مسيحي، درزي، عربي، فلسطيني.. في فائض الحساسية الهويتية ومآلاتها!/ مرزوق الحلبي

مسيحي، درزي، عربي، فلسطيني.. في فائض الحساسية الهويتية ومآلاتها!/ مرزوق الحلبي

ليس خافيا على أحد منبع هذه الحساسية. فهي في شقّ منها تأتي من فائض ردّ فعلنا على سياسات سلطوية تاريخية تسعى إلى طَوْأفة الباقين في وطنهم بعد النكبة والتعامل معهم على أنهم طوائف مختلفة ومتصارعة وأقليات وليسوا مجتمعا أصلانيا أو أقلية وطن أو جزء من شعب.

helping-hands2

| مرزوق الحلبي |

يتحفظ بعض الأخوة المسيحيين هنا في إسرائيل من كونهم “مسيحيين” وتعلموا في مدارس “مسيحية” وينتمون للطائفة “المسيحية” ولهم كنيسة و”أبونا”. بل نراهم ينتفضون كالملسوع لتوكيد عروبتهم وفلسطينيتهم وثقافتهم الإسلامية حدّ إنكار مسيحيتهم. ومثلهم أخوة دروز، هنا في إسرائيل، يتحفظون من كونهم “دروزا” ومن قُرى “درزية” وينتمون لـ”الطائفة الدرزية” ولهم عقيدة وخلوة وشيخ ـ (اعتراف ـ كنتُ منهم في مطلع شبابي). وهم كذلك، ينتفضون كالملسوع كلما استمعوا إلى لفظة “درزي” وأنشأوا خطابا فلسطينيا وعربيا مثل “قحّ العرب” و”أخلص الوطنيين” كتسميات تستر انتماءهم الأول. هؤلاء وأولئك يتوجسون شرّا كلما اقتربوا من انتماء موضوعي لهم ويُغالون أحيانا كثيرة في توكيد عروبتهم مرة وفلسطينيتهم مرة وثقافتهم الإسلامية مرة. وقد تجلّت هذه الحساسية المُفرطة في الأسابيع الأخيرة مع استمرار نضال المدارس الكنسية المسيحية من أجل ميزانيات تستحقّها. وهي، في رأينا، حساسية مُفرطة حان الوقت لتطليقها بالثلاث، وتطبيع علاقتنا بأنفسنا وهوياتنا ومجموعات انتمائنا والتصالح معها. باعتبارها مُلكا وحقا لنا وليس مادة تعبث بها أيادي السلطة وتصوغها سياساتها.

ليس خافيا على أحد منبع هذه الحساسية. فهي في شقّ منها تأتي من فائض ردّ فعلنا على سياسات سلطوية تاريخية تسعى إلى طَوْأفة الباقين في وطنهم بعد النكبة والتعامل معهم على أنهم طوائف مختلفة ومتصارعة وأقليات وليسوا مجتمعا أصلانيا أو أقلية وطن أو جزء من شعب. بل حاولت قطع صلتهم بتاريخهم وثقافتهم ولغتهم وذاكرتهم وروايتهم. ومن الطبيعي في مراحل من مواجهة هذه السياسات التأكيد على الهوية الواحدة الموحّدة التي لا تطيق أي حديث طائفي أو مفردات دالة على الخصوصيات لئلا نلتقي بسياسات السلطة أو نظهر كمعتمدين لمقولاتها.

في الشق الثاني لأصل الظاهرة نُشير إلى أن عملية بناء الهوية الوطنية الجامعة بعد النكبة اعتمدت استراتيجية تأكيد الجامع والموحّد والعام وإنكار المختلف والخصوصي. وتأثّر هذا البناء بشروط السياق التاريخي الذي شهد بناء القومية العربية في الإقليم على هذا الأساس الرومانسي الذي قضى بصهر الجميع في قومية واحدة وهوية موحّدة متخيّلة لا متسع فيها لهويات أصغر ولا لكيانات تاريخية (لغوية أو دينية أو إثنية أو غيرها)  . وهو ما حصل، أيضا، مع “الإنسان العربي” الذي ألفى نفسه مُنتشيا بالاستقلالات الخاصة ومستعدا للذهاب مع الجماعة على حساب خصوصيته.

من المعروف أن عملية بناء الهوية العربية ـ كما في بناء كل هوية ـ انطوت على عنف داخلي وقع على مجموعات كثيرة في الحيز العربي طُلب إليها مُبايعة القومية العربية والتنازل عن خصوصياتها أو لغتها أو ذاكرتها كُرمى للهويّة الجامعة. هذا بوجه عام، إلا أن أنظمة حكم عربية عديدة عمدت إلى استثمار الخصوصيات الدينية أو اللغوية أو الإثنية في مناورات سلطوية شحنت الطوائف وعبأتها ضد بعضها ـ سورية مثال صارخ! وهنا عندنا ـ تم بناء الهوية الوطنية على مرحلتين. في الأولى طُلب من الأفراد والمجموعات تبني العروبة كهوية واحدة وحيدة تغيب الهويات الصُغرى فيها وتختفي. وفي المرحلة الثانية، تم الانتقال إلى الهوية الفلسطينية وبالأسلوب ذاته مع قمع الهويات الصُغرى والخصوصيات.

من هنا، فالحساسية المُفرطة في لغة الهويات عندنا مردّها هذا السياق المحلي والإقليمي الذي شهد تطورا لافتا آخر أحدث طبقة جديدة من التوتر الشديد على مستوى الهويات الصُغرى. فظهور الإسلام السياسي الثقافي الديني كمركز هويتي أساسي في الإقليم زاد من الحساسية للانتماء الطائفي باتجاهين. فقد ردّت الطوائف والمجموعات غير الإسلامية على بثّ هذا المركز بتململ وبالتفات للهوية الصُغرى وتعزيزها. خاصة وإن الإسلام السياسي حتى بصيغته في إسرائيل ـ أحدث قوى دفع وإقصاء للمجموعات غير الإسلامية بمجرّد تعريفه لذاته وللعالم ومَن فيه ـ الإسلام وأهل الذمة مثلا. هكذا كان أثر الحركة الإسلامية هنا بشقيّها على الأجواء والمجموعات والأفراد. فقد رأينا حصول بناء لهوية مسيحية ردّا على الإقصاء المُضمر والفعلي الذي في بناء الهوية الإسلامية. ويُمكن تفسير بعض الأصوات المسيحية في الأزمة الأخيرة للمدارس على أنها تبثّ على هذه الموجة. ورأينا قوى في الطائفة المسيحية تشدّ نحو الهوية الجامعة كردّ فعل على ردّ الفعل المذكور. أي أن الخطاب العروبي الوطني لدى أبناء في الطائفة المسيحية (والدرزية، أيضا) مشحون بحساسية طائفية. وهذه المرة تجاه حراك طائفي داخلي يحصل كردّ فعل على قوى فاعلة على الهوية من خارجها. ويزداد الشحن حدّ إقدام البعض من مسيحيين ودروز حدّ إنكار انتماء موضوعي لصالح هوية متخيّلة غير موجودة. ومما يزيد من تعقيد الحالة الهويتية راهنا هو المشاهد العنيفة والدموية التي رسمها الإسلام الراديكالي والعدمي في الإقليم حولنا. فهي مشاهد مرعبة تحولت إلى تطهير عرقي بحق مسيحيين في العراق وضغط يومي عليهم في أماكن تواجدهم بما فيها فلسطين التاريخية، أيضا. رأينا الترحيل الذي لحق بالأيزيديين والأذى الذي أصاب الدروز في جبل السماق لصق حلب، والأمثلة كثيرة.

هذه التطورات شدّت أعصاب هوياتنا هنا باتجاهات مختلفة. من ناحية،  النزعة الطبيعية إلى الاحتماء بالعصبيات الوشائجية الأولى ومجموعات الانتماء العرقي والطائفي والديني نُشدانا للأمن والأمان أو خيبة من الهوية الجامعة ومآلاتها، أو خوفا من مركز هويتي إسلاموي النزعة يُقصي مَن هم غير مسلمين ويهدد وجودهم. من ناحية ثانية، وباتجاه معاكس تماما، نزعة لنفي الاختلاف وإنكار الخصوصيات والانتماءات تطلّعا إلى الانتماء الجامع الكبير ـ المتخيّل أو كحنين لما كان مأمولا في حقبة سابقة! وهذا ما أثار موجة جديدة من فائض الحساسية لهوياتنا الصُغرى تصل حد التوجّس منها وإدارة الظهر لها. ويصير الأمر مؤلما عندما تكون الهوية مجموعة انتماء من لحم ودم.

على هذه الخلفية يُمكننا أن نفهم، أيضا، تفكيكات الهوية الحاصلة مقابل بنائها. وهي تفكيكات ترافقت مع تفكيك دول وتفتتها إلى كيانات سياسية غير دولانية متصارعة. وهو ما ينعكس عندنا، أيضا، باتجاهات هويتية مختلفة أشرنا إلى بعضها وإلى بعضها لم نُشر. فالتفكيكات الحاصلة في الإقليم المرفقة بعنف وجرائم ضد الأقليات غير المسلمة تُعطينا تفسيرا ولو جزئيا للحديث الصريح هنا عن رغبة أخوة مسيحيين في التجنّد في الجيش الإسرائيلي أو في بناء هوية منفصلة مستقلّة في حراكها ولغتها وهيئاتها أو في الاقتراب من مركز القوة الإسرائيلي أو الحديث الصريح عن الاستعانة بالفاتيكان. وعلينا أن ننتبه لما حصل من تفكك عندنا بأشكاله المختلفة وإسهام خطاب الحركة الإسلامية على شقّيها في حصول هذا التفكك منذ الثمانينيات وفي إنتاج طبقات جديدة من الحساسية الهويتية المفرطة.

باعتقادنا، أنه ينبغي تحرير مفهومنا للهوية من أثار عمليات مدمّرة من البناء والهدم شهدناها ونشهدها الآن وإعادة نظرنا في ردود فعلنا عليها. الأولى ـ احتدام سياسات السلطة الساعية إلى تعزيز نزعات بناء الهويات الصُغرى ورعايتها وتمويلها. وعلى الجهة المقابلة، مبالغتنا في ردّ فعلنا على هذه السياسات المفرّقة حدّ إنكار مجتمعاتنا الصغيرة أو خصوصياتها أو تاريخها أو ذاكرتها ورموزها. الثانية ـ المفهوم العروبي الرومانسي للهوية العربية والفلسطينية أيضا ـ بوصفها هوية واحدة موحّدة تلغي الخصوصيات العقيدية والكيانات التاريخية الصُغرى واعتقادا بأننا سنصير يوما ما نُريد فعلا إذا ما سرنا في ركبها وشطّبنا مكونات في هوياتنا. لننتبه أن هذ المفهوم الهويتي ألغى الأفراد، أيضا، وجعلهم “أجزاء” مسيّرة من كلّ مقهور! الثالثة ـ هوية إسلامية مُقصية، بعض تمثيلاتها عنيفة وعدمية تدفع غير المسلمين إلى هوياتهم دفعا. يردّ البعض على هذا التطور بنفي الاختلاف والعودة إلى عروبة رومانسية حالمة لا وجود لها سوى في الأمنيات والخيال الشرقي. ويردّ البعض الآخر بحركة انفصال عن المركز نحو الروابط والانتماءات الصُغرى الطائفية والعرقية. الرابعة ـ انهيارات متتابعة للدولة العربية وانهيار الهويات القومية التي تترك أثرها المعنوي هنا بشكل عزوف عن الهوية الجامعة أو تمسّك بما كان حقيقة أو وهما. الخامسة ـ اتضاح حيوية المركز الهويتي الإسرائيلي المدني المواطني كمركز واعد وتحوّل المدينة اليهودية لكثير من الشرائح والفئات الوسطة حيزا للعيش والوجود حدّ التجنّد الفعلي أو التفكير بالتجنّد والخدمة المدنية الأمر الذي يردّ عليه البعض بتوكيد الهوية الوطنية الجامعة وإبداء حساسية مُفرطة تجاه مجموعة الانتماء والطائفة لجهة شطبهما أو إخفائهما.

لا يُمكن التحرّر من مفاعيل الهوية كما أوردناها هنا إلا بتسمية ما نحن به في هذا الباب. والإفلات من قبضة الاعتبارات والأحكام والسلوكيات الهويتية العصبية لا يتأتى إلا بالإقرار بالتحولات والتطورات التي حصلت وتقصي آثارها علينا. إذ سيظلّ مقيتا جدا أن نرى درزيا يتنكّر لانتمائه لمجموعته ليثبت وطنيّته، أو أن نرى ناشطا درزيا يساريا مضطرا لمهاجمة وليد جنبلاط في صحيفة حزبه كي يصح انتماؤه إلى “النادي الوطني”. وهو المقت ذاته الذي يصيبني كلما رأيت أخا مسيحيا يفعل الأمر ذاته أو يأخذ وطنيته حدّ الحديث عن انتمائه الإسلامي فيظهر مُغاليا ومبتذلا كأخيه الدرزي. ولا أعتقدهما مختلفين في المؤدى من حيث علاقتهما بهويتيهما عن أي فرد منّا قد يُنكر عروبته أو ينفي انتماءه للثقافة العربية بمجرّد أنه تعلّم كلمتين بالعبرية وصار يلثغ في لفظ “الراء” أو “الحاء”!

عميلة بناء الهوية المتخيّلة ترافقها في العادة عمليات تفكيك ما هو ليس هذه الهوية وإخراجه خارج الحدود أو دمجه بحيث لا يُرى ولا يُلفظ داخلها. بمعنى، أن التفكيك يحصل كجزء من البناء. لكن ما أراه حاصلا الآن هو بناء هويات صُغرى كجزء من تفكيك الهوية الجامعة ـ العربية القومية مثلا أو الهوية السورية أو العراقية. بل إن الإسلام العدمي الداعشي أدخل الهوية الإسلامية نفسها في أزمة حضور وتمثيل. التفتّت هو سمة المرحلة تصحبه عودة إلى هويات صُغرى أو عودة من الفرد المواطن إلى الفرد المتديّن. أو، على نقيض من ذلك، القفز إلى هويات شمولية فوق وطنية ـ إنسانية أو طبقية أو طوباوية. مهما يكن خيار الأشخاص أو القوى الفاعلة، فأنا على اعتقاد راسخ بأن الفرد يُمكن أن يتصالح مع انتماءاته في حال سكب في تخوم الهوية مضامين متنوّرة وأعطاها هو المعنى الذي يُريد. فلا تظلّ موضوعا لسياسات السلطة أو وعيا تصوغه هي بل نستعيد حقنا فيها بوصفها ملكا لنا وحدنا، نعطيه نحن معناه ودلالاته. وهي غاية التحرر وتحرير هويتنا من قبضة عمليات البناء الخارجية والداخلية غير المستحبّة. والهوية في نهاية الأمر وعي بالانتماء وهي إبداع صاحبها وأصحابها وليست وراثة ماضٍ مهما تكن صورته في الذاكرة. ولا مفرّ من توسيع مفهومنا للهوية بحيث لا يتناقض كوني درزيا أو مسيحيا هنا مع كوني عربيا ووطنيا وأنه لا يُمكن بعدها تخيير الفرد منّا بين أن يكون درزيا/مسيحيا أو عربيا!!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. كررت قراءة المقال فلم استطع فهم ما الجديد الذي يريد أن يقوله الأستاذ مرزوق ال-حلبي سوى الجملة المقتبسة التالية : “إذ سيظلّ مقيتا جدا أن نرى درزيا يتنكّر لانتمائه لمجموعته ليثبت وطنيّته، أو أن نرى ناشطا درزيا يساريا مضطرا لمهاجمة وليد جنبلاط في صحيفة حزبه كي يصح انتماؤه إلى “النادي الوطني”. ” (نهاية الاقتباس). ويشكل الجزء الأول من الجملة الدسم الذي لا يجد فيه أحد غضاضةً،  أما الشق الثاني والمتعلق بالبيك وليد أبو تيمور أدام الله نعمتهما، فإنه السم؛ فهل أصبح النقد الموجه للبيك  هجوما؟ ومنذ متى أصبح البيك خارج النقد أم أن البيك ومواقفه أصبحا اصلا ثابتا من أصول هوية الدروز فبات عليهم تجنب مسائلته أو نقده؟ وهل من الممكن مثلا وفرضا أن يقوم يساري درزي بنقده هكذا لوجه الله تعالى دون أن يكون مضطرا الى ذلك ؟ أم انه من الممكن أن يكون نقد البيك قد صار فعلا مطلوبا لأن ريحته قد باتت تزكم الأنوف( في أحالة الى حركة الاحتجاج اللبنانية “طلعت ريحتكم”)؟ أم أن العكس هو الصحيح، أي أن نقد البيك صار ضروريا لاعادة بناء هوية درزية واضحة وغير متلعثمة؟ 

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>