فقط، لو كنت حياً!/ محمد الشيخ يوسف

لطالما كرهتُ أنك حين تموتُ فإنكَ لن تتجاوز مجرّد خبرٍ عابرٍ في نشرةِ الأخبار، بعد أن كنتَ سابقاً بطلَ أُمِكَ وأبيكَ الأول، الذي يشاهدانه ليلَ نهارَ، ويفرحانِ كُلما ازداد طوله ميليمتراً واحداً، وفي ثانيةٍ واحدة، تصبحُ مجرد اسمٍ لا يأخذُ من وقتِ المشاهدين أكثر من ثانيةٍ لسماع اسمهِ

فقط، لو كنت حياً!/ محمد الشيخ يوسف

آثار القصف في غزة أثناء عدوان "عمود السحاب"

>

|محمد الشيخ يوسف|

1

«بخير» كلمة توحي بمعانٍ متعددة وجميعها غير مقبولة، نعم بخير إن كان هذا كل ما في الأمر، وما زلنا أحياء ننتظرُ بخوفٍ، إلا أن غيرنا قد فقدوا خوفهم وماتوا.

لا أعرف لماذا أشعرُ بأنّ اللغة أضيقُ مما أحسُ به، أو لماذا أقومُ بتشكيلِ الكلمات ليتضحَ معناها، ولا أعرفُ لماذا لم أبكِ حتى الآن، ولماذا أكتبُ هذا أصلاً، ما نفع الكتابة، هل هي طريقتي في أن أُشغل أصابعي، بدلاً من قضم أظفاري، أو تحريكها بشكلٍ دائري بلا انتباهٍ أو دراية؟ هل أُشغل أصابعي أم عقلي كي يخرس عن ترديد صدى الحرب؟

إننا نموتُ يا أصدقاء، أو مُتنا، أو ننتظر، هذه هي التصنيفات المشتركة بيننا هنا في غزة، في العتمة نسمعُ الانفجارات من حولنا، لا دقيقة تمرّ دون انفجار أشدّ من قبله، إنها القيامة، نسمعُ صوت موتنا ولا نراه، ننام كلنا في غرفةٍ واحدة لأننا لا نحتمل فكرة أن يموت جزء منا دون الآخر؛ نستمع إلى التلفاز بصمتٍ ونتناوب النظر إلى بعضنا، ونتأكد من اكتمال عدد العائلة قبل النوم، وكلٌ يعرف مناوبته في التوتر والخوف، ونحاول أن نسامح بعضنا إذا ارتطمنا وأوجعنا بعضنا في العتمة، ولا نعترض على رغبات بعضنا البعض في تفريغ قلقه، إما بالنكات السّخيفة، أو الثرثرة، أو حتى الصمت. نكتم أنفاسنا إذا مرّت الطائرة، أو سمعنا صوت الصاروخ يقترب، إننا نعرف أنه لا يقترب منا تحديداً؛ إلا أنه يقترب، ننظر إلى النافذة في انتظارٍ غير مبرّر، ثم نتنهد حين يسقط في مكانٍ آخر، ونرصد الدقائق القليلة بين الصاروخ والآخر، ونفتقده حين يمرّ أكثر من ساعة دون أيّ انفجار، لأننا لا نصدق أنّ الموت قد يتعب ويأخذ استراحته، لذلك لا.. نحن لا نأخذ استراحتنا من القلق!

حين كان يرن الهاتف، كنا نركض الصغار قبل الكبار- أقصد قبل الحرب. الآن لا نملك أيّ رغبةٍ في أن نردّ أو نرفع السماعة، لا أحد فينا يملك طاقة للإدعاء بأننا بخير، وتهدئة خوف من يتصلون ليطمئنوا، لا أحد فينا قادر على الكذب!

أنا أعتذر لأنني لا أستطيع وصف ما نحن فيه تماماً، أعتذر للأم التي لملمت ابنها عن الجدران والأرض والرصيف، وللأطفال الذين ماتوا وهم يحتضنون حقائبهم المدرسية؛ أعتذر للآباء الذين ماتوا وهم يعِدون أبناءَهم بالحماية، وهذا وعد لا ضرر في عدم الإيفاء به؛ أعتذر لأنّ الحرب عششت في رأسي، ومنعتني من الكتابة بما يكفي عنكم ولكم، حتى أنني أعتذر لأنني لا أستطيع استخدام ألفاظٍ بذيئة، أنا أعتذر لأنني خائف، ولأنني لم أمت بعد!

2

ما الذي يحدثُ الآن في غزة، بعد أيامٍ من العدوان؟

رائحة الموت ما زالت تفضحُ الحرب التي تهرولُ في كُلِ مكانٍ، ولا أحد يُفَكِرُ في نفسهِ تماماً. نأكلُ ونفكرُ في الذين يطبخون الحصى هذه الليلة. نبتسمُ قليلاً.. ثُم نلطمُ فمنا ونُفَكِرُ بالذين يعدون الجروح في وجوههم، وكأيّ موتٍ فإن شريط الحياة يَمُرُ أمام أعيننا مُكثفاً، إلا أنه يمُرُ الآن ببطءٍ كما هو بطء موتنا وكما هو بطء الانتظار مثل سائلٍ لزجٍ ودَبِقٍ يسيلُ على زجاج الذاكرة.

الأمهات يودّعن أبناءهن كُلما نزلوا إلى الشارع ليشتروا من الدكان الذي يبعدُ عن المنزلِ عشرة أمتارٍ. عند العودة -ولولا الحياءِ والموتِ الذي يضعُ عينَهُ في أعينهنّ- لزغردن بعودتهم سالمين بعد شراء نصف علبة من السّجائر مثلاً، والسيرُ في الشارعِ الآن لا يشبهُ أيّ وقتٍ سابق. نسيرُ بحذرِ الأرنبِ تحت مرمى الصقر، نُفَكِرُ هل ترانا الطائرة، هل نظهرُ واضحين على الشاشةِ، وهل ستوقفهُ ملامحي التي أحاول بكل إتقانٍ وأفشلُ في أن أظهر أنها عادية وغير مكترثة؟ نسيرُ مبتعدين عن أيّ حركةٍ غير اعتيادية. مثلاً: لا داعي لأن تحمل أغراضك في كيسٍ أسود، ولا داعي لأن ترفع الهاتف المحمول على أذنك بشكل مستمر؛ أجِّل مكالمة حبيبتك، ولا تقترب من السيارات والدراجات النارية، ليس التزاماً بقواعد السلامة على الطريق، بل التزام بالابتعاد عن الموت الذي يملأ الطريق.

العائلة متفرقة في كل مكان وتسمعُ ذات الصوت، الأم في المطبخ وتسمع صوت الطائرة والأخبار؛ الأب في الصالة يسمع صوت الطائرة ويشاهد الأخبار؛ الأخوة والأخوات يسمعون صوت الطائرة ويسمعون الأخبار؛ الراديو التلفاز، الهاتف، الإنترنت، وفي النهاية يجتمعون جميعهم ويؤكّدون أنّ الحرب ما زالت مستمرة. لا يقولون إنهم يريدون الموت معاً، إلا أنهم لا يختلفون على هذا الاتفاق الداخلي، لذلك تراهم ينامون جميعهم في غرفةٍ واحدة بعد أن يتأكدوا من اكتمالِ العدد!

3

‎- صباح الخير يا أمي.

- صباح النور محمد، حدثت مجزرة قبل قليل؛ عائلة الدلو، خلف المنزل بشارعيْن!

هكذا استيقظتُ بالأمس، من كوابيسِ النومِ التي اعتدناها فصارت أليفة، إلى الحقيقةِ الشرسة التي نكذبُ كلما قُلنا إننا اعتدناها. أقفُ من نومي وأردّدُ «الموت لا يوجع الموتى؛ بل يوجعُ الأحياء- م.د»، وأتابعُ الأخبار بشكلٍ جنونيّ. لطالما كرهتُ شريط الأخبار الأحمر، لطالما كرهتُ فكرة أنك حين تموتُ فإنكَ لن تتجاوز مجرّد خبرٍ عابرٍ في نشرةِ الأخبار، بعد أن كنتَ سابقاً بطلَ أُمِكَ وأبيكَ الأول، الذي يشاهدانه ليلَ نهارَ، ويفرحانِ كُلما ازداد طوله ميليمتراً واحداً، وفي ثانيةٍ واحدة، تصبحُ مجرد اسمٍ لا يأخذُ من وقتِ المشاهدين أكثر من ثانيةٍ لسماع اسمهِ، وتبقى عالقاً في ذهنِ أهلكَ، الذين سيعلقون صورتكَ على ما تبقى من الحائطِ، ويتخيلون كل يومٍ شكلكَ الجديد لو كنت موجوداً، وتسريحة الشعرِ المناسبة لك في هذا العمر، ولون بدلة عُرسك التي كنت ستختارها بعد أعوامٍ، لو بقيت حياً، فقط لو بقيت حياً لا أكثر!

- تصبحين على خيرٍ يا أمي/ حدثت مجزرة جديدة، مات الكثير من الأطفال، عائلة عزام!

هكذا قلتُ لأمي التي تصحو كل ساعةٍ من تظاهرها بالنومِ، وتتفقدُ رؤوس العائلة، كلهم بخير، إلا محمد ما زال على قيدِ القلقِ والتوترِ، ويَعُدُ الأطفال وهم في طريقهم إلى السّماء.

أجلسُ طوال الليلِ مشدوهاً، ومشدوداً، أقلبُ قنوات التلفاز وأسمع الراديو وأتابع الإنترنت في وقتٍ واحد، إلى أن سقط صاروخ في منطقةِ الزيتون، ومن يسمع اسم المنطقة يتخيلُ أنها تنعمُ بالسلامِ الأخضر، إلا أنها كانت ليلة سوداء، أو حمراء، لا يهم اللون، المهم أنها لا تمتّ للسلامِ بصلة. يسقطُ الصاروخ بعنادٍ شديدٍ وقصدٍ، يحدقُ بعينهِ وينفجر، هذه مهمته الوحيدة، لو كان له قلب لغيَّر مهنته، أو انتحر قبل أن يفعلها. ثم يعلو صوت الراديو. المذيع يقفُ أمام المستشفى، ينتظرُ سيارات الإسعاف، يعلو صوته أكثر: «الآن تصلُ الإصابات، سأعدّها لكم، إنه طفل، لا طفلان، إنهم جميعاً أطفال، ثلاثة، خمسة، تسعة أطفال، لا لا إنهم خمسة عشر طفلاً، أنهم يتزايدون»، ثم ينهارُ المراسل، وينفجرُ بالبكاءِ، ويتركني متصلباً مثل صنمٍ في معبدٍ مهجور، مثل جرس كنيسةٍ شعرَ بصداعٍ، مثل مشلولٍ على سكةِ حديد، مشوشاً مثلي الآن وأنا أحاولُ الكتابة عمّا لا أستطيع، وأفكرُ كيف أنّ ذلك المشهد كان يمكن أن يكون مثلاً على هذه الشاكلة: المذيع هو أستاذ، ويَعدُ الأطفال الفرحين بعودتهم من رحلةٍ ترفيهية، والأطفال يتقافزون ويؤكدون مرور رؤوسهم تحت يدِ الأستاذ، ويستعدون للعودةِ إلى المنزلِ كي يخبروا أمهاتهم عن الرحلة، بعد أن يأكلوا في الباص ما تبقى معهم من الحلوى!

أظلُ مستيقظاً لأنني لا أريدُ الموت نائماً، لأنني أرغبُ بالصراخِ قليلاً قبل أن يسقط علينا الموت، لأنني أفكرُ في محاولةِ صدِّ الصاروخِ بجسدي الهش، ربما أضيفُ بضع ثوانٍ من فرصةِ النجاةِ لبرهوم وأسوم أخوتي الصغار، إلا أنني أنهارُ عند الظهيرة بعد عدة أيامٍ من الجلوسِ في مكاني، لا أفعلُ شيئاً سوى التدخين، وسماع صوت الحربِ والقيامة، ثُم أصحو بعد نصف ساعةٍ على صوتِ تشيع جنازةِ مجزرة «عائلة الدلو»، هل حقاً كلمة مجزرة كافية ليثق الشهداء بأنّ اللُغة لم تختزل حقهم في التعبير؟

- محمد قوم قوم، مجزرة جديدة، قوم قوم.

- فيها أطفال يا أمي؟

- قوم بس قوم طالما مجزرة يبقى في أطفال!

أول صورة أشاهدها على التلفاز، صورة لطفلين توأمين. يؤكد المذيع أنّ أحدهما استشهد والآخر مفقود، وبعد دقائق فقط، لا يحتاج الأمر إلا لعدة دقائق، ليصل الخبر أنّ الأسرة صعدت إلى ربها شبه مجتمعة، أب وأم وطفلين. أجلسُ على الكرسي مقرفصاً ومتكوّرًا، واضعًا يديّ على رأسي. يرنّ الهاتف، يصلني خبر سعيد، أضحك لأنّ من أوصله يحتاج مني أن أضحك، أخبره بأنني سعيد، أغلق السماعة، وأنظر إلى أمي: كيف نفرح الآن؟ فيما هناك من يلطمون ويصرخون ويبكون؟ وننسى الخبر أو نؤجل الفرح فيه.

يخبرني أهلي بأنّ بيتاً يبعد عنا شارعاً واحداً وصله تهديد، ومربع البيت تم إخلاءه بشكل تام. أنظر إلى «برهوم» لا يكترث بي. يدير وجهه. ثم يأتي إليّ بعد دقائق ويقول: أصلاً مش خايف، عادي، ما بخاف أنا. لم أفهم لماذا قال ذلك، ولماذا لم أبرّر له أنّ الموت أشدّ من انتظاره. بعدها أطلب من «أسوم» أن تأخذه إلى الغرفة ليلعبا، وفي الحقيقةِ هو أنني لم أكن أريد له أن يشاهد الأطفال وهم يخرجون من دفئهم إلى ثلاجة الموتى.

أفكرُ في الذين تقصف منازلهم، تلك المنازل التي تحملُ في كل زاويةٍ ذكرى. ما الذي تذكروا أخذه قبل الخروج منها؟ ما الذي تركوه؟ ملابسهم؟ ساعات اليد؟ الصّور الشخصية، وصورة الحائط الكبيرة التي تجمع ابتسامة العائلة؟ الملابس الصغيرة التي خبّأتها الأم لتذكر أبناءها دائماً بأنهم كانوا في يومٍ من الأيام لا يتجاوزون كفة يدها، وتعدهم بأنها ستلبسها لأحفادها –أولادهم- وهل أخذوا النافذة التي شربوا فيها الشاي مئات المرات، هل أخذوا ذكرياتهم معهم؟

كيف يمكن أن تهدم الذاكرة بتلك السهولة، بعد أن بُنيت حجراً حجراً!

(غزة)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>