“مينا”؛ جواز سفر الأغاني المنسية/ هيكل حزقي

“مينا”؛ جواز سفر الأغاني المنسية/ هيكل حزقي

و”مينا” هي قصص المنسيين الذين لفظهم العالم، مشردي الشوارع و قصائده المكتوبة على جدران المدن الصاخبة بلون حياة غير حياة هؤلاء.. هي أغنية لهؤلاء، الذين عاشوا لغيرهم ولا من عاش لهم..

cover pic.

| هيكل  حزقي* |

كان الطروسي يقف وراء الدفة على ظهر الشختورة التي شقت طريقها وسط النوء متجها بها نحو مدخل الميناء.. أتته الأصوات بعيدة، غريبة، كأنه في حلم، وتذكر ما قاسى فأطبق جفنيه و فكر: وصلت أخيرا إذا..”

-        حنا مينة، الشراع والعاصفة -

هي هكذا فرقة “مينا” الموسيقية.. تشبه حنا ورواياته كثيرًا.. ما إن يباغتك اللحن كالموج، حتى تأخذك الرحلة وتقاوم شراع النسيان والعاصفة لتلمح من بعيد نقطة ضوء راقصة، هو الميناء.. يحملك اللحن وصوت تريز سليمان إلى شاطئ الحلم، فتقول لنفسك: “وصلت أخيرا إذا”..

و”مينا” هي قصص المنسيين الذين لفظهم العالم، مشردي الشوارع و قصائده المكتوبة على جدران المدن الصاخبة بلون حياة غير حياة هؤلاء.. هي أغنية لهؤلاء، الذين عاشوا لغيرهم ولا من عاش لهم..

و”مينا” صخب المدينة وضوضائها، حكايات القرية وبطولاتها، لغو المقاهي وجلبة الشارع الممتلئ بخلجات الحياة، لحنا وصوتا وكلمة.. وأما الموسيقى، فهي عصية على خرائط العالم وتجاعيده.. تشطب كل الحدود، تستوعب قلوب الناس وتسقط عن السميعيين جواز السفر لتحملهم إلى إيقاع “الفادو” في شوارع لشبونة وأرصفتها الموشحة بقصائد بيساوا، نوتات الجاز الحامل لوجع السود في نشيد ألم و تحرر تحت ضرب الفؤوس والمعاول، همهمات المارين في مقاهي خان الخليلي وعلى أرصفة القاهرة، صيحات الأطفال في مراكش والرباط، ألوان تونس ولوحات الحياة فيها، أصوات العراق ومخازن موسيقاه العتيقة، ايقاعات النغم على جزر المتوسط من كريت إلى سردانيا مرورًا بنيقوسيا وجربة إلى تخوم شواطئ يافا ولبنان وسوريا..

هي هكذا “مينا”، كسفر كولومبس نحو عالم جديد من الموسيقى..

و”مينا” أيضًا “حكاية بحار غريق” يعود إلى الحياة دائما كلما اشتد التعلق بالأرض والقضية.. وخلف “مينا” عمال الموانئ، عيونها التي لا تنام: موسيقيي “مينا”: روي، هلدر، أندريه و صوفيا وطاقمه: رشا، أسماء، ميجائيل، آية وسنا.  وإذ “تحت المينا الجوع بيحفر”، تجد تريز تتوسط جموع “البحرية” وصرخاتهم ويمتزج اللحن والحب والغضب والثورة، فيخيل لك صوت معروف سعد القادم من سبعينيات لبنان الحمراء بالدم والكفاح وهو يصرخ: “هيلا هيلا”.. لا حياة خارج اللحن.. الموسيقى كانتصار ومقاومة..

و”مينا” قصص “الكاف” التونسية بجباله وثلوجه ورعاته وساكني قراه المنسية.. صور “سيدي مسعود” راكب عالحمرا في تجل صوفي يرسم خرائط تونس الموغلة في التاريخ.. ولوعة العشق المسطر في حروف “بتي سهرانة” المشدود إلى السحاب بأعين دامعة، ترسم تيريز خطوطها باللحن والجسد والكلمة والصراخ والوجع فتعلن ميلاد الموانئ فوق بحر النغم ليصبح اللحن جسر العودة، ولتصبح المسافة بين الكاف ويافا مسافة أغنية.. “على جاله نعادي الرجالة”، هكذا تعيد تيريز صياغة الوجع “الكافي” وتطبق على الأمل بكفيها فينسال بين أصابعها ويرسم دروبا على الموج إذ يكون صوتها بوصلة اللحن نحو الميناء..

و”مينا” الإيقاع.. “مينا” الصخب الذي “يطرق جدران الخزان” ليعلن عن مشروع حياة مع سبق الإصرار و التعمد..

“مينا” فوضى الوجدان و اللحن المضطرب كموج عكا إذ يمانع الزمن المتكلس و يرفض أن يتخبط على الشاطئ دون أن يكون له صرخة العودة، فينتفض في وجه العدم بالألوان و الألحان..

و”مينا” شراع الأغاني الذي يحمي الذاكرة من الغرق.. لتظل صرخة اليوناني كازنتاكيس تدوي في الأرجاء: “دمنا مرجانا أحمر و نحن نبني جزيرة فوق الهاوية”..

 *كاتب تونسي

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>