لغتي، لغتهم وغربةٌ تطول/ ميسان حمدان

أسمعها تتكلّم العبرية بلهجةٍ لبنانية فأغضب، أنادي أختي وأقول لها: “تخليهاش تحكي لبناني وعبراني مع بعض يا أبصر شو بعمل!” وفي طريقنا أسألها بتردّد: “بتحبّيش لو إنك بعدك في لبنان.” وتردّ: “يا ريت.”

لغتي، لغتهم وغربةٌ تطول/ ميسان حمدان

ArabicAlphabet

.

|ميسان حمدان|

ميسان حمدان

ميسان حمدان

“بتعرفي تحكي عبراني؟”

“ليش بتكتبي في العربي؟”

“ليش بتتعلمي عربي في الجامعة؟ بكفيش في المدرسة؟!”

“ليش بتحكيش عبراني في نص الجمل؟”

جملٌ تُوجّهُ إليّ يوميًا في بلدٍ أضحت لغتُها غريبةً عنّي، في بلدٍ أعشقُ تفاصيلها وتصرّ على أن تبعدني عنها.

وبعد حوارٍ أو محادثةٍ جماعية، بعد أن أتحدّث دائمًا أسمعُ صوتًا متلهّفًا من بعيد يقول:

“ولاو كيف محكتش ولا كلمة عبراني! كيف بتقدري؟”

“كيف بقدر؟”- مادّة للتفكير.

.

يندهشون حين أتكلّم بالعربيّة غير مباليةٍ بالتيّار الذي جرف ويجرفُ كل ما تبقّى منّا من وجود، في حين أن آخرين يتمنّون لو أنهم يتقنون اللغة العربيّة. مثلًا، تناديني محاضِرةٌ في جامعة حيفا في نهاية المحاضَرة لتسألني عن معنى اسمي، ولتقول لي إنها كانت تتمنى أن تتكلم العربية، أو لتطلب منّي صديقةٌ فرنسيّة تعرّفت عليها مؤخرًا مساعدتها في التكلّم بالعربية، أو لتطلب مني صديقةٌ يهوديّة التحدّث معها بالعربيّة لتتقن التحدّث بها.

(أنا أكره تصنيف النّاس، إنمّا يتوجّب علينا ذلك أحيانًا).

.

أيلول، 2012:

بعد أن نظّمتُ وقفةً احتجاجيّة ضد العنف في قريتي عسفيا، بعد أن شهدت القرية جريمةً وحشيّة، يأتي أحد الصحافيين المحليين (ابن البلد) ليجري معي مقابلة كتغطيةٍ للحدث، وحين أبدأ التكلّم بالعربيّة يقاطعني قائلًا: “لأ! إحكي في العبراني.”

أنا: “عفوًا؟”

هو: “يا بتحكي في العبراني يا بتحكيش.”

أنا: “شو الهدف من إني أحكي عبراني؟”

هو: “التقرير موجّه لغير العرب كمان.”

(مع العلم أن الموقع محليّ بشكلٍ مطلق ولا يزوره إلا أهل البلد.)

أنا: “شكرًا، مش رح أحكي.”

.

في سياق هذا الموضوع والوقفة الاحتجاجية، يتصلون بي من راديو عبري “صوت السلام” من القدس لإجراء مقابلةٍ عن الموضوع، ولأنني على علمٍ تامّ بأنّ هناك جمهورًا إسرائيليًا لم تترسّخ في ذهنه سوى صورة واحدة عن الفلسطينيين في الدّاخل، وهي كل ما يتعلّق بالعنف والاضطهاد، أجيبهم بالعبرية بكلّ ثقة لكي أوضّح الصورة ولكي أعكس لهم وجود واقع مختلف عن ذلك الذي يعرفونه؛ فمفاهيم الظّلم والإنسانية لديّ لا تتجزّأ، ومثلي كثيرون.

.

نيسان، 2013:

أقف في محطّة الباص مع أختي، ننتظر الباص الذي يتوجّه إلى خليج حيفا.

تأتي شابةٌ وتطرح السلام على أختي لأفهم من لهجتها أنها لبنانيّة، وأعلم حالًا أنها من مجموعة “جيش لبنان الجنوبي” أو ليست هي بالفعل لصغر جيلها، إنما أحدٌ من أفراد عائلتها.

أبتعد لحساسيّتي من هذه اللهجة، لما أحمله من حنين إلى لبنان ولحساسيّة الموقف نفسه، ولكن تبقى أذني مُصغيةً لحديثهما.

أسمعها تتكلّم العبرية بلهجةٍ لبنانية فأغضب، أنادي أختي وأقول لها: “تخليهاش تحكي لبناني وعبراني مع بعض يا أبصر شو بعمل!”

وفي طريقنا أسألها بتردّد: “بتحبّيش لو إنك بعدك في لبنان.”

وتردّ: “يا ريت.”

وأقول لها: “حلمي أزور بيروت”- وأصمت.

.

أيّار، 2013:

في طريقي إلى العمل، تصعد إلى الباص امرأةٌ أردنيّة تزوّجت أحد أبناء قريتي منذ سنين. يسألها السائق عن حالها فتُجيب: “بسيدر” (تمام). وبعد أن تأخذ نقودها الباقية منه تقول له: “توداه” (شكرًا).

أضغط على زرّ تشغيل الموسيقى، ليقع الاختيار -صدفةً- على أغنية “يمّا مويل الهوا” بصوت أمل كعوش، وأندمج مع نفسي من جديد.

.

أشعر أحيانًا، أو في أغلب الأحيان بأنني أحاول جاهدةً التكلّم مع الأشخاص بلغتهم وإن كان بالعيون، لكنّ لغتي باتت غريبة، باتت محطًا للسخرية أو لمحاولات الكتابة الخاطئة.

.

أدوّن أفكاري التي تبعثرت رغمًا عنها، ورغم المحاولة، يقطع حبل أفكاري صوت “زمّور” الباص- هناك سيارة تسدّ طريق عبوره في ساحة دالية الكرمل، فتعود التفاصيل العربيّة لتحيي الشّارع والمحيط، لكن لا تمرّ دقيقتان وبعد أن يُفتح الشارع ذو التفاصيل العربية أرى جنديّةً تقف على ذات الشارع -على ذات التفاصيل- وأتذكّر أننا بجانب مدرسةٍ عسكريّة افتُتحت السنة الماضية لتضمّ في صفوفها أكبرَ عددٍ من الجنود.

.

ودون أن أشعر، ألعنُ الوقت، ألعنُ الحدود، ألعنُ الاحتلال، وألعنُ هذا الواقع المرير.

كما أفعلُ.. دومًا.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. كل الاحترام يا ميسان

  2. رائعه ومتميزه يا ميسان
    ابقي كما انتي ..لا يغيرك زمن ولا لغه جديده
    ابقي كألوطن صامده رغم جميع الصعاب

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>