاس ويقيَّم وفق مدى انصياعه لأمر الجماعة أو التصاقه بروايتها وامتناعه عن ممارسة حريته خارج السرب. وهذا ما انسحب ردحا طويلا على كل حقول الإبداع والمبدعين والمبدعات عندنا. فالسؤال الذي طُرح والذي لا يزال يُطرح إلى وقتنا هذا على كل من خاض التجربة: “إلى أيّ حدّ أنت فلسطيني وملتزم في فنّك؟”. وانبثق منه سيل من الأحكام منها التشكيك بفلسطينية الفنان أو هُويته العربية، ومنها إقصاؤه عن الجماعة وتصنيفه في خانة المتعاون أو العميل أو المتواطئ مع الآخر! سؤال الالتزام غيّب سؤال الفنية والجمالية والإنجاز الإبداعي. وهذا ما أفضى إلى جيلين والثالث من المبدعين الميّالين إلى الاشتغال بالهوية أكثر وبالفن أقلّ، بتوكيد الرواية الجماعية وبتغييب الهوية الذاتية. لأنهم “فهموا” أنّ الفن بهويته لا بجماليّته، بسياسيّته لا بفنيّته.

إذا عدنا إلى مسألة المقاطعة أو المشاركة في المناسبات الإسرائيلية فسنجد مَن يؤيّد الاشتباك بالآخر ومحاورته أو السجال معه في فضاءات ومنابر يفتحها، مقابل الذين يرون في الاشتباك مضيعة للوقت أو نفخا في رماد العنصرية والشوفينيّة اليهودية. وبين هذا وذاك- رهط يشتبك أو يُقاطع كموقف تكتيكي تفرضه الشروط وخصوصية الحالة. أما إذا خرجنا بهذه المسألة من حقل الفن والإبداع إلى حقول حياتنا الأخرى سنكتشف نواحيَ إشكالية عديدة سيكون على غير الفنان والمبدع منّا أن يبتّ فيها. فقد يكون الدارسون في جامعة حيفا التي لا تتسم إدارتها بالثورية ولا باللبرالية، على حدّ علمي، من أشدّ الملحّين على الفنان أن يُقاطع مهرجان العود في القدس الغربية. أو قد يكون الأستاذ الذي يدرّس في جامعة بن جوريون مثلا أحدّ الداعين إلى مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية. أو أنّ أوساطا ممثلة في الكنيست “درّة تاج” الديمقراطية الإسرائيليّة، هي المبادرة إلى حملة مقاطعة عرض لفنانة عربيّة يختلفون معها يُقام في الناصرة. بمعنى: عندما نمدّ حديث المقاطعة والمشاركة على كلّ حقول حياتنا سنكتشف أننا نشارك في أكثر الأحيان ولا نُقاطع إلا نادرًا. “نتواطأ” على مدار الوقت لكننا نتوقّع من الفنان المُبدع أن يصحّح الخلل بانسحاب من مناسبة أو حدث إسرائيليّ أو بمقاطعته من الأصل لنهتف له ونُطيّب!

فإذا أردنا المقاطعة فعلا فلنفتح النقاش على مصراعيه ولنفهم الثقافة على سعتها. فلا تكون مجمل الفنون الجميلة التي تأتي بها جماعة ما، بل مُجمل الأفعال والأنشطة الحياتيّة التي تقوم بها. وأنا أميل عادة للمفهوم الأوسع؛ فالثقافة عندي هي كل ما تأتي به جماعة ما من أفعال وفي كلّ حقول حياتها. ضمن مفهوم كهذا يتضح لنا أنّ مفهوم المقاطعة والاشتباك ليس واضحا بل ملتبس تماما. فلا المقاطعة محدّدة المعالم ولا دوافعها ولا تسويغاتها ولا توقيتها. ومن غير المعروف مَن هو المكلّف بالمقاطعة ومن هو المحرّر منها ومن تبعاتها. فلماذا يُقاطع الفنان حدثا ثقافيا ولماذا يُقاطع المثقف مناسبة إسرائيلية ولا يُقاطع السياسيّون البرلمان؟ لماذا تُطالب فنانة تؤمن حتى النُخاع بأهمية الشراكة اليهودية-العربية بالعدول عن إيمانها ولا يُطالب الأستاذ الجامعي بتقديم استقالته من جامعته العنصريّة؟ أو لماذا لا نُقاطع مؤسّسة التأمين الوطني فلا نقبل مخصصاتها؟ أسأل هذا السؤال تحديدا لأنني عرفت الشيخ أبو حسين هاني قبلان زيدان الحلبي -عمّ والدتي أمدّ الله في عمرها- وغيره من عمومتي الذين عاشوا وماتوا ولم يتقاضوا مخصصات كهذه بوعي تام ولم يشربوا من حنفيات الماء بل من آبار بيتية لاعتقادهم أنّ مال السلطان وماؤه مفسدان تماما لعفّتهم وتقواهم وزهدهم! واضطرّهم موقفهم هذا -وأساسه في عقيدتهم الدينيّة- إلى الاعتماد على الاقتصاد البيتيّ الزراعيّ أو العمل الجسمانيّ الصعب حتى آخر أيامهم.

سيُحلّ الإشكال عندما نتجاوز حدود الالتزام ومفهوم المثقف العضويّ كما مارسناه، إلى الاستنارة والمثقف المستنير. صارت الاستنارة ضرورة تخلّصنا من النُدب التي خلفها الالتزام في جسد الثقافة وروحها. والاستنارة هنا هي التحرّر والتحرير من أسر الهوية كحصن تتقلّص فيه أنشطة الفرد فإمّا هي دفاع عن الهوية أو هجوم على هويات أخرى 

يُخيّل لي أحيانا أننا سريعون في تسجيل مواقف دراميّة في موضوع المقاطعة ورفض الاشتباك ومن دوافع سياسية وأخلاقية واحتجاجيّة وسواها، بينما نحن غير مستعدّين للمضيّ قدمًا مع الموقف إلى تلك المناطق التي سنتضرّر فيها من تبعات موقفنا الناريّ هذا. ففي مبنى القوة الحالي نحن الخاسرون على الغالب وعليه فإننا ننزع بالفطرة إلى تسجيل انتصارات معنويّة على الآخر من خلال الرفض والامتناع والمقاطعة في الساحات التي تشهد نشاطا أخلاقيا أو من المفروض أن تكون كذلك- الحقل الثقافي بمفهومه الجمالي الضيق. ربما من هذه النقطة تحديدًا، يظلّ من الأسهل مطالبة هذه الشاعرة وذاك الكاتب بالمقاطعة نيابة عنّا بينما نواصل نحن الاشتباك من أوسع أبوابه وفي كل حقل ومضمار، في الحقل الاقتصادي وعلاقات العمل وفي الجامعة والعلاقات الإنسانية وما إلى ذلك! وهذا لأنّ سؤال المنفعة والضرر يدخل على الخط معترضًا بقوّة على حكم السؤال الأخلاقي أو السياسي المباشر.

سيُحلّ الإشكال بالإقرار بأننا نقاطع قليلا ونشتبك كثيرًا، وبأنّ مقاطعتنا قد تكون فعلا إراديًّا بينما معظم اشتباكنا هو قسريّ بحكم الحالة والظرف الذي نحن فيه، وبأنّ المقاطعة أو الانسحاب سيضرّ بنا أيّما ضرر فنشتبك. سيُحلّ الإشكال متى حرّرنا الفنان من إملاءات الجماعة وتركنا له حرية الاختيار واثقين بأنّ له اعتباراته الذاتية ومشروعه الشخصيّ، إلى جانب كونه عضوًا في الجماعة، وأنه قادر على البتّ في الأمر وحده. سيُحلّ الإشكال عندما نحاسب الفنان والمبدع على رقيّ إبداعه وإنسانيته لا على هويته الحزبيّة ومدى حرْفيته في نقل الرواية الجماعية أثناء السجال. سيُحلّ الإشكال متى ساوينا الفنان بسواه من الفاعلين في حياتنا العامة، لا سيما بالسياسيّ وبرجل الأعمال والطبيبة واستاذة الجامعة. سيُحلّ الإشكال متى اعترفنا لأنفسنا ولبعضنا بأنّ المقاطعة كالاشتباك من حيث كونهما أدوات تأثير أو تعبير، تخدمان أهدافا وقضايا متحوّلة. سيُحلّ الإشكال متى اعترفنا لأنفسنا ولغيرنا بحرية الاعتقاد بأنّ الشراكة مع الآخر هي خيار استراتيجيّ وليست مجرّد تكتيك عابر. سيُحلّ الإشكال عندما نعترف بالتعدّدية قولا وفعلا، خاصة للغير والمختلف والخصم. سيُحلّ الإشكال عندما نقرّ من دون أن نفتعل موقفا دراماتيكيًّا بأنّ الاشتباك كالمقاطعة قد يكون نافعًا وقد لا يكون، وأنّ المقاطعة كذلك. سيُحلّ الإشكال عندما نتجاوز حدود الالتزام ومفهوم المثقف العضويّ كما مارسناه، إلى الاستنارة والمثقف المستنير. صارت الاستنارة ضرورة تخلّصنا من النُدب التي خلفها الالتزام في جسد الثقافة وروحها. والاستنارة هنا هي التحرّر والتحرير من أسر الهوية كحصن تتقلّص فيه أنشطة الفرد فإمّا هي دفاع عن الهوية أو هجوم على هويات أخرى!

الاستنارة لازمة كي لا يشبّ جيل آخر يُشبه عدوّنا كما نشبهه نحن!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. الأخ مرزوق أنا أتفق معك في فكرة تحرير الفن من الهوية، ولكن يجب التمعن في ممارسات الاحتلال وابتداعه المُستمر للتكتيكات الاجتماعية في سبيل غسل جرائمه. فالمشاركة في المناسبات الفنية داخل ما يعرف بإسرائيل يخلق تربة خصبة للاحتلال في عقل الرأي العام، وتحديدا الغربي، في زرع خطاب يُلبس الكيان الصهوني ثوب الديمقراطية، والمبادرات الفعالة في إحقاق عملية السلام والتعايش، وهذا يتنافى مع النفس الجماعي المتصاعد لقطع السبل أمام هذا الكيان الغاصب في التمادي بوحشيته. أنا أشاركك الرأي من حيث تحرير الفنان من التوقعات الشعبية، ولكن، الدموية المتصاعدة، والصراع المُحتدم فوق الساحات الأكاديمية، الواقعية، والإلكترونية يُقلل في الفترة الراهنة من إمكانية فصل الفنان عن هويته، ويلقي على الفن والفنان، كما يلقي على فلسطين والفلسطيني، مسؤولية بناء مفاهيم جديدة وموحدة في تفكيك آلة الاحتلال الجهنمية. وفي نظري، وكما أسلفت تحديدا في الفترة الراهنة، نحتاج أكثر لبناء موقف يأخذ طابع المُقاطعة الحُرة، لتأسيس اشتباك عضوي وجماعي

  2. التعليق

    عزيزي مرزوق

    يعطيك العافية.اعجبني المقال وحان الوقت لنقاش الموضوع بموضوعية.

    اعجبني توجهك الحواري والذي تعطي فيه الشرعية لهذا ولذاك شريطة ان يكون
    العمل
    مفيدا للصالح العام والانساني. ومع الحفاظ على روايتي.

     

     

    شخصيا اؤيد اللقاء مع الآخر ولهذا اعمل على ترجمة محمود درويش مثلا الى العبرية.

    للهوية مجموعة اسئلة مهمه:

    1. كيف اعرف نفسي؟

    2.كيف يؤثر الموقف المتواجد أنا به على تعريفي لنفسي؟ يعني هل تعريفي
    لنفسي
    يتغير حسب الموقف.

    3.كيف يعرفني الآخر؟

    4.كيف أريد أن يعرفني الآخر؟

    5.ما هو تأثير هذا علي؟

    من هذا المنطلق اؤيد المشاركة. واحترم من له رأي مختلف.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>