بين قمع من الخارج وقمع من الداخل ..نرفض القمعين!/ مرزوق الحلبي

بين قمع من الخارج وقمع من الداخل ..نرفض القمعين!/ مرزوق الحلبي

فلكثير منّا هنا خلاف جوهري مع الجناح المحظور الذي استشعر القوة من تمدّد داعش وشرع يتحدث مزهوّا أو مهددا عن تطلعاته وأمانيه بخصوص مشروع خلافة عاصمتها القدس. وهو ليس مشروع سلام أو سلم أهلي أو دمقراطية أو حقوق إنسان أو سياسة بمعناها الحديث بل مشروع ينطوي ـ وفق النموذج الداعشي أو سواه ـ على المزيد من العنف والحروب المُطلقة.

المصدر: الإنترنت

المصدر: الإنترنت

| مرزوق الحلبي |

قرار حكومة اليمين الإسرائيلية حظر الجناح الشمالي للحركة الإسلامية واعتبارها حركة غير مشروعة قانونيا يشكّل معضلة حقيقية للسياسة العربية هنا. وهي معضلة تجسّد التعقيد في المشهد الراهن وحقيقة أن الأمور لا تخضع لثنائية الخير والشرّ أو الأبيض والأسوَد. لكنها كشفت، أيضا، جمود السياسة العربية هنا وقسوة أنساقها التي تصل حدّ العُقم والانسداد التام. وعليه، نسجّل فيما يلي جملة من الملاحظات الحوارية التي تهدف إلى تجاوز حالة العقم:

ـ استثمرت الحكومة اليمينية المعروفة بعدائها للدمقراطية ومؤسساتها (جهاز قضائي مستقلّ وإعلام ومنظمات المجتمع المدني) وللحقوق الفلسطينية أجواء محلية وإقليمية ودولية لتوجيه ضربتها. وهي ضربة قُصد بها تحقيق جُملة من الأهداف أهمها الظهور بمظهر صقري أمام الجمهور الإسرائيلي الذي بدأ يتململ من إخفاقاتها في كثير من المجالات لا سيما المجال الأمني والسياسي. ومنها، أيضا، أنها تحاول الربط بين الشأن الفلسطيني واستحقاقاته وبين الأصولية الإسلامية خاصة الداعشية والإرهاب الذي نتج عنها. وفي هذا المستوى لا بدّ من موقف مناهض لهذا الإجراء الذي يشكّل تضييقا صارخا لهامش حركة المجتمع العربي هنا وحرياته السياسية.

ـ لا ينحصر الأمر في هذه المساحة من علاقة حكومة اليمين بنا أو بالشأن الفلسطيني والدمقراطية. فلكثير منّا هنا خلاف جوهري مع الجناح المحظور الذي استشعر القوة من تمدّد داعش وشرع يتحدث مزهوّا أو مهددا عن تطلعاته وأمانيه بخصوص مشروع خلافة عاصمتها القدس. وهو ليس مشروع سلام أو سلم أهلي أو دمقراطية أو حقوق إنسان أو سياسة بمعناها الحديث بل مشروع ينطوي ـ وفق النموذج الداعشي أو سواه ـ على المزيد من العنف والحروب المُطلقة. وفي هذا ـ اصطف هذا الجناح في خانة القوى الأصولية العدمية غير القابلة للأخذ والردّ وغير المستعدّة لعلاقات ندية متكافئة لا مع المختلف ولا مع الآخر. بمعنى ما، قرار الحكومة اليمينية القومجية العنصرية يقع على حركة توازيها في الطروحات وفي الاحتمالات. أما كونها جزءا منّا لا يبيّض صفحة مشروعها ولا ممارساتها. حكومة يمينية انقضّت بقوة أوامر حالات الطوارئ على حركة سياسية تحمل الفكر النقيض المطابق في مؤدّاه لو أنها في مركز القوة!

ـ ليس هذا فحسب ـ فللكثيرين منّا حسابهم مع هذا الجناح الذي أنتج في مجتمعنا أجواء غير دمقراطية وشحنًا معاديا للحريات والفن والإبداع. وسعى بقوة، من خلال رموزه ومساجده، إلى إشاعة ثقافة إرهاب وتهديد وحظر نشاطات وكم أفواه واستهداف شخصيات وتحريض كان ضحيتها شخصيات وطنية وتراث وطني وفنانين وفنانات وناشطات وجمعيات مجتمع مدني وطوائف عربية أخرى. هذا، ناهيك عن محاولات محلية تتسم بالإكراه الديني والتكفير وفرض سلوكيات وهيمنة على الحيز العام في بعض المواقع. وعلى المستوى نفسه أنشأت الحركة خطابا معاديا للمرأة وحرياتها وقضيتها وجمعياتها يتضمن طروحات رجعية بحقها. أما عن العداء للمثليين والمثليات فحدّث ولا حرج ـ فقد تعرّضت لهم الحركة بوضوح من خلال طروحات ظلامية متخلّفة تماما.

ـ عمدت هذه الحركة بمنهجية ومثابرة على هدم “الوطني الجامع” وإحلال “الإسلامي الإقصائي” دون أي مراعاة للنسيج السكاني لمجتمعنا ودون أي رسائل تطمين أو حوار أو ربط جسور ـ إلا فيما يجمّل الصورة ويخدم الهدف الأبعد ـ وهذا ما أحدث فرزا طائفيا واضحا لم تبذل الحركة أي جهد لمنع حصوله ـ (لم نرَ منها أي تحرّك لتطويق قضية شهاب الدين مثلا!) فنجحت الحركة في هذا حيث فشلت المؤسسة الحاكمة. فقد سعى بشكل منهجي إلى تحويل الصراع دينيا خدمة لأجندتها ومصالحها وتحويل المسألة الفلسطينية برمّتها وقضايا الفلسطينيين في إسرائيل إلى قضية صراع على الأقصى ليس إلا ـ وبدت في هذا مرتبطة بمشاريع خارجية وأجندات غير وطنية قطعا.

ـ عندما تأتي الحكومة اليمينية لتقمع هذه الحركة بما ينفع سياساتها التي تشجّع توجهات وأطرا وحركات يمينية عنصرية وفاشية لا يسعنا إلا أن نتنبّه لما تحمله هذه الخطوة من دلالات. لكن عندما نضع كل هذا في ميزان ما سبّبته الحركة من ضرر لمجتمعنا وللسياسة فيه ولعلاقاته، فإنه يصعب جدا على المتنورين منّا أن يقولوا ولو كلمة واحدة بحق هذه الحركة. فكيف يُمكننا أن ندافع عن حق التعبير والتنظّم لهذه الحركة وقد لعبت في كثير من الحالات القامع الداخلي للحريات؟ كيف لنا أن ندافع عن حق هذه الحركة في وجه هيمنة يمينية إقصائية طالما أن هذه الحركة مارست نوعا من الهيمنة والتجبّر والقمع والإقصاء بحق قوى وأفراد في مجتمعنا؟

ـ لا يُمكننا أن نقبل قرار حكومة تناهض هي بنفسها الدمقراطية. لكننا لا نستطيع أن ندافع عن حركة يمينية بين ظهرانينا لأنها من “جماعتنا”. ولا نقبل أن يكون خيارنا هو بين يمين إسرائيلي جامح وبين يمين عربي ديني شعبوي يماثله في الجموح وإن كان في خانة المحكوم (لا الحاكم). ولن نقبل أن يقول لنا أحد مَن كان أن يميني عربي من لحمنا ودمنا أفضل من يميني يهودي صهيوني. كلاهما يعدنا بمزيد من المآسي. فخيار المتنورين أن يرفضوا الخيارين. أما السياسيون فأفهم “منطقهم” طالما أنهم وهذا الجناح في أطر مشتركة مثل لجنة المتابعة أو نشاط مشترك ـ مظاهرة ضد الاحتلال. وعليهم بالمقابل أن يفهموا منطقنا نحن حينما نُشير إلى الجانب ألأصولي التكفيري الإقصائي في ممارسات هذه الحركة وإلى العدمي في مشروعها.

ـ لقد قرأت بارتياح الكثير من الكتابات المُدركة للتعقيد والتركيب الصريحة في نقد الحركة الإسلامية موضوع الإجراء الحكومي، ونقد عقيدتها وممارساتها على الأرض داخل مجتمعنا وضد قوى فيه. لم يعد هذا الجيل ساذجا ومقتنعا بمباني وأنساق منعت حتى الآن نقاشات ومكاشفات عميقة داخل مجتمعنا. وكان النقد صؤيحا واضحا وأحيانا مواربا خجولا. وهذا النقد الصريح أو الخجول قابلته كتابة منافحة لا تتردد في الهجوم على الانتقاد المشروع كأنه جريمة بحقّ قدّيسين لا تجوز مساءلتهم ولا لومهم.

ـ سجالنا الآن كان ينبغي أن يحصل بشكل أعمق وأكثر اتساعا من قبل. لكنه تأجّل بسبب من الجمود السياسي والعقم الذي أصاب السياسة المحلية كانعكاس لتداعي المشاريع العربية في الجوار وأبرزها مشروع الدولة العربية. لقد صارت بعض الأفكار والعقائد كومة خردة في الفناء الخلفي وكان الأفضل لو أن مجتمعنا نفسه رمى بالمشروع العدمي للجناح المحظور على هذه الكومة وليس هذه الحكومة اليمينية العنصرية المعادية للعرب.

ـ لقد استفادت المؤسسة الإسرائيلية كمركز قوة وسلطة من الحركة المحظورة في ضرب المشروع الوطني ـ كما فعلت مع حماس وكما فعل الغرب ولا يزال مع قوى أصولية إسلامية في الحيز العربي ـ وفي ضرب النسيج الاجتماعي من خلال الخطاب الإقصائي لهذا الجناح ونشوء حالات تكفير وإكراه وإرهاب ديني. وهي تستثمرها الآن لدى حظرها للظهور بمظهر صقري أمام جمهورها. بالمقابل استفاد الجناح المحظور للحركة الإسلامية من الفلسفة السياسية في إسرائيل التي قضت منذ أواسط الستينيات باحتواء الهوامش السياسية والحركات التي اعتُبرت متطرفة ضمن الحياة العامة بما فيها الترشح لانتخابات الكنيست. هذا ما جسّدته قرارات المحكمة العليا وتوجهات المؤسسة السياسية في نواتها الصلبة ونُخبها. ومن عادة مثل هذه الأمور أن تتمّ ضمنا وبصمت الجانبين المعنيين. ويبدو أننا وصلنا الآن إلى خاتمة لهذه الحقبة.

 ـ بناء على كل ما تقدّم فإن الموقف الصحيح هو رفض الإجراء الحكومي القمعي ورفض مشروع وسياسات الحركة المحظورة بالمقدار نفسه. لسنا مخيّرين كما يصوّر البعض بين أن نكون في صفّ الحكومة أو في صف الجناح المحظور بل تراني رافضا للجانبين معا كونهما مشروعا يمينيا إقصائيا عنيفا بامتياز. من هنا أهمية التفكير في الطريق الثالثة وفي سياسة أكثر فاعلية وحيوية تنظر إلى وجهها في المرآة كل صباح وتعمد إلى التصحيح عندما لا تعجبها النتيجة. لقد آن الأوان لسياسة جديدة ترفض الثنائيات القابضة وتسعى إلى تفكيك المباني الواطئة الناتجة عنها.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>