تأملاتٌ في أمومة مشاكسة/ هنيدة غانم

تأملاتٌ في أمومة مشاكسة/ هنيدة غانم

في أعقاب السؤال الأزليّ: من هي الأمّ المثاليّة • الأمومة دائمة التشكّل وليست صورةً مستكينةً مثاليةً، وهي بالتأكيد ليست “العطاء اللانهائي” ولا “الطبيعة التي تشكلت المرأة على صورتها”

جوستاف كليمت، "أم وطفل".

جوستاف كليمت، “أم وطفل”.

>

|هنيدة غانم|

هنيدة غانم

هنيدة غانم

لطالما أردت أن أكتب عن الأمومة، لكنّي لم أكن أنجح في التأشير إليها. لم تكن هناك أمومة معينة أستطيع أن أشير إليها وأقول “يوريكا”.. هذه هي التي أريدها، هذه هي التي سأكتب عنها. كان الأمر مثيراً للتسلية حيناً والألم حيناً آخر. إذ لم يكن من السهل عليّ وأنا أم لثلاثة أطفال أن أصرّح -بلا شعور بالخزي- بأني لا أعرف كيف أصف الأمومة على الأقلّ كما أخبرها وأعيشها.

كان الأمر يقارب الفضيحة، وأنا أعترف بذلك؛ وهو ما دفعني إلى محاولة استقصاءٍ للأمر انتهت بي إلى استجماع بعض الحكايا والصور عن الأمومة سواء أكما سمعتها أم تخيلتها أم لحظتها؛ أي أنّي استجمعتها كلّها من عالمي الخاص، وهو ما يعني ضرورة أخذها بضمان محدود. فمنها ما انتشلته من ذكريات طفولتي البعيدة ومنها ما أخرجته بتردّد من خزانتي النفسية المغلقة، وبعضها نقلته كما سمعته من جدتي.

النتيجة كولاج حرّ، ومقال غير منظّم عن أمومات تلتف بخباثةٍ عن السؤال الوجيه “ما هي الأمومة؟”.

نصف أمّ

هذه الصور المجمعة بفعل إراديّ وانتقائي (وبالتالي موجه بالتمام)، جاءت صراحةً لتنقض المقولة السائدة عن الأم المثالية المضحّية والمتفانية، وتتحدّى الادعاء بوجود أنموذج أمومة ساكن ومُوحّد، وبدل ذلك تقترح قراءة الأمومة بوصفها “أمومات دائمة التشكّل”. وهي تتشكّل في الالتقاء المتوتر بين الوجوديّ والذاتيّ وبين المتخيّل والاجتماعيّ، لا تكفّ عن التردّد بين صورة مريم الكنسيّة بوصفها الأم الأنموذج وبين صورة أمّنا الغولة بوصفها نقيضها الكامل، وبين روائح أمهاتنا وصورهن في بيت الطفولة الأول وبين صور أطفالنا كما يتخيلوننا أو بالأصح كما أردنا أن نتخيلهم يتخيلوننا.

لا بدّ لي من التوضيح هنا أنني لم أرسم هذا الكولاج إلا بعد أن طلبت من مجموعة من الصديقات والأصدقاء وعلى صفحة “فيسبوك” أن يكتبوا لي كيف يرون الأمومة. كان من اللافت أن الوحيدات اللاتي أجبنني كُنّ من الأمهات (6) وصبية واحدة عاشت حياتها عند جدتها من غير أمّ، وأخرى عاشت حياتها يتيمة منذ كانت في الثالثة من عمرها.

اتفقت المجيبات على النظر إلى الأمومة بوصفها قمة العطاء والمحبة والتضحية والتفاني في سبيل الأطفال، كان كلّ ما فيها حالة من الاكتمال. لم يُجبني أيّ رجل عن ذلك. لم تفاجئني الأجوبة، كانت متوقعة لكنها أقلقتني، إذ كانت الأمومة واضحة تمامًا لكلّ المجيبات لكنها لم تكن واضحة لي، وقد أقلقني الأمر أكثر عندما تذكرت ما قالته صديقة لي من أنني أصلاً نصف أمّ وهو ما أكده زوجي في لحظة اعتراف نادرة، وإن أخذت الإجابات هذه على محمل الجدّ فيبدو أيضاً أنهما لم يخطئا على الإطلاق!

لم أشعر للحظة واحدة بأنني أم متفانية في شيء، وما زلت لا أشعر بأني أضحّي بحياتي من أجل  صيصاني الصغار، حتى لو كنت لا أستطيع أن أتخيّلهم لحظة واحدة يعانون أو يتألمون من شيء أو أحد. وأعترف صراحةً بأنّ لا شيء يثير أعصابي قدر الحديث عن الأم الأنموذج التي علينا أن نقضي حياتنا ساعين إلى تمثلها وتمثيلها وتقمص زخرفاتها، ليس لشيء إلا لنكون عند حسن ظنّ من يحيطون بنا أولاً و”جيدات” في نظر أنفسنا.

كيف نكون أمهات جيدات؟ من هي الأم الجيدة؟ أليس الحديث الشائع -عن التوفيق بين الأمومة والمهنة وبين متطلبات الزوج والبيت، وبين العمل والقدرة على التوفيق بين المكتب والمطبخ- هو الذي يولده تخيل “أنموذج الأم” المثاليّ؟

أعترف بأنّ لا شيء يثير أعصابي قدر الحديث عن الأم الأنموذج التي علينا أن نقضي حياتنا ساعين إلى تمثلها وتمثيلها وتقمص زخرفاتها، ليس لشيء إلا لنكون عند حسن ظنّ من يحيطون بنا و”جيدات” في نظر أنفسنا

الادعاء الذي أحاول الدفاع عنه هنا هو أنّ الأمومة دائمة التشكّل وليست صورةً مستكينةً مثاليةً، وهي بالتأكيد ليست “العطاء اللانهائي” ولا “الطبيعة التي تشكلت المرأة على صورتها”، بل تحوّلت الأمومة إلى أداء اجتماعي، وهذا الأداء -كما في حالة الهوية الجنسية والجندرية التي اعتبرتها المحللة جوديث باتلر هوية أدائية- يرتبط بالقيام بمجموعة من الطقوس والسلوكيات والتصريحات اللغوية والإيماءات الجسدية والبناءات الخطابية التي تتم إعادتها بشكل دائم وتأكيدها في المناسبات المختلقة.

لا يعني بناء الأمومة اجتماعياً كدور طبيعيّ على الإطلاق إنكار العلاقة المباشرة وغير المتوسطة بين الأم ووليدها الذي يولد من أحشائها ويتغذّى على دمها تسعة أشهر ثم يمتصّ حليبها وهو ملتصق بحضنها، بل هو رفض اختزال الأمومة في هذا البُعد فقط. والاعتراف بأنّ الأمومة في تركيبتها حالة من التوتر البنيوي الدائم بين صور المرأة كما صُكّت اجتماعيًا، وبين الرغبات الذاتيّة والغرائز الطبيعيّة كالرغبة في الولادة والحمل. بكلمات أخرى الأمومة حالة مُركّبة، لا تستكين لبعد واحد، وهي تتغذى على التوتر الدائم بين “الأنوثة والولادة” وبين الفعالية الجنسية والإخضاع والتضحوية.

قد يكون من المفيد الاطلاع على “التوترات” البنيوية التي تصوغ الأمومة اجتماعياً، وذلك من خلال التمعن تحديدًا بإحدى الصور النقيضة للأم المثالية المتفانية التي نجدها في قصة “الشاطر حسن وأمّنا الغولة”. فالقصة تحكي عن العلاقة المشحونة بين الأم والابن والحبيب، وما يتخللها من صراع مستميت. وبعيداً عن الصورة السلبيّة للمرأة على غرار المجرمة والخائنة، التي تروّج لها الحكاية، فالمهم بالنسبة إلينا يبقى أنّ الحكايا تشي بالتوتر العميق والوجوديّ كما يبدو الذي يتنازع الأمومة ويتشكّل في صراع شديد بين ثدي الإرضاع وثدي الإغراء، كما يتجلى في استحالة المصالحة بين الإغراء والإرضاع، وكما يتجلى في الصراع الأساسي على الأم بين العشيق والابن، وفي موت الأم في حالة تفضيل العشيق، وهو ما يعني عمليًا أنّ وجود الأم يتحول إلى وجود مشروط بالتوتر، وأنّ حل التوتر بالضرورة ينهيها، على الأقل في الحكايات.

الشاطر حسن وأمنا الغولة

يعتبر الشاطر حسن أحد أكثر الأبطال الشعبيّين شهرةً في المجتمع الفلسطيني، وهو في العادة شخص متواضع وذكي جداً ويتخلص من الشرور التي تتربص به بفعل حنكته. وقد تكون من أكثر القصص شعبيةً عنه قصته مع أمه والمارد. تقول الحكاية: إنّ الشاطر حسن كان وحيد الملك، وبعد وفاة أبيه أخذ أمه في رحلة، حيث ركبا الخيل وذهبا في رحلة طويلة. وفي أثناء الرحلة التقيا رجلاً يجلس في مفترق يتشعب إلى ثلاث طرق، فسأله الشاطر حسن إلى أين تؤدي هذه الطرق؟ فأجابه: “هاذي طريق السلامة، وهاذي الندامة، وهاذي طريق تودي ما تجيب”. اختار الشاطر حسن “الطريق اللي تودي ما تجيب”. وعلى الرغم من محاولات الرجل إقناعه بالعدول، فقد رفض ودخل في الطريق حيث وجد هناك مارداً “راسه بالسما وإجريه بالأرض” فصارعه وتمكن منه بعد أن قطع رجليه بالسيف. تضيف الحكاية: إن المارد الذي لم يهزمه أحد من قبل أعطى الشاطر حسن مفاتيح قصره ليعيش فيه مع أمه. لكن الأم تبدأ بمعالجته في أوقات غياب ابنها وتقع في حبه وتتزوجه وتنجب منه، وهو ما يدخلها في خوف شديد منه في حال اكتشف الأمر. تضيف الحكاية إن الأم والمارد يبدآن في حبك المؤامرات من أجل التخلص من الابن. فتقوم الأم بإرساله تارة إلى غابة لا يعود منها من أجل إحضار دواء لها، وتارة أخرى تبعث به إلى بيت غولة مرعبة تقتل أي إنسي وهكذا دواليك. لكن الشاطر حسن وبسبب حنكته وقوته يعود إليها في كل مرة وقد أتى بما طلبته منه. هكذا،  وبعد محاولاتها الفاشلة تقرر الأم أن تتخلص من ابنها بشكل مباشر بأن تأمر المارد بقطع رأسه، وهو ما يتم بالفعل، لكن الأم لا تكتفي بذلك بل تقتلع عينيه وتقطع جسده إلى أربع شقف، وتضعه في صندوق ترميه في البحر. إلا أن صيادين يجدونه ويظنونه كنزاً فيقومون بإرساله إلى ابنة الملك التي بمجرد رؤية الصندوق تقول “عملتها أمك يا شاطر حسن”، وتقوم بتدهين أجزائه بماء الحياة لتعود أجزاؤه وتلتحم ويعود هو للحياة، ويقرر الانتقام من أمه فيقتلها هي والمارد وأبناءها الثلاثة، ثم يتزوج الأميرة في حفل بهيج ويعيش بسعادة معها إلى الأبد.

قد تكون هذه قصةً صادمةً ومثيرةً لهلع الأطفال، ليس لما فيها فقط من قتل وتقطيع أوصال، بل لما فيها من رسائل متناقضة لصور الأم المثالية التي تستوطن عادة الخطابات التربوية التي تحيطهم من كل حدب وصوب وصورة الأم كما يخبرونها بعلاقتهم الحميمية معها في قوقعتهم الدافئة، أي في البيت الذي يضمهما تحت سقف واحد. لكن كونها صادمةً، وخارجةً عن القاعدة وغير معقولة هو ما يعطيها دوراً أساسياً في التأكيد على الطبيعي، بل إن نهاية القصة هي التي ستعطي الطفل شهادة كفالة أنه هو وحده من يملك أمه، وأن الأم التي تتجرأ على الخروج عن هذه العلاقة الحصرية والتملكية تخاطر بخسارة “أمومتها” بالتمام إما من خلال قتلها رمزياً ونزع “الأمومة عنها” ثم بقتلها فعلياً، وحرمانها من دور الأم بشكل تام.

كيف يمكن أن أكتب عن الأمومة إن كنت نصف أمّ بالنسبة للمجتمع؟ ونصف إنسانة بالنسبة للمحتلّ؟

لا يمكن أن نتعاطف مع أم الشاطر حسن فهي خائنة.. إذ خانت ابنها في غيابه وذلك بعشقها ثم زواجها من غريمه المهزوم. الباقي هو تفاصيل لتسمين كرهنا للأم، فهي مجرمة وقاتلة ومتآمرة ولا يمكن لنا أن نتخيل القصة إلا بقتلها بأشنع صورة ممكنة. إذ لا شيء سيعيد للشاطر حسن كرامته ويعوضه عن الخيانة التي تعرض لها غير القتل الطقوسي والفعلي للأم. يحتمل الشاطر حسن الصعاب كلها في سبيل أمه، يطيعها في كل شيء، لكنه لا يحتمل خيانتها، ما الذي كان سيحدث لو قالت الأم لابنها إنها أحبت وعشقت ومارست الجنس؟ الإجابة التي تظهر من رعب الأم من ردة فعل ابنها إذا ما عرف ذلك تشي بأنها كانت تنتظر الأسوأ. هكذا تجد الأم نفسها في حالة لا تحسد عليها لأنها مضطرة إلى أن تختار بين العشيق والابن، ما بين ثدي الإغراء وثدي الإرضاع. وباختيارها للأول تكون عملياً قدمت رقبتها للقتل، فالأم لا تعشق، والأم لا تكون إلاّ إذا كانت أحادية الجانب، وعلى طرف نقيض للساقطة.

ليست صدفةً إذن أن المرأة تتأرجح في مخيال المجتمع بين نقيضي الأم الأنموذج والعاهرة، كما أن الأم التي تبتعد عن دور الأم النموذج “تخاطر” بالاقتراب من صورة المرأة الزانية. هل يعني هذا أن دخول المرأة إلى الثقافة (هل من الضروري أن أضيف الذكورية بامتياز!) لا يتم إلا في اللحظة التي يتم قتلها فيها رمزياً؟! أليس القتل على خلفية شرف العائلة شكلاً واحداً من أشكال الإماتة التي تقتضي تعليم حدود الثقافة في اللحظات التي تكون الإماتة الرمزية غير مجدية؟

المثير في التوتر بين ثدي الإغراء وثدي الإرضاع هو اقتصاد السماح والمنع في كل ما يتعلق بـ”الثدي”. إذ إن كشف ثدي المرأة عارياً على الملأ من غير أن يكون ملتقطاً في فم طفل صغير هو عمل غير مقبول لما له من دلالة جنسية ودور للإغراء، لكن هذا الكشف يكون غير ذي بال في كثير من ثقافات العالم إذا كان مقروناً بأداء وظيفي لـ “المرأة / الأم”، حيث يكون دور الأم مثل الممحاة التي تمحو الجنس والإغراء من المشهد وتحول الثدي المتدلي إلى مجرد عضو في الجسد كاليد أو الرجل أو الشعر.

في بلدي كان من المقبول تماماً أن تقوم المرأة بإرضاع طفلها أمام الرجال من غير أن يكون في الأمر أي مشكلة، وما زلت أذكر بعض النسوة اللاتي كانت أعمارهن لا تتجاوز نهاية العشرينيات يجلسن على حافة الطريق خلال زفة العريس لإرضاع أطفالهن، أو يخرجن أثداءهن في المجالس العائلية للإرضاع دون أن يتخذن أي إجراءات لإخفاء أثدائهن من دون أن يكون في الأمر استهجان أو إثارة. لكنني عندما ولدت طفلتي الأولى كان من المستحيل أن أقوم بذلك، بل كان علي أن أذهب إلى مكان مغلق وبعيد عن الأنظار لأقوم بذلك، إذ إن ما كان طبيعياً في وقت أمي صار عيباً في زماني!  بل إن الثدي المعرّى في فم الطفل صار دلالةً على التخلف والبلادة، وصار أداء الأمومة الصحيحة لا يقوم إلا من خلال قطع العلاقة مع ما ترى فيه العين الغربية “مستهجناً” أو “مثيراً”، وهكذا تمت إعادة صياغة الحدود من جديد بين العيب وغير العيب وبشكل مثير للسخرية من خلال استيراد معناه الغربي! لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا ليس استيراداً غربياً خطياً ذا اتجاه واحد بل بالأحرى هو استيراد لمقولة غربية حداثية فككت مقولة فيكتورية سابقة ونفضتها، إذ يبدو أن الحداثة وما أفرزته من حركات نسوية سعت إلى تفكيك الأمومة وتحويلها نحو التعدد حيث رفضت اختصارها في الثدي/ الطفل، وسعت نحو فصل الثدي عن الأمومة محاولة أن تضع حداً فاصلاً بين الأدوار وبناء هذا الحد عبر الأداء.

لكن المثير هو ما وراء هذا المنع/ السماح، وما فيه من إزاحة وحراك في المعاني، هو بالضبط القول إن الأمومة هي هوية أدائية واجتماعية متغيرة ومتحركة.

للقصص الشعبية ما لها، ولي كيف تخيلت أمي ما لي! ومن طفولتي أيضاً سأحكي كيف تخيلت أمي، ليس من خلال أدائها لدورها بل من خلال أدائي لدورها في لعبة الأطفال المفضلة.

أنا ألعب دور أم

رُغم أنني كنت أحفظ قصة الشاطر حسن وأمه التي تحولت إلى مجرمة ومرعبة، فإني ما كنت أجرؤ على أن أتخيل وجود أم حقيقية مثلها، فقد كانت مجرد خرافة بلا أيّ بعد رمزي. أما الأم الحقيقية فكانت مختلفة تماماً، وكنا نحاول أن نلعب دورها في كل مرة تتيح فرصة غيابها ذلك، لكن الغريب أن صورتها ومن غير أن أقصد كانت تحمل آثاراً من “صور متداخلة” للمرأة الأم والأنثى، مختلفة إلى حد ما عن صورة الأم المثالية التي صورتها صديقاتي في” الفيسبوك”.

أذكر أني وبحكم كوني الأخت الكبرى كنت دائماً أقوم بتمثيل دور الأم، فيما تلعب باقي أخواتي الخمس وأخي الوحيد دور الأولاد. لم تكن اللعبة صعبةً ولا معقدةً بشكل خاص، إذ كل ما كان يتطلبه الأمر هو أن أرتدي ثيابها، وأنتعل حذاءها العالي، وأقرص خدّيَّ ليحمرّا، وأجلس وقد وضعت رجلاً على رجل أوزع الأوامر على الأطفال. وإن لم يكن لعب دور الأم يتطلب براعة خاصة، فإنه لم يكن بالتأكيد يقتصر على ارتداء ثيابها، بل يتطلب بالدرجة الأولى تقليد صوتها ونبرته ورنة كلامها المهددة حيناً والهادئة أحياناً أقلّ، الغاضبة والمستشرسة مرة والهادئة الحريرية مرةً أخرى، كان عليّ أن أقلد نظراتها المتوعّدة والمتعالية ورنة صوتها التي تبدأ خافتة لترتفع حتى تصل قمتها كأنها سيمفونية مع ما يرافقها بالطبع من حركات باليد والأصابع. المضحك في الأمر أن دور الأم هذا لم يكن بالذات انعكاساً لدور أمي الحقيقي، التي لم أرها أبداً تضع رجلاً على رجل حتى لو انقلبت الدنيا، ناهيك عن أن توزع أوامرها على أطفالها ليقوموا بتوفير مطالبها، لكنها كما يبدو كانت “كولاج” متنافراً من صور تلفزيونية لنساء متبرجات ومدللات كنا نشاهدهن في المسلسلات المصرية وصور نساء كنا نصدفهن في مناسبات اجتماعية مختلفة، وقصص عن نساء كنا نسمعها من قريبات وصديقات يداومن على زيارتنا في أوقات الأعياد والمناسبات المختلفة، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض الحركات والجمل التي تحفظ حقوق إبداعها لأمي بشكل حصريّ.

أمّ الشاطر حسن مضطرة لأن تختار بين العشيق والابن، ما بين ثدي الإغراء وثدي الإرضاع. وباختيارها للأول تكون عملياً قدمت رقبتها للقتل، فالأم لا تعشق، والأم لا تكون إلاّ إذا كانت أحادية الجانب، وعلى طرف نقيض للساقطة

هذه اللعبة كانت لا تتم ولا يمكن أن نفكر أصلاً فيها إلا إذا توافر شرط أساسي وهو أن تكون أمي غائبة عن البيت ولساعات طويلة، كأن تكون في زيارة لبيت جدتي البعيد، أو أن تكون قد ذهبت لمدينة طولكرم للتسوق. كنا سبعة، بالكاد يفصل بين كلّ واحد والآخر سنتان، وكانت درجة تحملها لحركتنا تلامس الصفر. هكذا كنا نعشق غيابها عن البيت لنقلب الأدوار، وكنت شخصياً أتمتع بلحظات أسيطر فيها على مصير أخواتي وأخي الذين صاروا الآن أبنائي. وكما أذكر لم يكن من شأن أيّ شيء أن يعكّر مزاجنا ولا أن ينكّد علينا فرحتنا ومتعتنا، غير صوت أمي عائدةً قبل الموعد المتوقع، وهو ما كان يدخلنا في رعب شديد نبدأ بمجرد سماعه أو حتى التقاط ذبذباته بالتراكض مثل المجانين نرتب بسرعة البرق كلّ ما أخرجناه من خزانتها ونعيد النظام إلى نصابه الماضي، حتى إن دخلت لبس كل منا وجه البراءة الطفولية المتوقعة برسم ابتسامة بلهاء على وجهه والانكفاء على الكنبة بأدب مفرط، وهو ما يلعب ضدّنا بدل أن يلعب لصالحنا، إذ إن الأدب المبالغ فيه سرعان ما كان يحرك بداخلها مشاعر الشك فتبادر إلى السؤال: “شو عملتو؟ شو في؟ احكو أحسنلكم”! وقبل أن تكمل سؤالها ينهار أصغرنا باكياً “هن، مش أنا”، ويحلف أغلظ الإيمان بأنه كان ضحية خباثة الأخوات الأكبر سناً وأن أخواته لعبوا لعبة الأم والأب.. رغم أننا لم نلعب إلا دور الأم حقاً! هو -وقد صار شاهد دولة- ينفد بجلده، أما نحن فإما أن يكون حظنا عاثراً ونضرب بعصا الرمان لأننا تطاولنا ليس على ارتداء ملابسها بل لعب دور لا يحقّ لنا أن نلعبه، على الأقل كما تتخيلنا نلعبه، وهو ما سنفهمه عندما سنكتشف لاحقاً أنّ أمي ليست الثوب والشاش الأبيض بل صندوق أسود فيه أسرار مرعبة عن علاقاتها مع أبي التي يمنع منعاً باتاً أن نقترب منها أو أن نتخيلها، فما بالك أن نلعب على حافتها وأن ننام في ظلالها؟

 لكننا حينها، حقاً أردنا أن نلعب دور الأم فقط، إذ إن الأب لم يكن بالنسبة إلينا شخصاً فاعلاً في حياتنا ولا موجوداً بشكل قوي يمكننا من أن نعرف كيف نلعب دوره، ربما كنا سننجح في ارتداء ثيابه والجلوس صامتين ولكن ليس أكثر، حقًا!

كان الأب هو الغائب وإن حضر، إذ نراه عادةً جالساً على طرف السرير يسجل الأرقام ويحسب ويضيف وينقص، ما كان لا يبعث فينا إلا الملل والاستغراب. وبدل دور ممل، أردنا أن نلعب دوراً معروفاً وإن بدا قاسياً، أن نلعب شيئاً نعرفه، آه، كم أردنا أن نكون أمهات! وكم اعتقدنا أننا كنا نتقن دورهن: ألا يكفي أن نصرخ في وجه الأولاد، أن نعاقبهم إمّا بالضرب بعصا أو كفّ على الوجه. أذكر تلك الأيام الآن وأبتسم لأني أتذكر كيف كنت أفرض دائماً على واحد من الأولاد المفترضين أن يكون مساعدي كأم حيث يمكن اختصار دوره بالقيام بالوشاية على بقية “إخوته” وأن يستميت في خدمتي (أنا الأم) وأن ينفذ كل ما يطلب منه بلا أيّ اعتراض، وهو ما كان يسعدني تمامًا، لأني كنت أتجوّل بمساعدته بين دور الأم حيناً ودور الملكة حيناً آخر ودور الرئيسة الحاكمة أحياناً أخرى.

لكنّ أمي لم تكن ملكةً بل كانت امرأةً تعمل بكدٍّ وشقاء، ما بين تنظيف البيت والغسيل والطبخ وتحضير الطعام لبيت جدي وسقاية الشجر وكنس الحواكير. لا أذكرها إلا والعرق يتصبب منها، والغضب يطير من عينيها وهي ترانا نتراكض ونتعارك ونصرخ. كان هذا العرق والتعب ما يحرّض جدي ليقرص أذننا بشكل مستمر لكيلا نخرجها عن “دينها”، وأن نطيعها، لأنّ طاعتها من طاعة الله، فالجنة كما قال الرسول محمد تحت أقدام الأمهات! وبقوله هذا كان يعيدنا إلى صور الأم المتفانية والكاملة.

الجنة تحت أقدام الأمهات

كان جدي ورعاً تقياً لا يترك فرضاً من فروض الدين إلا وعمل به. كان يصلي الفجر في موعده، ويقوم الليل ويؤذن منادياً من على شرفة بيته للصلاة خمس مرات في اليوم، ولا يبخل على سائل مساعدة أو غريب يطلب الزاد. وقد أهلت أخلاق جدي المتسامحة والتقية تحوُّله إلى مرجعية أخلاقية ليس فقط للعائلة بل إلى الأقرباء والجيران والأصدقاء والمعارف الكثر. ولم تكن مشكلة جدية في البلد إلا وكان يُستشار لحلّها ولا قضية مستعصية إلا وعمل على فكفكتها وتذليلها. وعندما كنا نتلفظ أيّ كلمة نابية كان الأطفال يتسابقون ليحكوا له، وهو إن لم يتبع عقاباً جسدياً إلا أنّ معرفته بأنّ سلوكنا لم يكن على مستوى الأخلاق المرادة كان كافياً، كان جدّي الذي تربى في بيت خاله بعد أن توفي أبوه وتزوّجت أمه، لا ينفك يكرّر أمامنا ضرورة طاعة الوالدين، ويكرّر ما نقل عن الرسول من أن “الجنة تحت أقدام الأمهات” ويشدد على حديث الرسول الذي أوصى “أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك”.

طاعة الوالدين إذًا من طاعة الله وغضبهما من غضبه، ولو كان علينا أن نختار من نطيع أكثر لكان علينا ألا نتردد في طاعة الأم، إذ مَن منا لا يريد أن أن يقلل من حمى الغضب الإلهي قدر الإمكان؟ أليس من المؤكد أن تثليث أمك لا بد أن يكون مقروناً بتثليث الثواب وبالتالي تثليث العقاب بالضرورة.

لم تكن مقولات جدي التي حفظناها عن ظهر قلب هي التي تحثنا على الطاعة والمحبة فقط، إذ إن معلمينا كانوا يغرقوننا بمطالب لكتابة مواضيع إنشاء عن الأم والأمومة، فكان كل منا يختار موضوعه الذي يسمح له بأن يستعرض ما استطاع إليه سبيلا من كرم خلق وطاعة وحب للأم. هكذا كنا نغرق في المديح، حقاً نغرق حتى نكاد نختنق من شدة الانفعال والشجن، وكان ما يلفت انتباه المعلم إلى نباهة الطالب هو قدرته بالطبع على الانفعال عند الحديث عن الأمور العاطفية، كالبكاء مثلاً عند الحديث عن الأيتام، أو الصراخ المبحوح الدامع عند إلقاء خطبة عن الوطن المغتصب، وفي حالنا أن تنهمر الدموع عند امتداح الأم وموازنة النغم فينخفض ببطء من العالي نحو المنخفض حتى يصمت… تماماً، على كل علينا ألا نستهين بهذه القدرة على الانتقال السلس من الصوت العالي إلى المنخفض ثم الصمت لأن فيها تكثيفاً لصور متمازجة تم ترديدها عشرات المرات أمام هذا الطفل المنفعل: فيها مقولة جده التي لا يمكن إلا قبولها كما هي عن الأم المثالية، وحكاياه أيضاً عن الثواب والعقاب لمن يعصي الأم، وعذاب القبر ونار جهنم تلوح له مع كل مرة يفكر فيها.

هكذا كانت لنا طفولة مفتوحة على مصراعيها للإصابة بالسخيزوفرينا. محبة الأم وحنان الأم وتفاني الأم، كانت أيضاً الرسائل التي نتشربها في المدرسة، فنجد أنفسنا أيام عيد الأم نغني في احتفالات كرنفالية في المدرسة لأمهاتنا دامعين خاشعين، ونتسابق في كتابة مواضيع إنشائية موغلة في الشاعرية عن الأم… وكان أشدّ ما يجذب انتباهنا اختيار الأم المثالية من قبل المدرسة حيث يتم تتويجها في حفل مهيب أمام كل الأطفال، وأنا بالطبع أكاد لا أذكر أماً مثاليةً اختيرت إلا وكانت أرملة أو مطلقة أو مقعدة، الأمر الذي لم نكن لنجرؤ على التشكيك بصحته أو مدى معقوليته.

كبرت وصرت أمًّا

شكّل دخولي إلى عالم الأمومة مرحلة حاسمة في حياتي، إذ لأول مرة سأختبر تشكل كائن بشري في أحشائي، يكون مني فعليًّا، فيعيش من خلالي وأعيش تسعة أشهر كاملة أنصت لكلّ حركة تصدر، وأنفعل عندما أرى صور “الأولترا ساوند” وأرى النبض، لكني مع ذلك سأشعر بخوف شديد من أنّ هذا الحمل سيغيّر شكلي للأبد. أحياناً كنت أعتقد بأني سأكون بكرش دائمة مثيرة للضحك والاشمئزاز، وأنّ هذه الأمومة ستسرق مني جسدي المتناسق وشبابي إلى غير رجعة. كل نظرياتي النسوية لم تفد في إقناعي بأن عليّ أن أحارب القوة التي تعمل على صياغتي وفق نموذج امرأة متخيل، وغرقت في ألم داخليّ كبير، لم تزدني معه معرفتي النظرية إلا إحباطاً لأني وجدت نفسي أتمزق بين نموذج المرأة “الحديدية” النسوية التي عليّ أن أكونها ونموذج المرأة الأنثى الاجتماعية ورغباتي الذاتيّة في أن أظلّ “دائمة” الشباب، لكنّ كل هذا التوتر تبخر في لحظة واحدة، عندما رأيت وجه ابنتي لأول مرة.

ملفوفة بقماشة بيضاء، قدمتها إليّ الممرضة لأضمها. في هذه اللحظة اجتاحني شعور لا يمكن وصفه بالكلمات: شعور بالكمال.

لم تكن الولادة سهلةً بل جاءت بعد معاناة وصراخ وانتهت بعمليّة قيصريّة، لكنني بالكاد أذكر الألم، كل ما بقي في ذاكرتي صورة طفلة مشعة رائعة، وشعور خارق بل صوفيّ بالتأكيد: كمال لا يُستعاد. لا يمكنني أن أتخيل ما يشبه هذا الشعور الذي تكرر وإن بدرجات أقل في ولادتي الثانية والثالثة.

شكّل تحولي إلى أم فرصةً لإعادة محاسبة الذات في علاقتي مع أمي وإعادة الاعتبار لها كأم، بل أكاد أقول إن أمومة أمي خلقت في اللحظة التي صرت فيها أمًّا. أما قبل ذلك فكانت “أمومة.. إشكالية” فقد كانت مختلفةً بالتمام عن الأم النموذجية، التي أحببتها أن تكون. لكنّ لحظات الحب الصوفيّ ومشاعر الكمال بدأت تخفّ تدريجيًّا، وبدأت تحلّ محلها سريعًا الأم الوظيفيّة التي تمرّ أمومتها بدورها الاجتماعيّ النموذجيّ والتي يحكم عليها بحسب أدائها والتي لا تتلوّن ذكرياتها حول أمومتها بلون الوطن الدامي.

صدف أن صرت أمًّا في الوقت نفسه الذي كنت أحضّر فيه الدكتوراه، وصدف أن أتمّت ابنتي عيدها الأول مع انفجار الانتفاضة الثانية.

أكاد أقول إن أمومة أمي خلقت في اللحظة التي صرت فيها أمًّا. أما قبل ذلك فكانت “أمومة إشكالية”… كانت مختلفةً بالتمام عن الأم النموذجية، التي أحببتها أن تكون

ما هو الوجوديّ والذاتيّ والأنثويّ في ظلّ الموت والقتل؟ لا وقت للتفكير إلا في الأمان. لا وقت للحديث عن التوتر بين الرغبة في الحب والعشق وبين ثدي الإرضاع. لا وقت إلا للخوف من المجهول.

الأمومة تعقد الخوف، تحيله إلى هلع. لم أعد أخشى أن أموت من صاروخ طائش، صرت أخشى أن أموت أنا وأنت من صاروخ أو قنبلة.

في البداية كان الموت بعيداً عن حيّنا، كانت الاشتباكات على حدود المدينة. وبعد أشهر من الاشتباكات اعتدنا أزيز الرصاص وصرنا نعرف الفرق بين أنواعه. وحين كان يشتدّ الأزيز كنت أقنع ابنتي بأنّ هذه ألعاب نارية. لكنّ الأمر تدهور، ومع تدهوره كانت صغيرتي تخطّ أولى خطواتها في المشي والحكي… وكان من أولى الكلمات التي تلفظتها “قثف” (قصف) ثم” طياية” (طيارة)… وأنا التي أردت أن أعلّمها أن تقول فراشة بدل ذلك. تعلمتُ أن الأمومة التي تُصاغ في ظلّ الاحتلال والقمع ليست هندسةً بل مسعى مثابراً لحماية أطفالنا أولاً، وحماية إنسانيتهم رُغم كلّ العنف الذي يرونه، ثانيًا.

لم يكن من الممكن عمل ذلك بسهولة في ظل فيضان العنف، ولا في ظل المخاطر الكثيرة التي صارت تحيطنا جميعاً.

في العام الأول للانتفاضة كنت أعمل محاضرةً في جامعة بيت لحم، وكنت أضع ابنتي عند حاضنة في رام الله، وأضطر إلى تجاوز الكثير من الحواجز والمرور من أماكن مشتعلة في الذهاب والإياب. ناهيك عن الخوف والتوتر الذي يلازمني في كل يوم أخرج فيه للعمل؛ فأكثر ما كان يثير قلقي حين أضع ابنتي في بيت الحاضنة هو إن كنت سأتمكن من العودة إليها في الوقت المناسب، وماذا سأفعل إن تم اجتياح المدينة ووضعها تحت حظر التجول وأنا خارجها؟ ما الذي سأفعله؟ كيف سأصلها؟ كنت أقضي نهاري متوترةً، ولا أهدأ إلا بعد أن أصل إليها، وأطمئن إلى أنّ ابنتي بخير وأمومتي أيضًا.

حين بلغت صغيرتي عامين وبضعة أشهر، حملت من جديد. لكن الانتفاضة أيضاً كانت حبلى بأسباب كثيرة للانفجار. ورغم أنّني أنهيت عملي في بيت لحم وانتقلت للعمل في “بير زيت” بسبب صعوبة التنقل، فإنّ الأمر لم يغيّر كثيرًا من صعوبات الحياة اليوميّة؛ فقد وضع الجيش الإسرائيلي دباباته في الشارع المؤدّي للجامعة، وكنّا مجبرين على قطع الحاجز مشاةً. لم يكن الأمر مثيراً للتعب لكنه كان مصدر توتّر لي، وكان التوتر يصل ذروته في لحظات إطلاق الغاز أو الرصاص، فقد كنت أخشى أن يؤذي الأمرُ الحملَ.

في شباط من عام 2003 جرى اجتياح رام الله، وفي هذا الاجتياح، وصلت الاشتباكات إلى باب بيتي. وسقط شهداء في شارعنا. أزيز الرصاص، رائحة البارود، الهمس وصوت الأرجل التي تتنقل بين السيارات وعلى أسطح المنازل، وكثير من الخوف- هذا بعض ما أذكره.

أما أكثر ما أذكره فهو ابنتي في حضن يرتجف.

ما هذا الصوت ماما؟ سألتني.

إنه ألعاب نارية… أجبتها.

لم تكن ألعاباً نارية بل أزيز رصاص ودويّ انفجارات.

كيف أكون أمًّا وأنا غير قادرة على حماية ابنتي من الموت والخوف؟

ما هذه الأمومة التي لا تستطيع أن تعطي حضناً حنوناً هادئاً؟ لا بدّ أن ابنتي تعي أنّ دقات قلبي متسارعة وأني هائجة، وأني أكذب.

إذًا، ليس فقط الخوف من أن تنهار الدار على رأسنا وأن نحترق ونموت متفحمين، بل أيضاً تأنيب ضمير شديد من أني أمّ فاشلة…

(أكتب ذكرياتي هذه ويدي ترتجف رغم مرور أكثر من عقد من الزمان).

انتهت ليلة الرعب في الصباح… ذهب المقاتلون للنوم، وأنا تركت رام الله وذهبت إلى بيت أمي…

بعد أسبوع ذهبت للعيادة لفحص “الأولترا ساوند”… كنت في شهري الثالث، الجنين ميت…

لقد مات من شدة خوفي!

عود على بدء

كيف يمكن أن أكتب عن الأمومة إن كنت نصف أمّ بالنسبة للمجتمع؟ ونصف إنسانة بالنسبة للمحتلّ؟

يعقّد الاحتلال من أمومة لا ينقصها من التعقيد شيء، وأنا التي أريد أن أعيش الأمومة بوصفها تجربةً غنيةً من التناقض بين الوجودي والاجتماعي، كيف لي أن أفعل ذلك وأنا أعرف أني لم أكن إلا حضناً مرتجفاً لطفلتي ورحماً خانقاً لجنيني؟

هل الأمومة هي مقتلي الإنساني المستديم؟ ما هذه الأمومة التي عليّ أن أعيشها وأنا في حالة دائمة من الشعور بالتقصير؟

أقول أحياناً في ساعة اعترافاتي الحزينة وأنا أحرص ألا يسمعني أحد إنّ كلّ ما سأفعله سيكون غير كافٍ… كلّ ما سأفعله لن يصل إلى ربع توقعات أحد من الأمومة. أختنق من هذا الحديث عن العطاء والكمال، ثم أتذكر الشاطر حسن وأمه المقتولة، وأتمنى لو كان بإمكانها أن تقوم من مماتها لتحكي الحكاية من وجهة نظرها.

ربما كنت سأفهم حينها لماذا قال نبيّنا: “الجنة تحت أقدام الأمهات”… القتيلات.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. شكرا على مقال روعة وتأملات ثاقبة في الامومه…مقابل الكماليات والمثاليات التي نسقطها على الامومة, كم ينقصنا النظر الى هذا الدور من وجهة نظر الام الذاتية, النظر الى واعطاء الشرعية للتخبطات, التساؤلات, الشعور بالذنب (الذي لربما يولد عندنا مع ولادة الطفل) لحظات الاحباط, الانكسار والكره وشتى المشاعر “السلبية” الحياتية التي ترافق واقع الام, والتي نحرِّمها في نظرتنا المثالية لهذا الدور…ونهايةً, يجدر الاشارة ان هذا الفرق بين الواقعي والمثالي المتوقع هو احيانا كثيرة احد الاسباب لكثير من حالات الاكتئاب ما بعد الولادة (اضافة طبعا للعوامل الجسمانية, النفسية والمجتمعية)   

  2. تلك هي الأمّ الحقيقيّة – الإنسانة: ليست عذراء ولا عاهرة، ليست ملاكًا مضيئًا بلا احتياجات، ولا عاشقة تعميها الرغبة عن أمومتها. هي ببساطة إنسانة، وثديها الذي يغذّي ويُشبِع شهوة الحبيب يبقى هو ذاته الثدي الذي يغذّي ويكبّر المولود الغضّ، ورحمها الذي منه تولد الحياة، يبقى دائمًا أجمل رمز للخصوبة في تاريخ البشريّة، عند الحبّ وعند الحرب.ليس هنالك رحم خانق، بل هنالك عالَم خانق، وأحيانًا الجسد أذكى من العقل. ربمّا ليس من الحكمة إنجاب الأطفال في زمن الحرب. الجسد يعرف أنّ الحبّ ما يصنع الأطفال، لا الحرب والخوف. وإلّا فلمَ تزداد نسبة الحمْل إذا تضمّنت الممارسة الجنسيّة نشوة المرأة؟ :)عقلنا في هذا العصر الحضاريّ البائس نسي كيف يجمع بين صورتيْ المرأة الأمّ والعاشقة، لكنّ الجسد لا ينسى، لأنّه لحسن حظّنا يبقى خارج الحضارة، ولأنّه يعرف أنّنا نحن النساء لم نولد لنكن كمريم العذراء، ولن نكون يومًا كأمّنا الغولة. نحن مولِّدات حُبّ يشغّلها الحُبّ. مقالة خاصّة جدًا. شكرًا لأنّكِ كتبتِها. كنتُ في حاجة ماسّة لأنْ أقرأ في هذا اليوم شيئا حقيقيّا، وسط كلّ هذا الابتذال الذي يجرفنا كلّنا إلى حيث لا نجد إنسانيّتنا. كلّ عام والأمّ إنسانة، من لحم ودم وحنان ورغبة ودفء. 

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>